مجلة الرسالة/العدد 483/العبقرية
مجلة الرسالة/العدد 483/العبقرية
ليست العبقرية ملكة بسيطة، بل هي في الحقيقة مجموعة قوى أو
ملكات متحد بعضها ببعض. هذه القوى والملكات يمكن إرجاعها إلى
ثلاث رئيسية هي:
(ا) مخيلة حية تثيرها للعمل حساسية شديدة أو عاطفة مشبوبة متقدة. . .
(ب) عقل قوى مفكر ناضج. . .
(جـ) إرادة قوية حازمة
ونحن لا يمكننا أن نعرف الفكر الخالق إلا خلال ما يصدر عنه من أعمال، ولا يمكن أن تنفصل العبقرية عن القوة الخالقة التي توجد بالضرورة في الإرادة القوية
هذه العناصر السيكولوجية لازمة بالضرورة للعبقرية، ولا بد أن توجد كلها عند كل عبقري، ولكنها تختلف في واحد عنها في آخر، بمعنى أنها توجد بنسب متفاوتة باختلاف العباقرة وإن وجدت فيهم جميعاً، فليس هناك عبقري ينقصه أي عنصر منها بل تتحد كلها فيه وإن ساد عنصر من تلك العناصر على بقية العناصر الأخرى عند عبقري معين، وساد عنصر آخر عند عبقري آخر وهكذا، فهي لازمة كلها لإنتاج الأعمال العظيمة التي تحتاج إلى عبقرية خاصة، سواء أكانت تلك الأعمال إنتاجاً فنياً أم اكتشافاً علمياً أم صناعياً أو غير ذلك.
وهناك نهاية معينة يدركها الذهن القوي الراقي، وهي نهاية أو غاية أسمى وأعظم من أن تتصورها الأذهان الشعبية العامة غير المستنيرة أو ترقى إليها. هذه النهاية نسميها تصور أو إدراك العبقرية هذا التصور أو الإدراك موجود، ولكن يجب إيجاد وسائل تحقيقه، أي يجب أن نعرف كيف نحقق تلك النهاية أو الغاية. إن المخيلة الحية والعاطفة المشبوبة تجعلاننا نتصور تلك النهاية ونحسها ونرغب فيها بشدة، وتقدمان لنا ما وسعهما من وسائل، ولكنها وسائل مضطربة في الحقيقة غير مرتبة ولا منظمة. فالمخيلة والحساسية والعاطفة لا يمكن للإنسان أن يعمل بها وحدها شيئاً ذا أهمية إن لم يتدخل العقل الآمر الناهي في الأمر فيختار الأحسن ويترك ما لا يصلح ويربط بين ما يختار ويرتبه وينظمه. فعمل العقل - في كل شيء - هو الاختيار والترتيب والربط. ثم يجيء بعد ذلك دور الإرادة، فإنها ه التي تتم العمل المدرك المتصور بتحقيق تلك الوسائل المرتبطة في الذهن. والعالم مليء بالأذهان التي لا تنقصها المخيلة ولا الانفعال، حتى ولا ملكة الترتيب والتنظيم والربط، ومع ذلك فهي أذهان مجدبة لا تنتج شيئاً بل تعيش هي وحدها فيما تتصور وتحلم به؛ وقد تكون تصوراتها جميلة، ولكنها لا تخرجها للناس، لأنها تفتقر إلى الإرادة والصبر، وهما عنصران هامان في الإنتاج. وهناك عنصر أخير هو الإلهام يقدمه لنا في الحقيقة الحساسية - طبيعية أو مكتسبة - والمخيلة، ولذلك لا يمكن للإنسان أن ينتج بالإلهام وحده شيئاً خالداً باقياً.
ولابد للعبقري من الصبر والمجالدة والصراع، حتى يتوصل إلى ما يصبو إليه. وقد قال بيفون إن العبقرية صبر طويل ويمكن أن نمثل لذلك بالعالم الرياضي الكبير نيوتن، فهو - باعترافه - لم يصل إلى تلك النتائج العلمية المدهشة إلا بصبره وطول أناته وقوة إرادته. وقد سئل كيف أمكنه اكتشاف الجاذبية الأرضية؟ فقال: بطول تفكيري فيها دائماً. ويستلزم الصبر إرادة قوية. ووجود الإرادة كعنصر في شيء ما يعني وجود الحرية بالضرورة، فلا إرادة إن لم تكن هناك حرية اختيار، وما دامت الإرادة عنصراً في العبقرية فإن هذا يبعدنا عن النظريات التي تجعل من الرجل العبقري نتاجاً ضرورياً أوجدته الظروف والبيئة، كما تنتج النبات والحيوان، أي أنها تجعل منه شيئاً أوجدته القوى الطبيعية بالصدفة السعيدة فقط، وتعتبره غير مسؤول عن أفعاله وإنتاجه إلا كما يعتبر حصان جميل مسئولاً عن جماله، أو شجرة عالية مشذبة عن علوها وتشذيبها، والواقع عكس ذلك تماماً، فهناك إرادة، وهناك بالتالي حرية
ولكن إذا كانت كل تلك العناصر تدخل في تكوين العبقرية، أفلا يمكن أن يكون للتربية أو التعليم أثر في تكوينها كذلك؟ إن القول بأثر التربية في تكوين العبقرية يبدو لأول وهلة غريباً وشاذاً لأن العبقرية هبة طبيعية، ويظهر أنها أولية وسابقة على كل اكتساب، ومستقلة عن كل تربية مقصودة. والواقع إن الجانب الطبيعي في العبقرية هو الأكبر، فالمخيلة والحساسية والعقل والإرادة كلها هبات طبيعية، ولكن ذلك لا ينفي أن يكون للتربية أثر في هذه الملكات. فيمكن توجيه المخيلة مثلاً نحو الخير والشر بالتربية والتعليم والقراءة وغير ذلك. كذلك تنمو الحساسية وتزيد في هذه الناحية أو تلك تبعاً لما يصادفنا من الظروف والملابسات المختلفة والمشاركات الوجدانية والنفور؛ كذلك يقوي العقل والإرادة بالعمل والتمرين. فالتربية إذن لا يمكنها - أن تخلق العبقري؛ توقظ فيه جرثومة عبقرية وتساعده على الوصول إلى مبتغاه. وليس هناك - قبل كل شيء - هوة عميقة تفصل بين النبوغ والعبقرية، وإن تعليماً وتربية صحيحين وكاملين يمكنهما أن يخرجا للأمة عدداً من القيم العليا والأذهان القوية في جميع أنواع النشاط العقلي، أكبر مما ينتج لو تركنا أمر تكوين الشخصية للصدفة أو الاتفاق فحسب. وتضطلع الأمهات بأكبر نصيب من التربية؛ فإن أثرهن كبير جداً على أطفالهن. والمشاهد إن معظم العباقرة - إن لم يكن كلهم - كانت أمهاتهم نساء ممتازات ذوات قلوب كبيرة وحنان بالغ ووجدانات حارة توقظ في الأطفال قواهم النائمة الخامدة، وتضيء ما أظلم من نفوسهم. وقد شبه أحد الكتاب الإنجليز فعل الأم على طفلها بفعل أشعة الشمس على الفاكهة
هناك نقطة أخيرة يجب الإشارة إليها وهي تتعلق بتشبيه بعض المفكرين العبقرية بالجنون، وعلى رأس هؤلاء المفكرين ليلى فقد يرى ليلى أن العبقرية ضرب من الجنون، وحاول أن يطبق نظريته هذه على سقراط وبسكال، فكان يرى في سقراط رجلاً معتوهاً مدعياً للوحي؛ وأن الشيطان الذي كان يسمعه في سجنه إنما هو صوت خيالي ابتدعه الفيلسوف نفسه من عندياته، فليس ثمة وحي في الحقيقة أو شيطان. ولكن يمكن الرد على ليلى بأن شيطان سقراط إنما هو العناية الإلهية نفسها تخاطب نفس الفيلسوف وضميره، ثم شخص هو هذا الصوت الباطني كي يقربه إلى أذهان تلاميذه
نعم لا شك أن بعض العناصر التي تدخل في العبقرية تدخل أيضاً في الجنون، فالمخيلة الفياضة مثلاً إذا اعتَبَرت تخييلاتها وهذيانها وأحلامها حقائق واقعة كانت هي الحماقة نفسيها، فهناك في الواقع صلة بين العبقرية والجنون، وهذه الصلة ترجع إلى الدور الذي تلعبه الحساسية الشديدة التهيج والمخيلة المتقدة المشبوبة في العبقرية إذا لم يسيطر عليهما العقل. فمن السهل إذن أن تختلط معالم العبقرية بالجنون إذا غفا العقل وغفل عن القيام بمهمته في الرقابة، ولكن من السهل أيضاً التمييز بين الجنون والعبقرية؛ ففي الناحية الأولى تسيطر العناصر السفلي: المخيلة والإحساس، بينما ترجع في الناحية الأخرى السيطرة إلى الملكات العليا السامية: العقل والإرادة أحمد أبو زيد
كلية الآداب - جامعة فاروق الأول