مجلة الرسالة/العدد 487/الأزهر والإمام محمد عبده
مجلة الرسالة/العدد 487/الأزهر والإمام محمد عبده
للدكتور محمد البهي
. . . أليس من العجب أن يكون من أبناء الأزهر من بعث إلى أوربا باسم محمد عبده، ثم لا يكون الأزهر معنياً بتاريخ محمد عبده وأفكار محمد عبده؟. . .
إحدى الملاحظات التي ساقها الأستاذ الفاضل (م. . .) في عدد الرسالة 482 الصادرة في 17 رمضان سنة 1361 هـ تحت عنوان ذكرى الأستاذ الزنكلوني
أن الأمام محمد عبده والأستاذ الزنكلوني لم يكونا للأزهر وحده ولا شك؛ وان الأزهريين لم يعرفوا محمد عبده والزنكلوني وامثالهما ولاشك. ولهذا إذا لم يذكروا محمد عبده ولم يذكروا الزنكلوني لا يعود عدم ذكرهما إلى إهمال أو إلى نكران الجميل.
الأزهريون لم يعرفوا محمد عبده، لا لانهم لم يريدون أن يعرفوه، أو لأنهم أو لأنهم أرادوا أن يعرفونه فخفي عليهم، بل لأنهم دفعوا إلى عدم معرفته ودفعوا أيضا إلى استمرارهم على عدم معرفته. فقد شاع عن محمد عبده أنه شاذ وأنه خارج. . . وأخيرا شاع عنه أنه حر. وشاع كل هذا عن محمد عبده لأنه كان يكتب، وكان يفكر، وكان يتفلسف، ولأنه أراد أن يكون من الأمة، وأراد أن تسمع الأمة لأزهره وأن تسترشد بإسلامه في قضائها، في تثقيفها، وفي تسوية مشاكلها الاجتماعية والقومية، بينما كان الأزهريون في وقته يقرءون فقط، ويقلدون فقط، ويتبعون فحسب، وبينما كانوا يؤثرون العزلة ويؤثرون المحافظة على الأوضاع التي سبقوا بها في القضاء والتهذيب على رغم تجدد الزمن وتعقد مشاكل الإنسان تبعا لعوامل التطور المختلفة.
محمد عبده - أصاب أم أخطأ - كان في طرف، والأزهريون - أصابوا أم أخطئوا - كانوا أيضا في طرف مقابل له. ولو كان الفكر الفلسفي هو السائد في التوجيه العقلي أيام محمد عبده لعرف محمد عبده وارتفعت الهوة بينه وبين الأزهريين في زمن وجيز. لأن الفكر الفلسفي هو التأمل قبل إصدار الحكم، والروية في ربط الأسباب بالمسببات، وحرمان العاطفة - أيا كانت عواملها أو أيا كان لونها - من التدخل في قضاء العقل. ولكن التقليد هو الذي كانت له السيطرة على العمل العقلي الأزهري، وبقي أيضا مسيطرا بعد وفاة محمد عبده، ولم تزل كفته هي الراجحة الآن وإذا كانت السيطرة للتقليد في توجيه جماعة من الجماعات، وفي عملها العقلي، لا يتحدث المؤرخ النفسي للجماعة عن أرادتها أو عن عدم أرادتها، بل عن دفع وانسياق في اتجاه معين محدود
نعم إن محمد عبدة كان له تلاميذ من الأزهريين، وله منهم ألان عدد غير قليل - وان اختلفوا في الإيمان بفكرته درجات - ومع ذلك لم يعرف محمد عبدة من الأزهريين تمام المعرفة حتى يرددوا فكرته ويخلدوا في نفوسهم ذكراه؛ لان اللحظة التي يعرف فيها محمد عبده هي اللحظة التي يتم فيها تحويل الجامع الأزهر إلى جامعة؛ وهي اللحظة التي ترتفع فيها قيمة الفكر الفلسفي لدى الأزهريين أنفسهم في البحوث العلمية وفي التفكير الأزهري
ولهذا ليس من العجيب أن لا يكون الذي فكر في إرسال بعوث أزهرية إلى أوربا باسم محمد عبده من الأزهريين. فعبد السلام الشاذلي باشا هو الذي فكر في تخليد ذكرى محمد عبده، وهو الذي أرسل باسم محمد عبده بعثة من الأزهر إلى أوربا على نفقة مجلس مديرية البحيرة، وهو الذي عمل على ربط ما للشرق الإسلامي من ثقافة عقلية وتاريخية بما للغرب من إنتاج عقلي منذ العصر الذي طرح فيه سلطة التقليد وهو عصر النهضة. وهو من أجل هذا قد ساهم في تكوين عنصر من المثقفين داخل البيئة المصرية يجمع بين ما للعنصر الشرقي المحض وما للعنصر المدني الآخر من مزايا؛ يضم إلى تراثه الشرقي الماضي ما يتلاءم من نتاج الغربيين.
و (ليس من العجيب كذلك ألا يكون الأزهر معنياً بتاريخ محمد عبده وأفكار محمد عبده). لأن الأزهر إنما يعني بتاريخ محمد عبده وأفكار محمد عبده إذا تمت معرفته لمحمد عبده.
وليس تمام معرفته بسرد تاريخه أو التحدث عن أفكاره، وإنما يكون أولاً بتهيئة العقلية الأزهرية لقبول محمد عبده وأمثال محمد عبده، وذلك بإبراز مزايا التفكير الفلسفي وسط البيئة الأزهرية، فإذا اتضحت هذه المزايا لدى العقل الأزهري عرف محمد عبده من نفسه؛ لأن إنتاج محمد عبده أكثر شبهاً بإنتاج ديكارت. كل منهما قصد إلى التوجيه أكثر من محاولة الابتكار في الفكرة والرأي. فمحمد عبده نادى بالا يكون للتقليد سلطان على التفكير في حياتنا العقلية؛ وديكارت أقام منهجه في البحث على إبعاد السلطات التي كانت تهيمن في وقته وقبل وقته على التفكير الأوربي وهي كلها مظاهر لشيء واحد، هو التقليد وليس لنا أن نيأس من قرب الزمن الذي يتمكن فيه الفكر الفلسفي من نفوس الأزهريين، على رغم أننا نعرف أن ممن يشرفون على التوجيه العلمي في الأزهر من يحاول أن يفهم أن الفلسفة مادة، وأنها يجب أن تخضع في بحوثها إلى المنقول أو إلى التقاليد، أو على الأقل يجب أن تؤمن في بحوثها الميتافيزيكية بسلطان بعض المؤلفين في العقيدة، لهم صبغتهم الحزبية في كتبهم المذهبية - لأنه من الشيوخ المحبب إلى نفوسهم ترديد معارف الماضي فحسب، والوقوف في دائرتها دون مجاوزتها إلى الحاضر، بل من هؤلاء الذين لا يزالون شديدي النفرة من اسم الحاضر، ومعارف الحاضر، ورجال الحاضر - ليس لنا أن نيأس لأنه يوجد في الصف الأول في قيادة التفكير الأزهري أمثال: المراغي وعبد المجيد سليم وشلتوت. . . ثم من ورائهم الشبان الأزهريون
حقاً، فيه رغبة قوية من الشبان الأزهريين في تعرف محمد عبده ومشايخ محمد عبده وتلاميذ محمد عبده ممن تتكون منهم المدرسة الجديدة في الإصلاح الديني والتفكير العلمي، ولكن مع ذلك، ليس من السهل أن تلقى عليهم أفكار محمد عبده، أو جمال الدين الأفغاني، أو أمثال الزنكلوني، قبل أن نهيئ هؤلاء الشبان ونزيل من نفوسهم، أو على الأقل نضعف عندهم ما تكون من عقيدة ضد محمد عبده، منذ أن درست لهم (السنوسية)، وقرىء عليهم تفسير (الخازن)
من الخير للأزهريين أن تتم معرفتهم بمحمد عبده؛ ومن الخير للشبان الأزهريين - على الخصوص - أن يعلموا من هو محمد عبده كقائد وإمام في الحركات الإصلاحية الدينية والعلمية والقومية، وأن يعلموا من هو محمد عبده في المحافظة على الكرامة الشخصية والكرامة الدينية، وأن يعلموا من هو محمد عبده في عزلته إذا اعتزل، وفي تقديره للأفراد والجماعات إذا اتصل واختلط؟
من الخير للإسلام ولمستقبل الدين أن يعرف الأزهريون دينهم كما عرفه محمد عبده، وأن يفهموه عقيدةً ونظرةً في الحياة لا أن يميلوا به إلى حرفة ومهنة لطائفة
ومن الخير للأمة المصرية أن يعرف الأزهريون محمد عبده؛ ومن الخير للدولة المصرية إذا ابتغت انسجاماً داخل الأمة المصرية، أو على الأقل قرباً في التفكير المصري والعقلية المصرية أن تنشئ باسم محمد عبده كرسيّا في الأزهر كما تعمل على إنشائه في جامعة فؤاد الأول
وأخيراً أقول للأستاذ الفاضل (م. . .): إن من بعثوا إلى أوربا باسم محمد عبده لم يهملوا محمد عبده عملهم العلمي؛ فقد بدأت التعريف بمحمد عبده في الحياة الجامعية الألمانية بعقد موازنة بين نظرته إلى الإسلام ونظرة هيجل إليه في رسالة صغيرة؛ ثم كتبت عنه رسالة الدكتوراه في جامعة هامبرج. وهنا في أزهرهم لم يهملوه أيضاً. وإنما رأوا مهمتهم أولاً وبالذات في التوجيه، إذ فيه الضمان الكافي لقبول تاريخ محمد عبده، وأفكار محمد عبده، وبالتالي للتعرف بمحمد عبده.
محمد البهي