مجلة الرسالة/العدد 484/المحاباة ومصدرها الاجتماعي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 484/المحاباة ومصدرها الاجتماعي

مجلة الرسالة - العدد 484
المحاباة ومصدرها الاجتماعي
ملاحظات: بتاريخ: 12 - 10 - 1942



للأستاذ عبد الله حسين

في يوم صائف من أيام عام 1940 كنت مع بعض زملائي المحامين في غرفتهم في دار محكمة استئناف مصر الأهلية، وانتظمنا جماعة نعرض لشئون الدنيا العامة والخاصة بشتى فنون الحديث وألوان التخريج والتأويل، ونترصد لها بالنقد والتأميل. فبدهنا الزميل المحترم عبد الرحمن الرافعي بك، وهو من هو في أمثال هذه المعالجات والبحوث، بكلام في المحاباة:

تحدث الزميل مستغرباً متسائلاً: ما بال حكومات مصر قد بليت ببلية المحاباة، كأنها أساس من أسس الحكم، لا يستوي على حال مرضية إذا لم تكن في حساب الحكام؟ ثم سأل بعدئذ: أليس هناك علاج لهذه العلة الفاشية؟

وقد سارعت يومئذ إلى الإجابة على هذين السؤالين قائلاً عن السؤال الأول: إن المحاباة ليست خلقاً لحزب بذاته أو بلية ابتلى الله بها عهداً دون عهد أو حكماً دون آخر؛ بل إنها تستند إلى ما ورثنا من عادات. ذلك أن الأمة هي الصورة الكبرى للأسرة؛ وما دمنا نعمد في أسرتنا إلى إيثارها بالغنم والخير ولو كان هذا على حساب أسرة أخرى أو جميع الأسر الأخرى، فليس لنا أن نشكو ظاهرة المحاباة في الأسرة الكبرى: الأمة.

إن عاداتنا وأخلاقنا لتقتضينا أن نعني بشئون أبنائنا وأبناء عمومتنا وخؤولتنا وأصهارنا، فإذا قام منا سيد أو حاكم، وزيراً كان أو غير وزير، اقتضته الشهامة أن يؤثر ابنه على ولد أخيه، وولد الأخ على ولد العم، وهذا على من كانت صلته بعيدة. فإذا اطمأن الحاكم أو السيد على الخير قد وصل إلى أحد من هؤلاء على الترتيب والتعاقب، وكانت هناك فضلة من هذا الخير، لزمه أن يؤديها إلى الصديق أو المواطن في الفرية ذاتها أو إلى ابن حزبه

أما إذا تغشى صاحب الكلمة والنفوذ وهم من تلك الأوهام، أو رجس من تلك الأرجاس، التي ينعتونها على أسلات الأقلام أو منابر الخطابة والوعظ والدعوة السياسية، بالنزاهة التامة والعدالة الحق، فحدث ما شئت عما يصيب هذا الرجل من ألوان التشهير، فهو - عند ذويه وأصهاره وبنى قريته وبين صُدقانه - الخارج على الأسرة، المارق من المروءة، الجاحد للفضل، المختلس لثقة ناخبيه إن كان منخوباً لعضوية إحدى الهيئات، الضعيف الرأي، الأناني، الخائر العزيمة؛ بل لقد يتمادى الطاعنون في طعنهم، فيرمونه بالخيانة لأن من ينكص عن خدمة ذويه وأصدقائه وأسرته، لا يرجى منه خير لوطنه وأمته. أو بأنه في حقيقته لم ينحدر من صلب آله وقومه!

فمن منا - من المصريين يرضى أن يدرج مع الساقطين في المروءة والوطنية؟

فهذه المحاباة - والأمر كما أوضحنا - ليست شيئاً مستغرباً وليست حادثة موقوتة يرجى علاجها إذا ما ولى عهد وخلفه آخر، أو إذا ما سقط سيد وقام بالأمر بعده سيد آخر، مهما يختلف مداها سعة وشططاً وعلة وتعليلاً

إنها ليست بحدث الأحداث كما يغلو بعض الكاتبين، وليست بطارئ ظهر في هذا الزمان

بل أن المحاباة - وهي من خلق الإنسان منذ الخليقة - تقع في الصدر من أخلاقنا وتستقل بالصميم من عاداتنا

إنما الجديد فيها أننا نهضنا نهضة سياسية جديدة، فأصبح لنا أحزاب سياسية ذات أنصار وأنصار للأنصار، وأصبح لنا برلمان ونواب وشيوخ، ولابد لمجيء هؤلاء من الناخبين، ولا سبيل إلى الفوز بالأصوات إلا بخدمة المصوتين أو بذل الوعد لهم بتأديتها

ومن ثم انتقلت المحاباة من ميدان القرية، حيث يشتد النزاع حول العمديات والشياخات وتقديم أنفار القرعة وحول الميراث وحدود الأطيان وما يجب لها من ري وصرف - إلى الحكومة، فكان ما شهدنا ونشاهد، وما من أجله تناول الناقدون ما تناولوا من الإنحاء على المحاباة والمحابين

أما الإجابة على السؤال الثاني، وهو كيف نعالج هذا الداء، ونبرأ من هذه العلة - فإن الواجب أن نعمد إلى تقوية الرأي العام، فإن رأينا العام ضعيف، أو قل إنه قوي حيناً، ضعيف أحياناً. . .

أعني بتقوية الرأي العام، تقوية المعنى الوطني، أي أن تقوم تربية النشء على تقديم مصلحة الوطن والدولة على مصالح الأفراد التي تتعارض مع تلك المصلحة

هذه واحدة؛ وواحدة أخرى علينا أن نبذل ما نستطيع لكي نجعل الانتخابات في جميع صورها وأن نجعل ألوان التأييد للحكومات والثقة بها بمعزل عن الوظائف والتعيين فيها والترقية إليها. . .

وأني لا أقدر في أسف شديد وألم عميق، أن أجيالاً قد تمضي قبل أن نستطيع أن نقضي على هذا الداء قضاء تاماً، وأن كل ما نطمح إليه يجب أن يكون مقصوراً على تخفيف ويلاته، والحد من مضاعفاته. وفوق كل ذي علم عليم.

عبد الله حسين