مجلة الرسالة/العدد 490/دفاع عن البلاغة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 490/دفاع عن البلاغة

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 11 - 1942


2 - دفاع عن البلاغة

البلاغة بين الطبع والصنعة

البلاغة كسائر الفنون طبيعة موهوبة لا صناعة مكسوبة. فمن حاول أن ينالها بإعداد الآلة وإدمان المزاولة وطول العلاج وهو لا يجد أصلها في فطرته، أضاع جهده ووقته فيما لا رجع منه ولا طائل فيه. قال أبو العباس المبرد: (إنه ليس أحد في الخافقين من يختلج في نفسه مسألة مشكلة إلا لقيني بها وأعدني لها؛ فأنا عالم ومتعلم وحافظ ودارس لا يخفى علي مشتبه من الشعر والنحو والخطب والرسائل، ولربما احتجت إلى اعتذار عن فلتة، أو التماس حاجة، فأجعل المعنى الذي أقصده نصب عيني، ثم لا أجد سبيلا إلى التعبير عنه بيد ولا لسان. ولقد بلغني أن عبيد الله ابن سليمان ذكرني بجميل فحاولت أن أكتب إليه رقعة اشكره فيها، فأتعبت نفسي يوماً في ذلك فلم أقدر على ما أرتضيه منها. وكنت أحاول الإفصاح عما في ضميري فينصرف لساني إلى غيره)

ذلك اعتراف صادق من أبي العباس يقصد به توجيه الحائر إلى التوفر على ما يحسن، وتنبيه المغرور إلى الانصراف عما يسيء

الناس كلهم يتكلمون ولكنهم ليسوا جميعاً خطباء؛ والمتعلمون كلهم يكتبون ولكنهم لا يستطيعون أن يكونوا كلهم بلغاء؛ والرسم مادة مقررة في مدارس الدنيا ولكنها لا تخرج في كل حقبة غير رفائيل واحد. والموسيقيون ألوف في كل أمة، ولكن الذين يستطيعون أن يؤلفوا رواية غنائية نفر قليل.

والمعضل من الأمر تعرف الطبع الأدبي في صاحبه إبان التنشئة، فقد تكمن العبقرية في الفنان حتى يبلغ الأربعين، كما حدث للنابغة الذبياني في الشعر، ولجان جاك روسو في الكتابة. وقد يجر كمون الطبع في سن التوجيه إلى الخطأ في استغلال المواهب، فيتعلم المرء علماً أو يعمل عملا وهو بطبعه مخلوق لغيره؛ فبيير لوتي خُلق أديباً كاتباً ولكنه دفع إلى البحارة؛ وعلي طه خلق أديباً شاعراً ولكنه دفع إلى الهندسة، وحافظ عفيفي خلق مصلحاً اجتماعياً ولكنه دفع إلى الطب؛ فلو أن هؤلاء العباقرة نشئوا على مقتضى الطبع والاستعداد منذ الحداثة لكان نبوغهم أتم ونفعهم أعم ونتاجهم أوفر

وقد يخدع المرء عن طبعه فيظن نفسه كاتباً وهو معلم، أو فيلسوفاً وهو صوفي، أو مؤرخاً وهو صحفي، أو شاعراً وهو عروضي، أو ناقداً وهو هجاء، أو قصصياً وهو حكاء، أو وصافاً وهو محلل

وللخيال إذا امتد سراب يخدع الظمآن إلى المجد والشهرة؛ فقد يستهوي الناشئ وميض الهالة من حول العبقرية الفنانة فيسول له الغرور أن يقرض الشعر، أو يقص القصص، أو يدير الحوار، أو ينشئ المقالة، فينبهر في أول الشوط وينبت في بداية الطريق

قد تحب الأدب ككل إنسان؛ ولكن حبك الشيء ليس دليلا على قوة استعدادك له، فقد يكون ذلك من تأثير البيئة وتغرير الخلاط. وربما كانت نقائص المرء أحب خلاله إلى نفسه؛ فالإمام مالك بن أنس دفعته بيئة المدينة اللاهية إلى أن يتتبع في صباه المغنين يأخذ عنهم حتى صرفته أمه عن الغناء إلى الفقه فصار فيه إمام الأئمة

على أن الطبع والقريحة لا يغنيان في البلاغة عن الفن. وربما كان فيهما ذلك الغناء في العصر الجاهلي وصدر الإسلام حين كانت الأهواء صادقة والأخلاق صريحة والحياة بسيطة؛ أما وقد زيف الصادق وشيب الصريح وركب البسيط، فلابد من حذق الصناعة وهدى القواعد لمعالجة ذلك، كالمسايفة، كانت في أول أمرها سهلة يستعمل فيها السائف سيفه كما يستعمل الواكز يده؛ فلما كثرت فيها الحيل وتعددت الوجوه أصبحت فناً له قواعد وأصول لابد أن يراعيها المسايف وإلا هلك. وإذا كانت القواعد هي النتائج التي استنبطتها الأذهان القوية من وسائل الطبيعة وطرقها على طول القرون، فإن الشأن في البلاغة يجب أن يكون هو الشأن في سائر الفنون التي اخترعتها الغريزة وأصلحتها التجربة ورقاها المران

فعلم البيان إذن هو الجزء النظري من فن الإقناع والبلاغة هي الجزء العملي منه: هو ينهج الطرق وهي تسلكها، وهو يعين الوسائل وهي تملكها، وهو يرشد إلى الينبوع وهي تغترف منه

إن القواعد البيانية لم يضعها الواضعون إلا بعد أن رجعوا إلى أصول الأشياء ودرسوا علاقتها بالنفس والحس، وعرفوا نتائج هذه العلائق من الألم واللذة، ثم استخلصوا من تجارب العصور المستنيرة النتائج الصحيحة، ثم صاغوها قواعد وقالوا إنها أمثل الطرق لإحسان العمل دون أن يخضعوا قريحتك لها، ولا أن يسمحوا لهواك بالخروج عنها، فإن بين الاستبداد والفوضى نظاماً هو أحق أن يؤثر ويتبع

كذلك الذوق - وهو أداة الجمال كما أن العقل أداة الحق - لا يمكن أن يكون بغير القواعد طريقاً مأمونة إلى عمل من أعمال الأدب؛ فأنه موهبة طبيعية تختلف في الناس وفي الأجناس، وتحتاج إلى المران بالدرس والعادة، وليس له ما للعقل من سلطان واطمئنان وثبوت. وإنك لتجد في الناس العقل المطلق المستقل الذي لا يختلف ولا يتغير، لأن هناك حقيقة مستقلة تتميز بالوضوح والخلوص، ولكنك لا تجد مهما استقصيت واستقريت ذلك الذوق المطلق المستقل الذي لا يختلف باختلاف الألوان والأزمان والأمكنة. وفي الأقوال المأثورة: لا جدال في الذوق. لذلك لا نستطيع أن نطلقه في الأدب حتى لا تكون الفوضى، ولا نقيده بالقواعد حتى لا يكون الجمود.

أحمد حسن الزيات