مجلة الرسالة/العدد 49/أعيان القرن الرابع عشر
مجلة الرسالة/العدد 49/أعيان القرن الرابع عشر
3 - أعيان القرن الرابع عشر
للعلامة المغفور له احمد باشا تيمور
مصطفى باشا الخزينة دار
جركسي الأصل، اشتراه عزت باشا، أحد الصدور في زمن السلطان محمود الثاني، ورباه صغيراً في القسطنطينية، ثم أتى به إلى مصر سنة 1252، فاشتراه كتخداها عباس باشا بن طوسون باشا بن محمد علي باشا، وحظي عنده حظوة عظيمة، وقدمه إلى سائر مملوكيه، ولما تولى إبراهيم باشا بن محمد علي على مصر سنة 1264 استأذن منه عباس باشا في السفر إلى الحج فسافر إلى الحجاز وأقسم بأنه لا يعود لمصر ما دام عمه والياً عليها، لوحشة وقعت بينهما، وأخذ المترجم معه، فلما وصل إلى مكة وأدى فريضة الحج وصل إليه البشير بموت عمه إبراهيم باشا، وتوليته مكانه، وصادف ذلك موت خزينة داره راغب أغا الموره لي فأقام المترجم بدله وأعتقه، ولزمه من ذلك الحين لقب الخزينة دار، ثم جعله رئيساً لمملوكيه، وأنعم عليه برتبة أميرالاي، ووظف له ألف دينار مصري في السنة، وعاد معه إلى مصر، فكبر شأنه، وعظمت منزلته بين الأمراء، وأمر ونهى في الولاية، وحل عند سيده بمنزلة كبيرة، حتى أمر أن يكون أمر المترجم كأمره نافذاً لا يرد في كافة الدواوين، وكان يقول له أنت يا مصطفى مثل أولادي، والمترجم لا يقابل ذلك إلا بالصدق والاخلاص في الخدمة، والوالي يوالي بره، ويزيد في إعزازه، حتى أمر أن يركب مثل ركوبه في موكب بجند وحاشية، فاستعفى من ذلك وقال: عبدكم يكفيه ركوب جنديين يستخدمهما في خدمة أفندينا فقبل منه وأعفاه، وتسامع الناس بذلك فلامه بعض أخصائه على إبائه هذا الشرف العظيم، فقال له أنتم جهلاء لا تقرأون العواقب، أما تعلمون انه إذامات أو غضب عليّ أسلب هذا الشرف وينحط قدري بين الناس، أفليس الأولى لي أن أبقى على حالة واحدة لا أغيرها؟
وكان المترجم ميالاً لفعل الخير يسعى فيه جهده، ويروي انه أنقذ نحو ثلاثمائة شخص من القتل والنفي لنفاذ كلمته عند الوالي
ويروي أن عباساً باشا غضب مرة على احمد باشا المنكلي، وكان من جلة القواد، فجفاه الناس، وخصوصاً الأمراء على عادتهم مع من يغضب عليهم الولاة، حتى يبلغ بالواحد انه لا يستطيع المرور أمام دورهم، واتفق ان المنكلي ذهب يوم العيد إلى العباسية لمقابلة الوالي وطلب العفو، فلقي إعراضاً من الحاشية ونفوراً، ورآه المترجم على هذا الحال فصعب عليه مكانه لما كان يعلمه عنه من علو المنزلة عند الولاة السابقين، فأسرع إليه وأكرمه وأمر له بالقهوة والدخان، وجلس بين يديه متأدباً، ونمى الخبر لعباس باشا فغضب واستدعى المترجم ووبخه على إكرامه رجلاً مغضوباً عليه منه، فتلطف معه وقال له: حلم أفندينا أكبر من كل ذنب، وهذا الرجل تعلمون حسن بلائه في الخدمة، وقد جرأني هذا الحلم بأن سكنت روعه وأخبرته برضاكم عنه، وإنكم دائماً تذكرونه بالخير وتقولون هذا رفيقنا بالشام يوم كنا مع عمنا في المحاربة، وأفندينا اكرم من ألا يقبل شفاعة عبده فيه، فضحك عباس باشا وقال لا بأس عليه قد عفوت عنه، ثم استدعاه فدخل وقبل الأرض من شدة فرحه، ودنا منه حتى قبل قدمه، فأجلسه وبش في وجهه وقال له أنت (أرقداش) ثم صرفه شاكراً مسروراً.
ثم لما مات عباس باشا بقى المترجم خزينة داراً لدائرته زمناً قليلا، وتولى محمد سعيد باشا على مصر وكان بالإسكندرية فتأخر بها خمسة أيام خوفاً من أن تغتاله شيعة عباس باشا إذاحضر إلى القاهرة، لما بلغه من أن الألفي يريد تولية الأمير الهامي باشا بن عباس باشا، فتأخر حتى كتب له الأعيان والأمراء بالطاعة وأرسلوا كتابهم اليه، وفيه توقيع المترجم، فاطمأن وحضر إلى القاهرة ونزل في قصر شبرا عند أخيه حليم باشا، فبات عنده ليلة لم يهنأ فيها بنوم، وأخبر أخاه انه بلغه عن المترجم ان عنده في العباسية خمسمائة فارس بسلاحهم، وانه يخشى من هجومه بهم على القصر قصد اغتياله، فصرف عنه أخوه هذا الوسواس، ثم طلب المترجم بعد ذلك إلى القلعة وخرج إليه حسن باشا المناسترلي، وقال له أفندينا يعلم انك رجل عاقل فما هذه الخمسمائة الفارس التي عندك بالعباسية؟ أتحاول أن تحدث بهم أمراً، أو تجدد لك ملكا؟ فقال معاذ الله من ذلك، إنما أنا عبد من عبيد أفندينا، وكل ما سمعه عني زور وبهتان من سعي المفسدين، وبعد، فهل هذه الفرسان في بطن الأرض أو فوق ظهرها، وكيف خفي عليكم أمرها، نحن ليس عندنا غير عشرين فارساً لحفظ قصور الحرم، فتبين لهم صدقه، ثم لما أراد سعيد باشا السفر إلى دار السلطنة لشكر السلطان على توليته على عادة ولاة مصر من بني محمد علي مع سلاطين آل عثمان وجد خزانة مصر خالية من المال، فطلب من المترجم إقراضه خمسين ألف دينار من أموال عباس باشا التي بيده فأبى وتوقف وقال: إنما أنا أمين عليها، وصاحبها الهامي باشا باستنبول، ولا يجور لي التصرف في ماله بغير اذنه، فتداخل بعض الأمراء في الأمر، حتى رضى بإقراضه القدر المذكور بشرط أن يكتب صكاً به ويوقع عليه، ففعل وأخذ المال، ولما حضر الهامي باشا من دار السلطنة أعطاه المترجم الصك وقال له: هذا المال أخذه عم أبيك، فان شئت طالبته به، وان شئت تجاوزت له عنه، فعدت هذه الحادثة من مواقف المترجم المحمودة.
وبقى المترجم خزينة دارا لالهامي باشا حتى رآه ينفق أمواله في غير وجهها، فنصحه بأنه إذا دام على هذا الحال لا يبقى ولا يذر شيئاً مما تركه والده، وأوصاه بالحزم، وقال له في عرض كلامه يا سيدي أنا لا أنهاك عن الكرم والإحسان إلى الفقراء، ولكني أنهاك عن الإسراف والتبذير والإنعام على صغار الخدم بهذه الجواهر والنفائس الثمينة التي نراها في أيديهم كل يوم، ولما رأى إعراض الأمير عنه وتماديه فيما هو فيه استعفى من منصبه ولزم داره التي بالتبليطة. ثم بدا له السفر إلى دار السلطنة فسار إليها وعلم السلطان عبد المجيد بن محمود بمقدمه فطلبه إلى القصر، ولكنه لم يقابله بل أمر أولاده الأمراء مرادا وعبد الحميد ورشادا بإكرامه فقابلوه ولاطفوه، ثم قيل له إن في نية السلطان الإنعام عليه برتبة باشا وأشير عليه بعدم السفر فلم يوفق للإقامة بل سافر بغير إذن إلى الحجاز، فحج وعاد لمصر، وكان الوالي سعيد باشا أرسل إلى كامل باشا زوج أخته الأميرة زينب هانم أن يراقب المترجم مدة وجوده بدار السلطنة لأنه يوجس من سفره خيفة، فأعلمه أنه تحقق من أن الرجل ليس له مقصد سوى التنزه والسياحة فقط. وأراد سعيد باشا مرة استخدامه فشكر ولم يقبل، ولما تولى إسماعيل باشا على مصر أنعم عليه برتبة ميرميران وأمر باستخدامه عضواً في مجلس الأحكام فاعتذر عن إلاستخدام وقال للرسول ان كنتم تجبروني على الخدمة لأجل رتبتكم فهاك (فرمانها) أرده لأفندينا فاقره إسماعيل باشا على الرتبة وأعفاه من الخدمة.
وبقى بعد ذلك في داره وينتقل تارة إلى ضياعه يراقبها وينفق من غلتها حتى وافاه أجله فمات محمود السيرة عف السريرة قليل الشاكين كثير الشاكرين لا يقطع فرضاً ولا يقصر عن نافلة مع إحسان للفقراء وسعة في النفقة من غير تقتير ولا اسراف، وخلف ثروة واسعة وأموالاً طائلة من غير عقب لأنه لم يتزوج في عمره إلا بنت راغب آغا سلفه في الخزينة دارية، وكان إلهامي باشا أراد أن يزوجها لشكيب باشا مدير ديوان الأراضي الأميرية فلم تقبله واختارت المترجم فتزوجها وانتقل إلى دارها فأقام معها نحو ثلاثة أعوام ثم فارقها بكرا لم يبن بها رحمه الله تعالى.