مجلة الرسالة/العدد 488/مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 488/مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية

​حديث عيسى بن هشام​ المؤلف زكي مبارك
مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
ملاحظات: بتاريخ: 09 - 11 - 1942


حديث عيسى بن هشام

للدكتور زكي مبارك

الأسلوب - الفكاهات - الرحلة الثانية - الرحلة الفكرية - أسلوب وأسلوب - كلمة ختامية

الأسلوب

أشرنا من قبل إلى أن أسلوب المويلحي يغلب عليه السجع فلنقرر أنه لا يعفى نفسه من أثقال هذه الحلية إلا حين يخوض قي أحاديث يطلب فيها الإقناع لا الإمتاع. ومعنى هذا أن مقامات الكلام ترجع في جملتها إلى مقامين: مقام تخاطب فيه العقول، ومقام تناجى فيه القلوب. فالترسل الحر هو أسلوب الإقناع، والنثر الفني هو أسلوب الإمتاع، وبين هذين المقامين صلات دقيقة يعرفها جهابذة القلم البليغ

فهل التزم المويلحي هذه الخطة في جميع الأحوال؟

الظاهر انه لم يراعها كل المراعاة، فقد سجع في مواطن لا يجوز فيها السجع، وحار قلمه بين موجبات العقل، وموحيات الذوق، فلم يسلم في بعض الظروف من الإسفاف

نص شوقي على سجع المويلحي حين رثاه فقال:

رُبَّ سجعٍ كمرقص الروض لمَّا ... يختلف لحنُهُ ولا إيقاعُهْ

أو كسجع الحمام لو فصلتْهُ ... وتأنتْ به ودقَّ اختراعُهْ

هو فيه بديع كل زمانٍ ... ما بديعُ الزمان ما أسجاعه؟

ومن الواضح أن شوقي يرثي، والرثاء يبيح التهويل، ولهذا جاز أن يكون سجع المويلحي أبرع من سجع بديع الزمان، مع أن الفرق بين فن المويلحي وفن البديع، كالفرق بين (عيسى بن هشام) الجديد، و (عيسى بن هشام) القديم؛ وسيظل بديع الزمان هو البديع، لأنه المبتكر الأول لهذا الفن الجميل، الفن الذي ينقد المجتمع عن طريق الأسمار والأحاديث، باللمحة البارعة والأسلوب الرشيق

المويلحي يتعثر في الأسجاع، ولكنه قد يبلغ الغاية في بعض الفقرات، كأن يقول على لسان المحامي وهو يخاطب موكلا رجاه أن يرجئ الأجر إلى أخر الشهر: (أتظن أن هذه الوعود، تقوم لدينا مقام النقود، في بلد كثر فيه الإنفاق وزادت الضرورات، وقل فيه الربح كما قلت المروءات، وصار الدرهم أعز عند الأب من بنيه، وعند الابن من أبيه؟ وقد تعبت في القضية تعبين: باللسان وبالجنان، ولا أستريح منهما إلا بنقد الأصفر الرنان. فلا تجعل الخلاص من قضية بقضية، والفكاك من بلية ببلية، فذلك ما لا يأتيه العقلاء، ولا يرتضيه الأمراء)

وكأن يقول: إنه رأى في ساحة المحكمة: (وجوهاَ مكفهرة، وألواناَ مصفرة، وأنفاساَ مقطوعة، وأكفاً مرفوعة، وباطلا يذكر، وحقاَ ينكر، وشاكياَ يتوعد، وجانياَ يتودد، وشاهداَ يتردد، وجندياَِ يتهدد، وحاجياَ يستبد، ومحامياَ يستعد، وأما تنوح، وطفلاَ يصيح، وفتاة تتلهف، وشيخاَ يتأفف)

وجملة القول أن الأسجاع الجيدة عند المويلحي كثيرة، أليس هو الذي يسجع فيقول في التبرم بالناس:

(إن سالمتهم حاربوك، وإن وادعتهم ناصبوك، وأن صادقتهم خانوك، وإن واثقتهم كادوك، وإذا خالطتهم لا تأمن الاعتداء، وإذا مازحتهم لا تعدم الافتراء، وإن طالبتهم بحق، فانك لا تسمع الصم الدعاء)

الفكاهات

المويلحي كثير التندر والدعاية، وهو ألطف ما يكون حين يسوق الفكاهة بطريق النقد الملفوف. . . أراد أن يعيب عدم استقرار محكمة الاستئناف في مكان فقال وهو ذاهب إليها مع الباشا: (ولعلنا نجدها بإذن الله في مكانها، فقد تعودت التنقل من مكان إلى مكان، ثم اقتربنا فوجدناها)

والكلمة الأخيرة من دقيق التنكيت. . . وقد عاش المويلحي إلى أن رأى محكمة الاستئناف قد استقرت في مكان!

وأراد أن يفصح عن جرأة (المحامي الشرعي) في ذلك الزمان فأدار الحديث على مثل هذه الصورة:

- علمنا أنك رجلٌ عدلٌ عفّ، فجئناك لقضية في وقت

- أتطلبون ريعه؟ أم تريدون بيعه؟ - سبحان الله! وهل تباع الأوقاف؟

- نعم، ويباع جبل قاف!

ثم يصير السجع نفسه فكاهة في هذا الموضع (تنحنح الشيخ وسعل، وبصق وتفل، وتسعط، ثم تمخط، واقترب منا ودنا، ثم قال لنا)

وأراد أن يصور بلاء الناس بطول الإجراءات في المحاكم فقال:

(نسأل الله أن ينقذنا مما أصابنا من حكم الدهر، وأن يعجل بانقضاء القضية قبل انقضاء العمر)

وهذه فكاهة مرة المذاق، فلعل إجراءات المحاكم المصرية أصبحت أقصر مما كانت في ذلك الزمان

المرحلة الثانية َ

وعد المويلحي في نهاية الرحلة الأولى بأنه سيقوم برحلة ثانية ليصور المجتمع في الأقطار الغربية، وقد انتظر القراء هذه الرحلة عشرين سنة، انتظروها من سنة 1907 إلى سنة 1937

فمتى قام المويلحي بالرحلة الثانية؟

حدثني الأديب إبراهيم المويلحي تلفونياَ أن هذه الرحلة كانت سنة 1889، فعارضته في التاريخ، لأن معرض باريس لسنة 1889 هو المعرض الذي أقيم فيه برج أيفل أول مرة، وفي الرحلة الثانية فقرات صريحة في أن المعرض الذي زاره المويلحي لم يكن ذلك المعرض، لأنه يتحدث عن (إيراد البرج في المعرض السابق) ولأنه يتحدث عما انتهى إليه أمر (المسيو أيفل) وقد اتهم بالسرقة والاختلاس وسجن في قضية (بناما) ولا يمكن أن يقع ذلك في سنة 1889

وبعد يومين تفضل الأديب إبراهيم المويلحي فاخبرني انه راجع ما عنده من دقائق فعرف أن الرحلة الثانية كانت في صيف سنة 1900 وأن أصولها أرسلت من باريس ونشرت في (مصباح الشرق) على فترات

وإذن يكون المويلحي قبر الرحلة الثانية سبعاَ وعشرين سنة، فما سبب ذلك؟

لعل السبب يرجع إلى أن المويلحي كان يستصغر محصول الرحلة الثانية، ولعل كان يرجو أن تتاح فرصة يزور فيها أوربا زيارة الباحث المدقق، ليؤلف كتاباَ في قوة كتابه الأول، ثم صنع الدهر ما صنع فصرفه عما يريد، ولم يبق إلا أن يقنع بالمحصول السابق من الرحلة الثانية، فطبعها قبل أن يموت بثلاث سنين

رحلة أمين فكري

والمؤكد عندي أن رحلة أمين باشا فكري كانت السبب في تردد المويلحي، فقد كان يحب أن يصل إلى دقائق تفوق ما احتوت عليه (الرحلة الفكرية) فما تلك الرحلة؟

الجمهور يجهل أن القاهر شهدت في سنة 1892 ظهور كتاب لم تعرف مثله اللغة العربية، وهو كتاب (السفر إلى المؤتمر) في صفحات بلغت 823 بالقطع الكبير. وفيه وصف للحيوية الصناعية في البلاد الأوربية، وصف لم يكتب مثله كاتب في الشرق الحديث. وقد كنت شرعت في كتابة بحث أصور به قيمة هذا الكتاب النفيس ثم انصرفت عنه لبعض الشؤون، ولعلي أرجع إليه بعد حين

نحن في صحبة كاتبين وصف أولها معرض باريس سنة 1888 ثم وصفه الثاني في سنة 1900، فما الفروق بين هذين الكاتبين؟

لا جدال في أن أسلوب المويلحي أروع وأرشق، ولا جدال في أن المويلحي مفطور على الحاسة الفنية؛ ولكن عند الباحث أمين فكري نزعة علمية قليلة الأمثال، فقد وصف المعرض وصفاَ هو الغاية في تعقب الأصول والفروع من حيوات العلوم والفنون

قضى الباحث أمين فكري تسعة أيام في زيارة المعرض، وهو في صحبة أبيه عبد الله باشا فكري، أحد أئمة الأدب في الجيل الماضي، ورئيس الوفد المصري إلى مؤتمر المستشرقين الذي عقد في بلاد السويد والنرويج سنة 1889

كان أمين فكري يسجل مشاهداته في كل يوم، وأي مشاهدات؟ كان يتعقب ما ترى عيناه بالبحث والفحص والتشريح ثم يسجل ما يراه بعبارات فصيحة بليغة أغناها الوضوح والتحديد عن التزويق والتنميق

إذا قال محمد المويلحي إن برج أيفل هو أرم ذات العماد، أخذ أمين فكري في سرد تاريخ البرج وتصميماته الهندسية، وانطلق فتحدث عن طبيعة الأرض القريبة من نهر السين، وطاف بشؤون علمية لا تخطر للمويلحي في بال والحق أن أمين باشا فكري آية من آيات النبوغ المصري، وما كان بينه وبين أبيه يشابه ما كان بين المويلحي وأبيه، فشهرة عبد الله فكري طغت على منزلة أمين فكري، كما أن شهرة إبراهيم المويلحي طغت على منزلة محمد المويلحي وأمين فكري نفسه يحدثنا في المقدمة أن أباه عبد الله باشا فكري كان ينوي كتابة هذه الرحلة، وأنه ألمع إلى ذلك في خطاب أرسله من لوسرن إلى الوزير علي باشا مبارك، ثم دهمه المرض والموت، فكان مصير الكتاب إلى ابنه أمين.

أسلوب وأسلوب

في (السفر إلى المؤتمر) صحائف من إنشاء عبد الله فكري، وهي تشهد شهادة قاطعة بأن أسلوب الأب وأسلوب الابن يختلفان بعض الاختلاف

فمتى نصل إلى مثل هذا اليقين في التميز بين أسلوب محمد المويلحي أبيه إبراهيم؟

محمد المويلحي ترك (حديث عيسى بن هشام) وإبراهيم المويلحي ترك (حديث موسى بن عصام) وهو منشور بجريدة (مصباح الشرق) فإن سمح الوقت يوماَ بالموازنة بين الحديثين فستعرف مدى الفرق بين الأسلوب.

إحدى الطرائف

من طريف ما لاحظت أن أسلوب عبد الله فكري تغلب عليه النزعة الأدبية، على حين تغلب النزعة العلمية على أسلوب ابنه أمين

ولا كذلك الحال بين المويلحي وأبيه، فالابن تغلب على أسلوبه النزعة الأدبية، أما الأب فتغلب على أسلوبه النزعة العلمية والظاهر أن الجيل الماضي في مصر يحتاج إلى دراسات، فهو الذي وضع الأساس لبناء الجيل الجديد، وكان فيما أرى على جانب من العافية، تصوره النكتة الآتية:

كان الوزير علي باشا مبارك رجلاَ من أهل الجد الرزين، ومع هذا استطاع عبد الله باشا فكري أن يصف له ملاعب أوربا في خطاب يقول فيه:

(وكم رأينا في تلك البطاح، من صباح ملاح، كل خود رداح، شاكية السلاح، من الحاظ كالصفاح، مراض صحاح، وقدود كالرماح، دامية الجراح، فاتكة في الأرواح، وليس عليها لدى القانون فيما جرحت جناح، وكل ما أجترحت مباح، وهن منتشرات في تلك الجهات كعقد خانه السمط فانتثرت درره، وروض ألحت عليه الريح فتبدد زهره، فهن ظباء في هذه المراتع روائع، وأقمار من هذه المطالع طوالع، وأنوار في تلك المواضع سواطع، قد ربين في مهاد الدلال رواضع، وغذتهن بلبان الجمال لا الجمال المراضع، فبرزن كالحور، في غلائل نور، أو ورد جور، في زجاج بلور، تراهن بين الأشجار، فتراهن بعض الأزهار)

أيكتب هذا الكلام إلى وزير اسمه علي مبارك لا زكي مبارك؟

كان أسلافنا في عافية، وكانوا يرون التشبيب فنا من البيان، ولم يكن من العيب أن يوضع مثل هذا الخطاب في وثائق مجلس الوزراء. فعلى رجال الجيل الماضي ألف تحية وألف سلام!

كلمة ختامية

بهذا المقال الثالث نختم القول في توجيه الطلاب إلى فهم سريرة عيسى بن هشام، فقد أفصحنا عن أهم الدقائق من تلك السريرة، ورفعنا عن المؤلف بعض الآصار التي أثقله بها معاصروه وأزحنا الستار عن حقائق كانت مجهولة عند الكثير من أبناء هذا الجيل

وأنا وأرجو من ينظر في كتاب (حديث عيسى بن هشام) أن يتذكرانه كتب في عصر كانت لأبنائه عقيدة أدبية، فما كانوا يخطون حرفاَ إلا بميزان، ولا كان الفتى منهم يتطاول إلى تسطير مقال إلا بعد أن يستوعب ما يصل إليه من أثار القدماء، ولا كان يتسامى إلى الأدب إلا من زود بمواهب تضمن له الخلود

وما ظنكم بجيل كان من أبنائه محمد عبده وسعد زغلول وتوفيق البكري واحمد تيمور وإبراهيم المويلحي ومحمود البارودي وعبد الله فكري وعلي يوسف وعبد العزيز جاويش؟

لا تنسوا أن الجيل الماضي كانت له عقيدة أدبية وعقيدة قومية. لا تنسوا أنه ترك أثاراَ تستحق الدرس والاقتداء. لا تنسوا أنه لا يليق أن نكون أقل منهم حرصاَ على التلحيق، ونحن نملك من الوسائل ما لم يكونوا يملكون

إن (حديث عيسى بن هشام) صورة من صور القلق الاجتماعي، وهو يشهد أن مؤلفه كان يتجه إلى خلق جيل جديد يسلم من أوضار الجيل العتيق إن وقعت في الكتاب سجعة لا ترضيكم فلا تبتسموا ابتسام السخرية، فهي الدليل على ابتلاء المؤلف بمحنة الفنون على أني أحب أن تكون لكم عيوب المويلحي، وهي عيوب رجال، وأكره أن تكون لكم محاسن أهل الغفلة، وهي محاسن أطفال

كونوا مبدعين في جميع الميادين، وكونوا أنتم أنتم، ولتكن صورة الوجه هي التي تميزكم بعد صورة الأسلوب.

زكي مبارك