مجلة الرسالة/العدد 49/المارد الأناني
لترجمات أخرى، أنظر المارد الأناني
لأوسكار وايلد
ترجمة عبد القادر صالح
أوسكار وايلد من أبرز رجالاتِ الأدب الإنجليزي في القرن التاسع عشر، نعم في حياته يما لم ينعم به الكثيرون من مشاهير الأدب: شهرة واسعة وحسن تقدير مصحوب بالحب والإعجاب. ولكن الدهر الذي لا يستقر على حال قلب له ظهر المجن في الشطر الأخير من حياته، فقاسى من الهوان والفاقة ما حطم جناحيه، وطمس عبقريته، فمات شريداً طريداً في باريس.
ولد أوسكار وايلد من أبوين إرلنديين في سنة 1854 في دبلن حيث قضى سني دراسته الأولى، فورث عن أبيه الدكتور (ويليام وايلد) إفراطه في الميل الجنسي، وعن أمه ميلها للفن، فقد كانت شاعرة نائرة، لها مكانتها.
أتم دراسته في أوكسفورد؛ وهنالك أعجب بالآداب اليونانية والحياة اليونانية القديمة التي أوحت إليه مذهبه في الأدب، وهو: الفن للفن. وفي أوكسفورد نما فيه ميله الجنسي الشاذ، الذي كان الصخرة التي تحطم عليها مجده
اشتهر (أوسكار) منذ أيام دراسته الأولى بطلاوة الحديث ورقة المداعبة، يعبد الجمال ويمقت القبح؛ لم يتحدث إلى إنسان إلا وود المحدث إليه أن لو يعيد أوسكار الأحدوثة من أولها. فشهرته في الدرجة الأولى ترتكز على طلاوة حديثه وظرفه، ثم على أدبه، ولا سيما رواياته التمثيلية وقصصه البديعة.
ترجمت في (الرسالة) قطع من كتابات هذه الشخصية العجيبة التي كانت تفتخر البيوتات الأرستقراطية في إنجلترا بزيارته لها. وهأنذا أترجم لقراء الرسالة قطعة أخرى من غرر ما كتب، تتجلى فيها روح الكاتب بأجلى بيان. على أنني تصرفت في ترجمة بعضها تصرفاً قليلا:
حديقة غناء، مترامية الأطراف، يكسوها العشب الأخضر الغض، ويزيد في جمالها ما يبدو فوق الحشائش هنا وهنالك من الزهور الشبيهة بالنجوم. فيها اثنتا عشرة شجرة من الخوخ، تزهر في الربيع أزهارها البهية، وفي الخريف تنوء بحمل ثمرها اليانع.
تلك الحديقة هي جنينة المارد التي اعتاد الصبية أن يلعبوا فيها بعد ظهر كل يوم إثر انتهاء وقت المدرسة. وكثر ما كان أولئك الصبية يقفون ألعابهم ليصغوا إلى أغاريد الطيور العذبة التي كانت تنبعث من بين الأغصان. ولكم كان يخاطب بعضهم بعضاً: (ما أسعدنا هنا!)
عاد المارد من زيارته لصديقه عفريت (كورنول) التي استغرقت سبع سنوات تحدث فيها إليه بما طاب له من الحديث. فلما قدم إلى قصره ورأى الأطفال يلعبون في الحديقة انتهرهم قائلاً: (حديقتي! حديقتي! كل فرد يستطيع أن يفهم ذلك، ولن أسمح لأحد أن يلعب فيها). فلاذ الأطفال بأذيال الفرار.
وعلى أثر ذلك أحاط الحديقة بسور عال علق عليه لوحة أعلن فيها أن كل من ينتهك حرمة حديقته بدخوله إليها يحاكم. فكان بذلك مثال المارد الأناني.
لم يكن للصبية مكان يلعبون فيه. حاولوا أن يلعبوا في الطريق، ولكنها كانت مملوءة بالحجارة القاسية والتراب، فلم ترق لهم؛ فصاروا يطوفون بجدران الحديقة آسفين على تلك الأيام السعيدة التي قضوها فيها.
ورد الربيع وأخذت الأزهار تشقق عن أكمامها، والطيور تغرد على الأفنان في طول البلاد وعرضها. ولكن الشتاء ما زال ضارباً بجرانه فوق جنينة المارد الأناني. فقد أنفت الطيور أن تغرد على أشجارها والأطفال بعيدون عنها، ونسيت الأشجار أن تزهر.
نجمت زهرة من بين الأعشاب اتفاقاً، فلما رأت الإعلان أسفت لما حل بالصبية فعادت أدراجها الى بطن الأرض. ولم ينعم بتلك الجنينة في غياب الأطفال سوى الثلج والصقيع اللذين استبشرا قائلين: (هجر الربيع هذه الجنينة وسنتمتع بها طيلة السنة.)
غطى الثلج أعشابها ببساطه الأبيض، وصبغ الصقيع الأشجار بصبغة الفضة. وما لبثا أن دعوا (الريح الشمالية) لتشاطرهما الإقامة في تلك الحديقة فلبت الريح الدعوة مزملة بالفراء، وأخذت تزأر طيلة النهار فتقتلع المداخن وتطوح بها.
(هذه بقعة جميلة. فلندع البَرَد إلى زيارتنا.) وسرعان ما لبى (البرد) الدعوة فصار يقارع سطح القصر ثلاث ساعات متتاليات يومياً ثم يجري بعد تحطيم كثير من البلاط حول الجنينة مزبداً.
(لا أدري لماذا تأخر قدوم الربيع: على أين وطيد الأمل بأن الجو سيتغير). بمثل هذا كان يتحدث المارد إلى نفسه لما طال انتظاره للربيع ولكن الربيع ظل على هجرانه وتمادى الصيف في صده.
قدم الخريف وأينع ثمر الأشجار في كل الجنائن المجاورة. لكن جنينة المارد ظلت خلواً من الثمر لأنانيته. ترقص خلال أشجارها الثلوج والأمطار، وتعبث بها الريح الشمالية والصقيع.
استيقظ المارد صباح يوم على موسيقى عذبة، خيل إليه من حسن وقعها في نفسه، أنها فرقة الملك تصدح مارة بقصره. ولم تكن في الواقع سوى ألحان طائر صغير يغرد خارج نافذته، حمله طول عهده بأغاريد الطيور في جنينته على الاعتقاد بأنها أعذب موسيقى في العالم.
وقفت الأمطار وسكنت الرياح الشمالية وأخذت النسائم تحمل إليه ريا عطرا خلال نافذته المفتوحة، فتمتم قائلاً: (ها هو الربيع قد قدم.) نهض من فراشه وأطل من النافذة. فماذا رأى؟ منظراً عجباً.
رأي الأطفال الذين قد تسللوا من ثغرة في الجدران جلوساً على أغصان الأشجار. كل شجرة تضم بين أغصانها طفلا. فكأنها اغتبطت بمرآهم فتفتحت أزهارها ومادت أغصانها فوق رؤوسهم، وكانت العصافير تحوم حولهم تشقشق شقشقة الفرح. وصارت الزهور تتسابق للظهور من بين الأعشاب ضاحكة. لكن الشتاء ما زال ماثلاً في أبعد نقطة من الجنينة حيث وقف طفل صغير لم يساعده قصره على تسلق أغصان الشجرة القريبة منه. فأخذ يدور حولها وهو يبكي أمر بكاء. عز على الشجرة أن تظل مغطاة بالثلج، وأن تظل الريح تصفر فوقها فأخذت أغصانها تدنو من الطفل وأفنانها تتدلى، ولكنه لم يستطع تسلقها لفرط قصره.
ملئ قلب المارد حناناً وهو ينظر إليه فثاب إليه رشده وأخذ يقول: (ما كان أشد أنانيتي!) الآن أدركت سبب تأخر الربيع. سأضع ذلك الصبي الصغير على قمة الشجرة وسأهدم السور (وستصبح حديقتي ملعباً دائماً للأطفال.)
هبط الدرج ودخل الحديقة بلطف، فلما رآه الصبية ذعروا وفروا. فعاد الشتاء إلى الجنينة. غير أن الطفل الصغير لم يفر. لان عينيه كانتا مغرورقتين بالدموع فلم يرد المارد عند قدومه.
أتاه المارد من خلفه وأمسك به برفق ثم وضعه فوق الشجرة فاستحالت إلى أزاهير جميلة، وتهافتت العصافير لتغرد عليها، فتح الطفل ذراعيه من شدة الفرح وطوق بهما عنق المارد ثم قبّله، فلما رأى الأطفال الآخرون ان المارد فقد فظاظته عادوا إلي الحديقة سراعاً وعاد معهم الربيع، فهش المارد إليهم، وخاطبهم بقوله: (هذه جنتكم أيها الأطفال الصغار) ثم أخذ بمعوله الكبير يقوض الجدار.
ظل الأطفال يلعبون مع المارد في حديقته البديعة حتى المساء فأتوا يودعونه (ولكن أين رفيقكم الصغير الذي وضعته فوق الشجرة؟). فأجابه الأطفال: (لا نعرف. لقد ذهب) (احرصوا على مجيئه غداً). فأخبروه بأنهم لا يعرفون مسكنه وانهم لم يروه قبل ذلك اليوم، فحزن المارد حزناً شديداً لأنه أحب ذلك الطفل الذي قبّله حباً جماً.
صار الأطفال يأتون كل يوم بعد الظهر ويلعبون مع المارد، لكن الطفل المحبوب لم يُرَ ثانية، كان المارد لطيفاً معهم جميعاً ولكنه ما زال يحن الى صديقه الطفل الصغير، وكثيراً ما كان يذكره قائلاً: (ما أشد شوقي لرؤيته!)
تعاقبت السنون وشاخ المارد وضعف، فلم يقو على اللعب، ولذا كان يجلس في كرسيه يرقب الأطفال وهم يلعبون معجباً بهم وبجنينته:
(لدى زهور جميلة، ولكن لا ريب في أن هؤلاء الأطفال أجمل أنواع الزهور) أطل صباح يوم ماطر من نافذته وهو يرتدي ثيابه، فأخذ يمرس عينيه وينظر فيطيل النظر كأنما وقعت عيناه على شيء عجيب، ولقد كان عجيباً حقاً. رأى من طرف من أطراف الحديقة النائية شجرة مكتظة بالزهور، يتدلى من أغصانها الذهبية ثمرها الفضي، ورأى تحتها الطفل الذي أحبه.
هرول إلى الجنينة مسرعاً، فلما دنا من الطفل صعد الدم إلى وجهه، واحمرت عيناه غضباً، إذ رأى راحة الطفل دامية (من نجاسر أن يجرحك؟ اخبرني لكي أذبحه بسيفي الكبير.)
فأجابه الطفل (لا. هذه جراح الحب!) فاستولى على المارد خوف غريب، ثم جثا أمام الطفل قائلاً: (من أنت؟) فأجابه الطفل مبتسماً:
(سمحت لي أن ألعب مرة في جنينتك، والآن ستذهب معي الى جنينتي التي هي الفردوس) تراكض الأطفال بعد الظهر كعادتهم فوجودا المارد الميت تحت الشجرة مكفناً بالزهور البيضاء.
نابلس
عبد القادر صالح