مجلة الرسالة/العدد 489/في الغاب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 489/في الغاب

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 11 - 1942



للأستاذ عبد الحليم عباس

قلت لصاحبي، ونحن نعتسف الغاب، نطامن من رأسينا لنتقي أذرع الشجر المتشابكة والممتدة في غير استواء، ونراوغ في السير مخافة أن نصطدم في فرع شائك، أو تزل بنا القدم في هذه الأرض الوعثاء. يشبه السير في الغاب، السير في الحياة. أعني، لابد من المراوغة. فعقب وهو ينحى فرع شجرة، ولابد من أن يطامن المرء من رأسه - كما أفعل الآن - لينجو من الصدمة. . .

- حسن، فنحن في هذه الغاب، نمثل قصة الأحياء، أعني أن كل حي يطامن من رأسه - في حال من الحالات - ويراوغ في مشيته، في شوطه المقدور، في دروب الحياة، كما نفعل الآن، حذوك النعل بالنعل، هذا إن أراد أن يستقيم معه الأمر. وإن ركبه الغرور فمشى رافع الرأس، مستقيم الخطوة، فلابد من صدمة يبين أثرها في وجهه، أو في جسده أو. . . يخر صريعاً إن كانت الصدمة قوية بالغة. . . ولكن قل لي هاهنا الشجر والحجر يصدم السائر، وفي الحياة. ماذا؟

- إرادة الأحياء العنيدة الضاربة في النفس، كجذور هذه الشجرة، المستحكمة في باطن الأرض - وراح يهز شجرة سنديان استحكمت ساقها، ونفض من فعل الزمن، ويتطلع فيّ، فعل المفكر المتألم

- إرادة الأحياء لفظة شاملة، وفي الشمول غموض وإبهام. ولكن قل لي: نستطيع أن نجتث هذه الأشجار، فيصبح السير فيها - الغاب - بخطوات مستقيمة وخدود مصعرة، وقلوب أمنت أن يفاجئها من بين ملتف الشجر، وخفي الأحجار حيوان مؤذ مفترس، فكيف نجعل الدرب في الحياة كهذه؟ أتنفي منها إرادة الأحياء؟ ومعنى هذا أن ننفي منها الأحياء. وقد قال بهذا كثير من المفكرين، ولكن قولتهم هذه لم تتحقق في الواقع، لأن الحياة أقدر على المحافظة على ذاتها من أن تذهب وتمحوها كلمة من يائس

- فماذا تمحو من الحياة؟

- شيئاً واحداً ليصبح السير فيها كالغاب بعد أن تجتث جذور أشجارها

فزم ما بين عينيه، وقال: أمحو منها القوة، فيصبح الإنسان آمناً، والأمن هو الحياة. . .

وتابع قوله: ولكن من القوة ما هو جميل، وللخلق والإنشاء. . . أريد القوة الظالمة. . .

- اسمع يا صاحبي. أقوى ما في الغاب الأسد، وليس هو شر ما فيها، يأتي الفريسة، فيدلها على نفسه، بفضل قوته المرعدة فتتقيه، وقد تنجو. ومن الضعف ما هو ظالم، أنسيت النفاق؟ وما قولك في الكذب؟ أليس ضعفاً؟ وما نلقى منه شر البلاء

فأطرق صاحبي، وفي إطراقه قفز من بين يديه (ابن آوى) فجفل من المفاجأة، ولما تحققه يستن في عدوه، صاح: لقد وجدتها! أمحو منها هذا؟ جنس الثعالب؛ الثعلبة، بربك ألا تراني مصيبا؟. . .

- أتمنى أن أراك مصيباً اليوم، ولكن لو محوتها لبقيت الغاب بعدها غاباً، تطامن لها رأسك، وتراوغ في مشيتك، وتقف عند حنية لتجمع نفسك، وتلم قوتك من حيوان متوثب، أو وحش غادر، كشأنك في الحياة؛ فالثعلب جنس من أجناس. وثعالب الأحياء كل خستها أنها تمشي إلى مطلبها بين مظاهر الجبن والتدليس، وهي تلقى جزاء خستها هذه. أنها تخشى افتضاح أمرها، وانكشاف مهارتها الحقيرة. وإن أحقر منها وأحقر، جنس الأفاعي: تطل برؤوسها وجلة، ثم تنساب ناعمة، لا يسمع لها حفيف، إلى الضحية الساهية اللاهية، ثم تنهشها لغير ما فائدة، إلا حب الأذى ولذة الإجرام. . . أرأيت الحية؟ أنتبه. إنها أخطر ما في الغاب

- وهل هي أخطر ما في الحياة؟ أو رأيتها أنت؟

- لقد رايتها كادت تنهشني؛ لولا أني فطنت لها، فركلتها فعادت تتغذى من التراب. ومن العجب أنها تضع على عينها دوماً منظاراً، ولها صوت موسيقي ناعم جذاب. وهكذا ترى انك كلما محوت جنساً نبتت لك أجناس، وكلما أردت أن تقضي على نحيزة نجمت لك نحائز ثم. . .؟

- لم يبق شيء عندي، أراك معنثاً اليوم. هات وخلني أنا السائل، وستراني لا أقل عنك إعناتاً. الهدم أسهل من البناء

- هكذا تقول، وليس هو عند الحق كذلك، ليس الهدم بأسهل من البناء

- كيف؟ سنتكلم في هذا مرة أخرى. والآن. أليس كل ما في الغاب يطلب أن يعيش وهو يصطنع لهذا مطالبه الخاصة: ثعلبة، مراوغة، قوة، إلى آخر هذه المسميات. . . وكذلك الشأن في الحياة والأحياء. . . ما رأيك لو جعلنا العيش ميسوراً لكل طالب. . . ألا تمحي المنازعات وتذوب الشرور، ويمشي الإنسان ثابت القدم، مرفوع الرأس. كل ما أطلبه أن تمحى أنا، وتحل محلها نحن. ليتم كل شيء

- ولكن تبقى الغاب بعد هذا غاباً، وحيوان الغاب من طبعه الافتراس. إنه يعقل. أرأيت ثعلباً يفترس ثعلباً؟

- لا. . . وهذه نقطة الاختلاف عن بني الإنسان. فالناس جنس والغاب أجناس، هذه هي الطبيعة، ولكن (أنا) جعلت كل واحد جنساً متميزاً بذاته، منفصلاً عن بقية جنسه. فكل (أنا) لابد من أن يطامن من رأسه ويزحف على بطنه حذرا من (أنا) الثانية والثالثة. أما (نحن) فلا نمشي إلا مرفوعي الرؤوس. أمح قليلاً من (أنا) غير آسف. لو كان الغاب ملكاً لفصيلة واحدة، أكان يمشي أبناؤها وجلين مروعين، كما يمشي البشر في درب الحياة. . . أينا أعقل؟ إن جماع الرذائل في هذا الزائد في (أنا) عن حاجة المرء في الحياة. . .

- أو يكون ذلك؟

- سيكون في يوم ما، إنها الضرورة، أن الإنسانية لتعيش مروعة من الذل والخراب والجوع. وإنك لتعرف أن القلق حالة طارئة وأن الشيء الطبيعي هو حالة الاستقرار. وإلى أن يجيء هذا خلنا نضحك من زرادشت، ونردد قولته، ولكن على غير قصده وهواه. . . أهذه هي الحياة؟

هاتها إذن مرة ثانية وثالثة.

وأخيراً يا صاح هانحن أولاء أنسانا الحديث متاعب الطريق، واستحققنا متعة هذا المرج الضاحك النضير.

(شرق الأردن)

عبد الحليم عباس