مجلة الرسالة/العدد 49/الأثر اليوناني في الأدب العربي
مجلة الرسالة/العدد 49/الأثر اليوناني في الأدب العربي
للأستاذ فخري أبو السعود
كانت الثقافة اليونانية خلاصة ثقافات البحر الأبيض القديمة: لأنها إلى جانب ما استوعبته من الحضارات الشرقية تمثل نتاج العقل اليوناني الذي كان أخصب عقل ظهر في العصر القديم. فلما مضى ذلك العصر
ودالت دولة اليونان وكان العصر الوسيط كان العرب هم السابقين إلى التعرف بالثقافة اليونانية فأخذوا من علوم اليونان وفلسفتهم، ثم تعرف الأوربيون بعدهم بتلك الثقافة في عهد النهضة، وأوسعوا علوم اليونان وفنونهم دراسة ونقلا ومحاكاة. فأغنوا بذلك علومهم وفنونهم الناشئة وشادوا على ثقافة اليونان صرح حضارتهم الحديثة.
بيد أن الذي يسترعي النظر أن العرب حين اتصلوا بثقافة اليونان اقتصروا على اقتباس بعض علومهم وفلسفتهم دون الآداب والفنون، فدرسوا أر سطو وأفلاطون، وعرفوا أبقراط وفيثاغورس، ولكنهم أهملوا هوميروس وسوفوكليس وأوربيدس، على حين لم يفرق الأوربيون بين ناحية من نواحي الحضارة اليونانية وناحية أخرى، بل أكبو على دراسة الجميع، وبينما تقدمت علومهم على مر العصور عن علوم اليونان أشواطاً بعيدة واستغنت عن معينها ظلت الآداب والفنون اليونانية مرجعاً دائماً للآداب والفنون الأوربية ومهبط وحي لا يفنى، ولم ينفك كتاب الغرب وشعراؤه إلى اليوم عن تمجيد الثقافة اليونانية والحث على الرجوع إليها دائماً، فما السر في اختلاف موقف العرب عن موقف الأوربيين حيال تراث اليونان؟
السر راجع إلى سليقة العرب المطبوعة على البيان، المفطورة على فصاحة اللسان، فان العرب نظراً لبيئتهم البدوية وحياتهم المتنقلة لم يكن لهم سوى السان أداة للتعبير عن شعورهم الفياض، فلم يكن التصوير ولا النحت ولا غيرها من الفنون ليزكو في بيئتهم تلك، ومن ثم تأصلت في العرب سجية البلاغة وارتقت بينهم مرتبة البلغاء وتوطدت لغتهم ونضج أدبهم وهم على بداوتهم وقلة حظهم من الحضارة، وكان لهم بعصبيتهم ولغتهم اعتداد شديد، فلما نهضت دولتهم بظهور الإسلام ودخلت الأمم في طاعتهم ودينهم أفواجاً ازدادوا اعتداداً بعربيتهم ولغتهم وشعرهم وقرآنهم المبين، فلم يكن في نفوسهم حافظ إلى الاطلاع على آداب غيرهم ولا لديهم رغبة في التتلمذ لسواهم، بل كانوا يرون أنفسهم هم الأجدر أن يحبذوا ويؤخذ عنهم، ولقد أخذ كثير من الأمم المفتوحة لغتهم واصطنعوا أدبهم بالفعل، وأصبح الناشئون في الأدب من أبناء الأجيال التالية لا يرون أن شيئاً يوصل إلىنيل الفصاحة والحكمة وحذق الأدب وراء دراسة القرآن واستيعاب شعر فحول المتقدمين، وإنما كان العرب أميل إلى الاعتراف بالقصور وإظهار الرغبة في الأمور التي لم يكن لهم فيها إلى ذلك الوقت باع ولا يد كالعلوم والفلسفة، فلم يروا ضيراً في أخذها على أساتذة اليونان.
ولم يقتصر أثر اعتداد العرب بأدبهم وشعرهم على ذود الأدب اليوناني عنهم، بل ذاد عنهم غير الأدب من الفنون: فلقد اطلعوا في أطراف دولتهم وبلاد جيرانهم على ما كان لدى اليونان والرومان والفرس والمصريين من تصوير ونحت، فما خطر لهم أن يحاكوا شيئاً من ذلك، وكان كل ما يساور شاعرهم حين يشاهد أثراً من هاتيك الآثار أن يتمثل بطش الدهر وحلول الفناء وسقوط الجبابرة فيقول:
أين الذي الهرمان من بنيانه؟ ... ما قومه؟ وما يومه؟ ما المصرع؟
تتخلف الآثار عن أصحابها ... حيناً ويدركها الفناء فتتبع
وما ذاك إلا لانصراف كل قوى العرب الفنية إلى ضرب واحد من الفنون هو الأدب واستغراقها فيه. فهي لا تحاول وسيلة أخرى سواه للتعبير عن نفسها، ومن ثم ظل العرب طوال عصورهم لا يعرفون من الفنون سوى الأدب والموسيقى المعتمدة عليه المرتبطة به ارتباطاً وثيقاً، فلا تصوير ولا نحت ولا تمثيل، اللهم إلا ذلك الضرب الوحيد من الزخرفة ذات الأغراض العملية المحضة، ومن الخطأ نسبة انعدام تلك الفنون بين العرب إلىالدين: ففضلا عن أن الدين لا ينافي شيئاً منها فانه لم يحل دون استمتاع العرب بالموسيقى وغيرها حين أرادوا.
فالعرب إذن اتصلوا بالثقافة اليونانية في غير الوقت الملائم: في وقت متأخر، كان أدبهم فيه قد نضج وقوى، وصار له من الاعتداد بنفسه ما يثنيه عن التتلمذ لغيره، أما الآداب الغربية فعرفت تلك الثقافة في عهد طفولتها ونشأتها، وهي لما تزل عاجزة تعترف بعجزها وتتلهف إلى المعرفة حيث وجدتها، فلم تتردد في الانتفاع بتراث اليونان إلى أبعد حد، فأثرت أيما إثراء بما أخذت عن اليونان من المواضيع والأشكال الأدبية، ومد الأدب اليوناني أمامها آفاق التفكير الواسعة وآماد المثل العليا وصور الجمال المختلفة، ووجدت في تاريخ اليونان وأدبهم وأساطيرهم ومنتجات فنونهم من صور وتماثيل وآثار منادح للكتابة والدرس والنظم، ومنابع للوحي لا تنضب.
فلا غرو أن طفرت تلك الآداب الغربية التي لم تكد في عهد النهضة تكون شيئاً مذكوراً، والتي كانت لغاتها ذاتها ما تزال في طور التكوين، فإذا هي بعد قرون ثلاثة أو أربعة تسبق الأدب العربي وهو أعرق منها محتداً وتفوقه اتساع آفاق وتعدد مواضيع، لأن الأدب العربي الذي م يكد يستفيد بأدب أمة أخرى ظل في مكانه جامدا يكرر نفسه ويعيد على نفسه الأبواب عينها التي جال فيها المتقدمون من فخر ورثاء ومدح وهجاء، حتى إذاكان العصر الحديث إذاهو يقف من الآداب الغربية موقف التتلمذ والتلقن.
ان تمكن ملكة البيان من العرب - مما جعلهم لا يدينون إلا لنبي يأتيهم بكتاب معجز، وجعل خلفاءهم يتخذون وزراءهم من أئمة البيان - واعتدادهم بأدبهم واستغراق مجهودهم الفني فيه وحده، هذا كله في مجموعة كان عاملا شامل الأثر بعيده في تاريخهم وأدبهم، ولقد كان أثره فيما يتعلق بالتراث اليوناني بليغ الضرر، فخسر العرب خسارة كبيرة بإغفال الأدب اليوناني الحي على توالي العصور، الشديد الإيحاء القوي التأثير، الذي كان بلا ريب أغنى من أدبهم. ولو لقح به الأدب العربي لاتسعت جوانبه وانصرف عن تلك الأغراض العلمية التي احتبس فيها إلى عوالم الفن الخالص وتغير مجرى تاريخه وأفاد العرب بذلك أضعاف ما أفادتهم دراسة الفلسفة اليونانية.
ونحن اليوم بدراسة الآداب الغربية والأخذ عنها بطريق غير مباشرة عن تلك الثقافة اليونانية، وندخل في أدبنا ذلك العنصر اليوناني الذي لابد منه لكل أدب يريد له مكاناً بين الآداب العالية، وإذا وقف شاعرنا العصري أمام الأهرام فلم ينصرف ذهنه إلى بطش الدهر بالجبارين الذين أعلوها ولم يتنبأ لها باللحاق بهم، بل حيا فيها الفن وعظم قدرة الإنسان وقال:
أهرامهم تلك حي الفن متخذاً ... من الصخور بروجا فوق كيوان
لم يأخذ الليل منها والنهار سوى ... ما يأخذ النمل من أركان ثهلان فما ذاك إلا لأننا قد تأثرنا بتلك الروح اليونانية التي تعظم الفن الخالص في مختلف صوره وتمجد قدرة الإنسان في مصارعتها للفناء، تلك الروح التي كان أغفلها أجدادنا العرب.
فخري أبو السعود