مجلة الرسالة/العدد 491/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 491/الكتب
عبقرية عمر
للأستاذ عباس محمود العقاد
بقلم الأستاذ محمود أبو رية
لما نشرت الصحف أن الأستاذ عباس محمود العقاد قد أجمع النية على وضع كتاب عن (عبقرية عمر) قلنا إنها آية جديدة على بعد إدراكه وسعة عقله ما دام هو بسبيل الكتابة عن العبقرية الإسلامية، فانه ليس أحرى بالدرس والتأريخ بعد رسول الله صلوات الله عليه من عمر. ذلك بأن التأريخ الإسلامي لم يشهد من العدل والحزم وحكمة السياسة والقيام على أمور الرعية بالنصفة والمعدلة مثل ما شهد في عهده، حتى لقد كانت أيامه مضرب المثل الصالح في العدل والإصلاح على مدى التاريخ كله. ولقد اعتز به الإسلام من أول يوم أسلم فيه وظل عزيزاً به طول حياته، ولم يكد ينقلب إلى ربه حتى انقلبت الأحوال وتبدلت الأمور وانبعث بنو أمية بما كان جاثماً في صدورهم من الحقد والشنآن على بني هاشم، فأحاطوا بعثمان واستحوذوا على الملك، وقام الأمر منذ يومئذ على قوة العصبية والغلب، وتصدع البناء الإسلامي الذي كان قد أقيم على الشورى والعدل. وكذلك أخذ داء التفرق الديني واليأس يدب في جسم الأمة الإسلامية حتى أنهك قواها وأذهب ريحها. ولقد صدق علي في قوله يوم موته: (إن موت عمر ثلمة في الإسلام لا ترتق إلى يوم القيامة)
وثم أمر آخر يوجب تقديم هذا الرجل في التاريخ على غيره قد بينه الأستاذ المؤلف في أصدق عبارة فقال: (إن دراسة عمر غنيمة لكل علم متصل بالحياة الإنسانية كعلم الأخلاق وعلم الاجتماع وعلم السياسة، ولم تقتصر مزايا هذه الدراسة على علم النفس وكفى)
ولئن كان مؤلفنا الكبير قد عاجله التوفيق في وضع عمر في مكانه اللائق به في التاريخ، فإنه قد أحسن غاية الإحسان في إنه لم يتخذ في كتابه سبيل من كتب قبله فقال:
(وكتابي هذا ليس بسيرة لعمر ولا بتاريخ لعصره على نمط التواريخ التي تقصد بها الحوادث والأنباء، ولكنه وصف له ودراسة لأطواره ودلالة على خصائص عظمته، واستفادة من هذه الخصائص لعلم النفس وعلم الأخلاق وحقائق الحياة) وإنه لعلى حق فيما نهج لنفسه، لأن طريقة التأليف التي تقوم على سرد الحوادث وإيراد الوقائع وبخاصة إذا كان ذلك قد صار من علم الناس أصبحت من الأمور التي تبعث الضيق إلى الصدر والسأم إلى النفس، ولو أن الأستاذ العقاد كان قد اتبع سنن من قبله الذين يتزيدون من نقل الحوادث بغية الجمع، ويتوسعون بتدوين الوقائع ابتغاء الحشد، فإنه لا يكون قد أربى عليهم بشيء ولا تكون المكتبة العربية قد غنمت منه إلا زيادة كتاب فيها!
كان الناس لا يعلمون بما درسوا من كتب السيرة كل ما يجب أن يعرف عن عظمة هذا الرجل الذي كان (ممتازاً بعمله ممتازاً بتكوينه، وكان وفاء شرط الامتياز والتفرد في عرف الأقدمين والمحدثين من المؤمنين بدينه وغير المؤمنين)
ولئن كان المؤرخون قد أطالوا في سرد تاريخه وأكثروا من بيان أعماله فإنهم لم يصلوا إلى دراسة حقيقة هذه النفس الكبيرة، ولا عرفوا كيف يتغلغلون إلى آفاقها الواسعة ومراميها البعيدة، وهذا لعمرك هو الفارق بين الكتاب الذي لا يرعف قلمه إلا مداداً يسيل على الصحف سطوراً سوداء وبين الكاتب الملهم الذي ينبثق من قلمه نور يشق الحجب لينفذ إلى ما وراءها، ويمزق الغلف ليصل إلى خفاياها
إن أظهر صفة لعمر قد أشاد التاريخ بها وحفظها له رائعة جليلة هي صفة (العدل)، وعلى أنك ترى أصحاب السير قد ملئوا بطون الأسفار من الأنباء التي تثبت هذه الصفة وتدل عليها، فإنك لا تجد أحداً منهم قد هدى إلى إظهار حقيقة هذا العدل العمري، ولا استطاع أن يصل إلى كنه أسبابه حتى يعلم الناس كيف امتاز عدل عمر من عدل غيره فبلغ به ما لم يبلغ سواه من الثناء والإعجاب ما دام يجري على وجه الأرض حكم، ولكنك لو رجعت إلى كتاب (عبقرية عمر) لوجدته قد وقفك على مرد هذا العدل وكشف لك عن أسبابه فيقول: (إن له روافد شتى بعضها من وراثة أهله، وبعضها من تكوين شخصه، وبعضها من عبر أيامه، وبعضها من تعليم دينه، وكلها بعد ذلك تمضي في اتجاه قويم إلى غاية واحدة لا تنم على افتراق). ولا يدعك على هذا الإجمال بل يفصل لك القول عن هذه الروافد حتى تصير وملء نفسك الإعجاب والرضا
ولا يكتفي بدرس هذه الصفة بل يمضي في استقصاء دراسة سائر خلائقه وصفاته فيقول:
(إن خلائقه الكبرى كانت بارزة جداً لا يسترها حجاب؛ فما من قارئ ألم بفذلكة صالحة من ترجمته إلا استطاع أن يعلم أن عمر بن الخطاب كان عادلاً وكان رحيماً وكان غيوراً وكان فطناً وكان وثيق الإيمان عظيم الاستعداد للنخوة الدينية). وبعد أن يحدثك بأن هذه الصفات مكيفة فيه وأنها تتجه (إلى جهة واحدة، ولا تتشعب في اتجاهها طرائق قدداً كما يتفق في صفات بعض العظماء). وأن هذه الصفات يتمم بعضها بعضاً (حتى كأنها صفة واحدة متصلة الأجزاء متلاحقة الألوان) يمضي فيقول: (وأعجب من هذا التوافق بين صفاته أن الصفة الواحدة تستمد عناصرها من روافد شتى ولا تستمدها من ينبوع واحد، ثم هي مع ذلك متفقة لا تتناقض متساندة لا تتخاذل كأنها لا تعرف التعدد والتكاثر في شيء)
وهل تراه يقف بك عند هذا الاستقصاء البعيد أو يقنع بما قدمه من بحث ليس وراءه من مزيد؟ إن فلسفته لتأبى عليه إلا أن يمعن في الاستيعاب ويبالغ في الدرس فيقول (وما العدل والرحمة والغيرة والفطنة بغير الإيمان الذي هو الرقيب الأعلى فوق كل رقيب، والوازع الأخير بعد كل وازع، والمرجع الذي لا مرجع بعده لطالب الإنصاف) (إن إيمان عمر هو الضابط الذي يسيطر على أخلاقه وأفكاره، كما يسيطر على دوافعه وسوراته) ثم لا تدعه فلسفته العميقة حتى تظفره بسر لم يهتد إليه أحد من قبل ذلك هو (مفتاح الشخصية العمرية) ذاك الذي عرفه الأستاذ العقاد بأنه (السمة التي تميزه بين العظماء حتى في الإيمان، وسيطرته على الأخلاق والأفكار والدوافع والسورات، فإن الإيمان ليقوى في نفوس كثيرات ثم تختلف آياته وشواهده باختلاف تلك النفوس. . . والذي نراه أن (طبيعة الجندي) في صفتها المثلى هي أصدق مفتاح (للشخصية العمرية) في جملة ما يؤثر أو يروى عن هذا الرجل العظيم)
ولم يستأثر بهذا المفتاح بل تناوله بيد ماهرة وفتح به مغاليق هذه النفس الكبيرة ليبين للناس بقلمه البليغ خصائص عظمتها وما استفادت الحياة منها مما يجعلك تشهد مقراً بنفاذ بصره وقوة ذهنه
وبحسبك أن تراه لا يتولى ناحية من نواحي هذه العظمة إلا أتى على أطرافها وأحاط بجميع أكنافها، ولا درس جانباً من جوانبها إلا هتك من سره، وأظهر المكنون من أمره
ولا نذهب نستزيد في بيان ما اشتمل عليه كتاب (عبقرية عمر)، لأن ذلك يحتاج إلى مقالات مستفيضة، وإنما نجعل كلمتنا دالة تشير إلى جملة هذا الكتاب دون تفصيله، فإذا لم يكن فيها كل البيان عنه فليكن فيها شيء من دليله
ولعل هذه اللمحة تبين موضع هذا الكتاب الممتع الذي صور فيه العقاد عبقرية عمر أصدق تصوير وسايرها من إسلامه إلى عمله في الدولة ومعاملته للرسول وأصحابه، ثم ما كان عليه من ثقافة وغير ذلك مما لا تجد مثله في كتاب قبل اليوم
ولئن كان العقاد قد كشف بكتابه هذا عن عبقرية عمر وجلاها للناس في أروع مظهر وأبلغ بيان، فإنه قد أثبت العبقرية لنفسه في هذا الكتاب الفريد حتى لا يكاد يختلف في ذلك اثنان.
(المنصورة)
محمود أبو رية