مجلة الرسالة/العدد 488/مشاركة الأدب الإنجليزي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 488/مشاركة الأدب الإنجليزي

مجلة الرسالة - العدد 488
مشاركة الأدب الإنجليزي
ملاحظات: بتاريخ: 09 - 11 - 1942



في الدراسات العربية

نقل اعن (برنارد لويس)

للأستاذ عبد الوهاب الأمين

4 - القرن التاسع عشر وما بعده

لقد درسنا حتى الآن حياة رجال ذوي شخصيات أكاديمية، فلنقف قليلاَ لننظر في حياة ثلاثة من رجال الإنجليز الذين كان اهتمامهم باللغة العربية وببلاد العرب ينبع من معين أخر، والذين يختلف عملهم الذي ملأ حياتهم كلها، عن عمل أولئك الذين سبق أن درسناهم

وأول هؤلاء وأشهرهم هو (سررجارد برتون) (1821 - 1892) فبالرغم من أنه بدأ دراسته للغة العربية مبكراَ وهو في أكسفورد فانه ترك الجامعة قبل أن يتمها، وذهب إلى الهند لكي يعمل في الجيش البريطاني. وعاش هناك بضع سنين، قضى أكثرها في المناطق الإسلامية، ودرس اللغتين العربية والفارسية، واللغات الإسلامية الأخرى على أيدي مدرسين من المسلمين، وعند عودته إلى إنجلترا نشر أربعة كتب عن الهند

وفي سنة 1853 زار مصر زيارته الأولى، وقام برحلة على ظهور الجمال من القاهرة إلى السويس. وبعد سفر ملئ بالحوادث غادر ذلك الميناء قاصداَ ينبع في باخرة حجاج؛ وتغلغل في الحجاز قاصداَ زيارة المدينة ومكة، ثم عاد إلى إنجلترا عن طريق جدة ومصر. ونشر بعد عودته وصفاَ لرحلاته هذه في ثلاثة مجلدات طبعت عدة طبعات، ولا تزال تعتبر مرجعاَ عن البلاد التي وصفها. ثم أعقب ذلك عدة سنين من أسفار متعاقبة

وفي إحدى المرات قام برحلة استكشاف في المناطق المتوحشة من شرقي أفريقيا والحبشة، متنكراَ في زي تاجر عربي. وقد عاد بمعلومات ثمينة عن المناطق التي تكاد تكون مجهولة. وفيها تلا ذلك من السنين ساح في وسط وغرب أفريقيا، والأقسام المغمورة من الأمريكتين. ونراه في سنة 1855 في الفرم يخدم مع القوات البريطانية. وفي خلال المدة ما بين سنة 1869 و1871 كان في دمشق وساح في سورية ومعه زوجته و (إدوارد هنري بالمر) ونشر هو وزوجته وصفاَ لتلك البلاد، وعاد بعد سنوات إلى مصر وأشرف على أعمال جيولوجية كانت قائمة في مناطق من البلاد كانت في ذلك الحين أبعد أقسامها عن المدينة

وعلى هذا فقد كانت حياته كلها مغامرة وخطراَ متصلاَ، ذهب أغلبها في السفر والسياحة في أقطار الأرض المتباعدة، ومع كل ذلك فقد وجد من وقته متسعاَ ينشر فيه عدة كتب تكلمنا عن بعضها، ويضم الباقي ترجمة كاملة لكتاب (آلف ليلة وليلة) وهي ترجمة فريدة بين الترجمات الأوربية بالنظر لتمسكها المخلص بالنص الأصلي: ذلك التمسك الذي أثار فضيحة ضئيلة بين معاصريه الشديدي التزمت

ومن بين الرحالين الإنجليز المشهورين في الشرق الأوسط (ولفريد سكادن بلنت) (1840 - 1922) وقد بدأ حياته بداية دبلوماسية، ومع ذلك فقد أخذ اهتمامه يطرد وينمو بقضايا الشعوب المظلومة في العالم، وكرس أخر أيامه للمطالبة بحقوقها. وكان اهتمامه منصرفاَ بصورة خاصة إلى الهند وأيرلندة ومصر. وكان من كبار السائحين وزار أقطاراَ عديدة. فقام - بصحبة زوجته - بزيارة البلاد العربية في الشرق الأدنى وفي شمالي أفريقيا. وفي سنة 1878 زار نجداَ حيث استقبله وزوجته أمير حائل استقبالاَ حسناَ، وقدم لهما بعض الخيول المنتقاة، وقام بإبلاغهما مخفورين إلى بغداد. وقد اتصل في خلال زياراته لمصر والهند بالزعماء الوطنيين ويعرفه كل من جمال الدين الأفغاني وعرابي باشا معرفة تامة. وقد نشر عدة كتب في تأييد القضية المصرية. وفي سنة 1881 استقر في دار له قرب القاهرة حيث عاش عيشة المصريين: يرتدي الملابس المصرية ويتكلم اللغة العربية وكانت زوجته (الليدي آن بلنت) عالمة باللغة العربية بالإضافة إلى خبرتها بالفروسية والأسفار، تشتمل كتبها المطبوعة على كتاب عن العراق وآخر عن نجد، وترجمة للمعلقات نظمها زوجها بالإنكليزية شعراَ.

وهناك رحالة ثالث هو (جايس دوتي) (1843 - 1926) الذي يذكر بكتابه الخالد عن جزيرة العرب. فقد قام - بعد تحضير لمدة سنة كاملة في دمشق بدراسة متسعة للغة العربية - برحلة استكشافية في قلب بلاد العرب. وعلى عكس ما قام به من سبقه من الرحالين، فإنه كره أن يخفى قوميته ودينه، فساح في كل مكان كإنجليزي مسيحي ولم يقلل هذا الإصرار من جانبه من أخطار رحلاته. وزاد كتابه الذي نشر في إنجلترا بعد عودته في سنة 1878في إنماء معلوماتنا عن بلاد العرب. ويحتوي سجل أسفاره على ثروة من المعلومات عن جغرافية تلك البلاد وطبيعة أرضها، كان أغلبها غير معروف قبل ذلك. وقد أعيد طبع كتابه قبل حوالي العشرين عاماَ وكتب له (لورنس) مقدمة

ولنعد الآن إلى علماء العربية في الجامعات. فقد أظهرت السنين الأولى من القرن العشرين أن مستوى الدراسات العربية لم يكن بأية حال أقل منه في أعظم أيام القرن التاسع عشر، فقد أنشئت الدوائر العربية في الجامعات الاسكتلندية والجامعات الفرعية. وأنشأت جامعة لندن في الحرب الماضية كلية جديدة مقتصرة على العلوم الشرقية هي (معهد الدراسات الشرقية).

أما العلماء الذين سنتطرق إليهم الآن، فهم من الجدة بحيث يذكرهم الطلاب والزملاء بعطف في إنجلترا والشرق. فقد كان السرتوماس أرنولد الذي توفي في سنة 1930، أول من شغل كرسي الدراسات العربية والإسلامية في معهد الدراسات الشرقية في لندن. وقد تثقف في اكسفورد، وأنفق عدة سنين في الهند أستاذا للفلسفة في الكلية الإسلامية في عليكرة. واشهر مؤلفاته هو (تعاليم الإسلام): وهو وصف لامتداد العقيدة الإسلامية أكسبه في التو منزلة ملحوظة، وترجم إلى اللغتين: التركية والأوربية. وفي كتابه الآخر (الخلافة) تعقب تاريخ هذا النظام، وناقشه من وجهتي النظر الفلسفية والفقهية. ونشر بالإضافة إلى ذلك عدة دراسات قيمة عن الرسم والتصوير الإسلاميين: ذلك الموضوع الذي كرس له عدة سنين من حياته. وذهب في سنة1930 إلى القاهرة فتوفي هناك على الأثر

وهناك مستشرق آخر ذو مكانه هو (لي سترانج) الذي توفي في سنة 1934، ويمكن أن يكون القول الآتي له مفتاحاَ لآثاره: (إذا كان المطلوب جعل تاريخ الإسلام شيقاَ، وإذا كان المقصود في الحقيقة فهمه على الوجه الصحيح، فمن الواجب إعداد الجغرافيا التاريخية للعصور الوسطى إعداداَ دقيقا). وقد كرس (لي سترانج) افضل سني عمره لدراسة الأدب العربي والفارسي الخاص بالجغرافيا. وتعتبر كتبه التالية: (بغداد في عهد الخلافة العباسية) و (فلسطين تحت حكم المسلمين) و (أراضي الخلافة الشرقية) خيرة الكتب في هذه الموضوعات. ونشر أيضا عدداَ من النصوص الجغرافية، وكثيراَ من الدراسات القصيرة. ومنذ سنة 1912 قد عمى تقريباَ. غير أن نقصا خطيرا كهذه في كيانه لم يعقه عن الاستمرار في عمله

ومات عالم آخر في العربية مشهور في السنة التي توفي فيها (لي سترانج) هو (أ. أبيغان) تلميذ (وليم رايت) وكان أكبر همه منصباَ على الشعر العربي القديم. وقد نشر نقائض جرير والفرزدق على عهدته. والنادرة التالية تعطى فكرة عن دقته العظيمة: فقد روى زميله (ا. ج. براون) العالم المعروف بالفارسية أن بيغان زاره يوماَ، وكان شديد الحزن حتى لقد خيل له أن كارثة حاقت به، ولكن حقيقة ما كان قد وقع هو أن (بيغان) اكتشف خللاَ في أحد الأبيات في طبعته للنقائض!

ولا يتسع المجال للكلام عن كثيرين من العلماء في هذا العهد كليال محرر (المفضليات) و (لين - بول) مؤلف عدة من الكتب عن تاريخ الإسلام، وعن المسكوكات، و (امبروز) محرر عدد كبير من النصوص العربية التاريخية المهمة وكثير غيرهم. غير أن هناك عالماَ واحداَ يستحق أكثر من الذكر العارض هو (د. س. مارجليوث) الذي كان أستاذ اللغة العربية في اكسفورد عدة سنين، والذي اعتبر الشخصية الأولى بين علماء العربية من الإنجليز مدة طويلة من الزمن؛ وكان عضواَ في المجمع العلمي العربي في دمشق. بالرغم من أنه نشر عدة دراسات باللغة الإنجليزية ذات قيمة عن التاريخ الإسلامي وعن الدين الإسلامي فأنه سيذكر بالخير لطبعاته العديدة وترجماته لأمهات الأدب العربي، وربما كان خير أولئك طبعته الفائقة لمعجم الأدباء لياقوت. وقد نشر أيضاَ رسائل أبي العلاء، ومحاضرات التنوخي ومختصر ابن مسكوبة

أما أولئك الذين لا يزالون بين ظهرانينا فلن نتكلم عنهم، لأن الكلام سابق لأوانه. وأعمال علماء كنكلسون وجب وستورى وكثيرين غيرهم ممن يخرجون آثاراَ مهمة لن يبت فيها من وجهة النقد إلا الأجيال المقبلة. وفي خلال ذلك يمكن القطع بالقول واثقين أن سيرة الدراسات العربية في إنجلترا - التي سبق أن تكلمنا عن تطورها في خلال العصور السابقة - لا تزال قوية الحيوية. ولعلها تستمر في الازدهار

عبد الوهاب الآمين