مجلة الرسالة/العدد 49/ابن الهائم المصري المقدسي
مجلة الرسالة/العدد 49/ابن الهائم المصري المقدسي
للأستاذ قدري حافظ طوقان
كنت في القدس مع بعض الإخوان في زيارة المعرض العربي الثاني، وبينما نحن على مقربة من مقبرة مأمن الله سمعت أحدهم يقول: ان هذه المقبرة تضم عدداً كبيراً من فحول العلماء، وكبار الفقهاء ورجال الدين، ممن ظهروا في أيام الحروب الصليبية وقبلها. وقد سرد بعضهم أسماء بعض هؤلاء العلماء فلم يلفت نظري إلا اسم ابن الهائم، إذ تذكرت ان هذا الاسم مرّ بي أثناء مطالعتي لبعض الكتب الإنكليزية التي تبحث في تاريخ الرياضيات، وأصبح لديّ رغبة شديدة في الكتابة عنه. رجعت إلى مكتبتي لأبحث عنه فوجدت إن ابن الهائم من الذين لم يعطوا حقهم من البحث والاستقصاء، وحياته لا تزال غامضة في تاريخ المدنية الإسلامية، وهي في أشد الحاجة إلى من يتعهد جلاءها، ويقضي على غموضها. بحثت في الكتب الصفراء وغير الصفراء، قديمها وحديثها، من عربية وتركية وإنكليزية فلم أجد إلا جملاً هنا وهناك متناثرة لا يفهم منها إلا تاريخ الولادة والوفاة، وأشياء أخرى من الصعب جمعها وتكوين جملة تفي بالغرض وتشفي غلة الباحث المنقب. على كلٍّ، وبعد بحث في كتب متنوعة أمكننا أن نحصل على ترجمة متواضعة لهذا العالم من ناحية مآثره في العلوم الرياضية آملين أن نوفق في المستقبل للكتابة عنه بصورة أوسع وأوفى للمرام.
ولنرجع إلى صاحب الترجمة فنقول إن اسمه هو: شرف الدين أبو العباس (احمد بن محمد عماد) ابن الهائم المصري المقدسي، وقد اكتسب نسبته إلى مصر من ولادته فيها، وكان ذلك في المنتصف الثاني من القرن الرابع عشر للميلاد حوالي سنة 1352م - 753هـ أو 756هـ، وعرف بالمقدسي لاشتغاله في القدس ووفاته فيها. وكانت الوفاة في أوائل القرن الخامس عشر للميلاد حوالي سنة 1412م - 815هـ. وقد وجدت ثلاثة تواريخ وفاة لصاحب الترجمة في كتاب كشف الظنون في أسامي الكتب والفنون، ففي ص 418 من الجزء الأول يقول إن ابن الهائم توفى في سنة 987هـ، وفي الجزء الثاني في ص 362 نجد أن الوفاة كانت في سنة 387هـ، وفي ص 417 من الجزء نفسه نجد ان تاريخ الوفاة كان في 815هـ. بينما المصادر الإفرنجية ككتاب تاريخ الرياضيات لسمث، والتركية ككتاب آثار باقية، وبعض العربية ككتاب الأنس الجليل كل هذه تقول وتتفق على أن الوفاة حصلت سنة 815هـ - وهذا التاريخ (على ما أرجح) هو الصحيح. وقد يكون الاختلاف في الوفاة الموجود في كشف الظنون ناتجاً إما عن خلط في الأسماء أو في أغلاط مطبعية. والله أعلم.
وابن الهائم كما قلنا من الذين لم يعطهم التاريخ بعد حقهم من البحث والتنقيب، وقد يكون في كتاب الأنس الجليل عن حياته ما لا نجده في غيره من الكتب. ومن الكتاب المذكور يفهم ان ابن الهائم اشتغل في القاهرة، وانه لما ولى القمني تدريس الصلاحية أحضره إلى القدس، واستنابه في التدريس، وأصبح من شيوخ المقادسة. واستمر في وظيفته التدريسية إلىأن جاء الشيخ شمس الدين الهروي من هراة وكان حنفياً فرأى هذه الوظيفة فسعى اليها، واستطاع أن يأخذها من ابن الهائم. ولكن هذا لم يرق للأخير فسعى جهده لاستردادها، واستطاع أن يجعل ولاة الأمور يقسمون هذه الوظيفة بينهما. ونشأ لابن الهائم ولد نجيب اسمه محب الدين، كان نادرة دهره، ونابغة زمانه، ولكن المنية عاجلته فلم يعش طويلاً ومات صغيراً سنة 800هـ. ومحاسن ابن الهائم كثيرة أهمها تمسكه الشديد بالدين، وكان دائماً لا يترك فرصة دون وعظ أو إرشاد، فتراه في أكثر الأوقات يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، وصار له مقام عند العامة وكان لكلامه وقع في القلوب، وتأثير على النفوس.
(وتوفى ابن الهائم في القدس الشريف في شهر رجب سنة 815هـ ودفن في مقبرة مأمن الله وقبره مشهور) وقد ذهبت بنفسي إلى القدس لأرى القبر فلم أتمكن من العثور عليه بسب أعمال الحفر التي قامت مؤخراً في المقبرة، واتصلت بالعارفين فقالوا إن قبر ابن الهائم كان يقع في الجهة الغربية على بعد بضعة أمتار من البركة وكان القبر مبنياً على شكل غطاء التابوت.
وابن الهائم من الذين درسوا على أبي الحسن علي بن عبد الصمد الجلابري المالكي ومن الذين ألفوا في الفرائض والحساب والجبر وله في ذلك كتب ورسائل قيمة منها:
كتاب شرح الأرجوزة لابن الياسمين في الجبر والمقابلة، ألفه في مكة سنة 789هـ. وهذه الأرجوزة لدينا وقد أتتنا من الوطني العامل الأديب السيد عبد الله بن مكنون من أعيان طنجة بالمغرب، وسيأتي الكلام عنها عند البحث في ابن الياسمين. وله أيضاً رسالة اللمع في الحساب، ولدينا نسخة منها وقد نسخناها عن مخطوطة قديمة موجودة في المكتبة الخالدية بالقدس. ويقول المؤلف (ابن الهائم) في أولها: (. . وبعد فهذه لمع يسيرة من علم الحساب نافعة أن شاء الله تعالى. .) وهذه الرسالة تتكون من مقدمة وثلاثة أبواب يبحث الباب الأول في ضرب الصحيح في الصحيح ويتكون من أربعة فصول، الفصل الرابع منه طريف جداً ويحتوي على كثير من الملح الرياضية في الاختصار وفي ضرب أعداد خاصة في أعداد أخرى بدون إجراء عملية الضرب، ولا بأس من إعطاء مثال (من النسخة) على ذلك، ففي الفصل المذكور يقول المؤلف (. . وللضرب وجوه كثيرة وملح اختصاريه فمنها:. . إلى أن يقول. . ومنه أن كل عدد يضرب في خمسة عشر أو مائة وخمسين أو في ألف وخمسمائة فيزداد عليه مثل نصفه ويبسط المجتمع (أي يضرب حاصل الجمع) في الأول عشرات وفي الثاني مئات وفي الثالث ألوفاً، فلو قيل اضرب أربعة وعشرين في خمسة عشر فزد على الأربعة والعشرين مثل نصفها وابسط المجتمع وهو ستة وثلاثون عشرات فالجواب ثلاثمائة وستون، ولو قيل اضربها في مائة وخمسين فابسط الستة والثلاثين مئات، فالجواب ثلاثة آلاف وستمائة. . .) ويبحث الباب الثاني في القسمة ويتكون من مقدمة وفصل، والمقدمة تبحث في قسمة الكثير على القليل والفصل في قسمة القليل على الكثير، وأما الباب الثالث فيبحث في الكسور ويتكون من مقدمة وأربعة فصول. ولهذه الرسالة شرح لمحمد بن محمد بن احمد سبط المارديني وله أيضاً كتاب (حاوي) في الحساب وكتاب المعونة في الحساب الهوائي، ويتكون من مقدمة وثلاثة أقسام وخاتمة، وله مختصر اسمه الوسيلة وقد رأيته أيضاً على مقدمة وثلاثة أقسام وخاتمة. وقد قال المارديني في آخر شرح اللمع (ومن أراد الزيادة فعليه بالوسيلة لأنها من أحسن المصنفات في هذا الفن. .) وعليها أيضاً حاشية لمحمد بن أبي بكر الأزهري، ولها (أي الوسيلة) شرح للمارديني يسمى إرشاد الطلاب إلى وسيلة الحساب. ولابن الهائم كتاب مرشد الطالب إلى أسنى المطالب ويبحث في الحساب، ويتكون من مقدمة وخاتمة. وقد علم له مختصراً سماه كتاب النزهة. ومن مؤلفاته كتاب غاية السؤال في الإقرار في الدين المجهول، ويحتوي على أمثلة لحلول مسائل مختلفة في الحساب، والجبر، وكتاب المقنع هو قصيدة تتكون من 52 بيتاً من الشعر في الجبر، وقد شرحها في رسالة خاصة، وله رسالة التحفة القدسية، وهي منظومة أيضاً في حساب الفرائض. وكتاب المعونة في السحاب. وقد شرحه المارديني واختصره ابن الهائم برسالة سماها أسنان المفتاح.
نابلس
قدري حافظ طوقان