مجلة الرسالة/العدد 483/الحديث ذو شجون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 483/الحديث ذو شجون

مجلة الرسالة - العدد 483 المؤلف زكي مبارك
الحديث ذو شجون
ملاحظات: بتاريخ: 05 - 10 - 1942


للدكتور زكي مبارك

منظر لن أنساه - شعراء مبدعون - فكاهة عراقية - الحرية

- شيطنة مصرية - مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة

التوجيهية

منظر لن أنساه

في صباح يوم الجمعة الماضي توجهت مبكراً إلى سنتريس. فلما وصلت السيارة إلى القناطر الخيرية هالني أن أرى جماهير كثيرة معوّقة عن المسير. ونظرت فرأيت (هَوِيس الرياح التوفيقي) مفتوحاً، وهي فرصة يومية لمرور السفائن إلى الشمال وإلى الجنوب

ونزلت إلى الشط للتفرج فرأيت ثلاث سفن يصدها التيار عن دخول الهويس صد بلغ الغاية من العنف، فقدرّت أننا سنعوّق عن المسير زمناً غير قليل. عند ذلك بدا لي أن أرجو أحد الملاحظين إنزال الجسر الخشبي لحظات إلى أن يستطيع البحارة تسديد هذه السفن الثلاث، وفي هذا إنقاذ للمسافرين من الانتظار، ولأكثرهم شواغل تستوجب الاستعجال. فأجاب الملاحظ بأن الجسر يُفتح نصف ساعة لمرور السفن بأمر وزارة الأشغال، وقد بقى من الوقت عشر دقائق، فإن عجز هؤلاء البحارة عن تسيير هذه السفن قبل انقضاء الوقت المحدد فسيُرد الجسر ويمر الطريق، ولا يظفرون بغير الانتظار المملول!

فرجعت إلى الشط مرة ثانية لأشهد أعظم معركة معاشية رأتها عيناي

ما كان أولئك البحارة ناساً، وإنما كانوا من مردة الجن!

لم يكن بدٌّ من مصارعة تيار عنيف عنيف، تيار يُسمع هديره من مسافات ويُنذر من يصاوله بأفدح الخطوب

كانت المقاذيف بأيدي الملاحين، كالسيوف بأيدي المحاربين، وكانت القلوع تُطوى وتُنشر في اللحظة القصيرة مرات في اتجاهات مختلفات، وكانت الحبال تُرمى هنا وهناك فيتلقفها المتلقفون بأمضى وأسرع من نظرة البرق اللماح

وعلى الشط وقف أشخاص يصيحون صيحات الإرشاد والتوجيه بنبرات تقرُب م الصراخ

دار رأسي من هول المنظر، وفكرت في مساعدة هؤلاء المجاهدين، ولكن ماذا أملك ولم أتلق في علم الملاحة أي درس؟

وطاف بالخاطر أطياف من ماضي الجهاد في هذه البلاد، الجهاد في سبيل الرزق الحلال، فهؤلاء الملاحون هم الذرية الباقة من رجال كانوا أسبق الآدميين إلى اتخاذ الأنهار وسائط لنقل المنافع من أرض إلى أرض، وكان لهم في الملاحة مهارة راعت القدماء. . . ألم يحدثنا ياقوت في معجم البلدان عن بُحيرة مصرية كان الملاحون فيها ينتفعون بالريح أغرب انتفاع، فيسيّرون السفائن إلى الشرق بمئونة ريح تتجه إلى الغرب!

ثم نظرت فرأيت على إحدى السفن حصيرة منشورة، فوقها أرغفة صغيرة تشبه أقراص (البتاو) والبتاو كلمة مصرية قديمة معناها الرغيف

ومن أجل هذا (البتاو) يجاهد أولئك الملاحون

المعركة لا تزال دائرة، ولم يبق من الوقت غير ثلاث دقائق، فكيف تمر السفائن الثلاث في دقائق ثلاث؟

والعمال فوق الجسر ينتظرون انتهاء الوقت ليعيدوا قوائم الطريق إلى ما كانت عليه، فأسير ويسيّر المسافرون إلى النحو الذي نريد!

ولكني أنسى نفسي وأنسى طريقي، فما يهمني إلا أن ينتصر الملاحون على التيار ليدخلوا (الهويس) بسلام آمنين

هِيلا هُب، هِيلا هُب، هِيلا هُب!!!

وانتصر الملاحون قبل ثواني ثلاث يحل بعدها الميعاد

وفي تلك اللحظة شعرت بفرح لا نظير له ولا مثيل

تباركت أسماء الله! فهو النصير لمن يتوكل عليه في مقاومة التيارات

شعراء مبدعون

يقال ويقال إن الشعر قل في مصر، فلم يبق فيها من الشعراء غير آحاد، ومع هذا رأيت في موقفي ذاك بقنطرة الرياح التوفيقي عشرين شاعراً على جانب عظيم من الإجادة والإبداع في الترنم والغناء هنالك عشرون شاعراً، أو يزيدون من الطراز النفيس

فمن هؤلاء الشعراء؟

جماعة من العصافير اللطاف بَنَت أعشاشها في فجوات نقرتها نقراً بدخائل ذلك الجسر الصخاب الضجاج

كان المنظر في غاية من الروعة والجلال: على يميني بحارة يقاتلون الأمواج ليدخلوا (الهويس) قبل الوقت الذي حددته وزارة الأشغال، وعلى يساري صحابة من العصافير تقاتل لتنتصر في ميدان العواطف، فترف من هنا إلى هناك، رفيف الروح من القاهرة إلى بغداد

لن أنسى أبداً تلك العصافير بتلك الزقزقة الشعرية، ولن أنسى أنها فطنت إلى مأوى يصد عنها شر الآدميين

العصافير تأوي إلى أعشاشها قُبيل الغروب، ولا تخرُج من أعشاشها إلا بعيد الشروق، وهي تُهد هدّاً بقدوم الليل.

فما صبر عصفور على النوم ساعات طوالاً وحول أذنيه هدير يصفُر بجانبه هدير (سَدَّة الهندية) في سمع الفرات؟

هو عصفور شاعر يطيب له أن يهدأ على ضجيج الأمواج

لو بحث هذا العصفور عن مكان هادئ لوجد ملايين من القلوب الهوادئ، وبعض القلوب تهدأ فتسكن سكون الموت، فلا يأوي إليها غير البوم النعاب

في ضمائر (القناطر الخيرية) شعراء من العصافير اللطاف،

وقد يكون لهذه العصافير نظائر بقناطر أسيوط وقناطر أسوان. . .

مصر وطن الشعر والفن والجمال، وهي الغُرة اللائحة في جبين الوجود

فكاهة عراقية

وبمناسبة الملاحة النهرية أسوق فكاهة عراقية ما خطرت في بالي إلا ابتسمت. وخلاصة تلك الفكاهة أن أحد المسافرين سأل ملاَّحاً في دجلة عن أجر الركوب من بغداد إلى البصرة؛ فأجاب الملاح: عشرة دراهم مع جر الحبال، وعشرون درهماً بدون جر الحبال. ففكر المسافر قليلاُ، ثم رضي بالحال الأول مراعاة للاقتصاد! فكاهة في غاية من العذوبة، ولكنها تحتاج إلى شرح، فأكثر القراء لا يعرفون حكاية جر الحبال.

أظنهم يعرفون، فلنُعف هذه الفكاهة من الشرح، لئلا تَبُوخ!

الحرية، الحرية!

وقف (المترو) ظهر اليوم عند مدخل مصر الجديدة، ثم طال به الوقوف، فنزلت لأعرف السبب، فرأيت قطارات كثيرة يعاني ركابها مثل ما نعاني من التعطيل، وكان السبب أن قطاراً أُصيب بعطب فعطَّل جميع القطارات

والتفت فرأيت الأستاذ سعد اللبان ينتظر مع المنتظرين، فوجهت نظره إلى الفرق بين (المترو) و (الأوتوبيس)

- أتريد يا دكتور أن تستغل هذا المنظر لكلمة في مجلة (الرسالة)؟

- أنت تعرف يا صديقي أني أنتفع من جميع مشاهداتي!

- وماذا ترى في هذا المنظر مما ينفع؟

- سأقول لقرائي وأقول. . . سأقول: إن (المترو) حين يُعطِّب منه قطار تُعطِّل جميع القطارات، ولا كذلك الأتوبيس

- أوضح ما تعنيه بعض الإيضاح

- المترو يسير في طريق مرسوم تحدده هذه القضبان، فهو في حقيقة الأمر مسجون؛ أما (الأتوبيس)، فيسير في الطريق كيف شاء، وهو لا يعطل أخاه إن أُصيب بعطب في الطريق

- وإذن؟

- وإذن تكون الحرية أساساً لكل فلاح

- ثم ماذا، على حد تعبيرك؟

ثم تكون الأخلاق الفردية والقومية مما يتأثر بالتفاوت في مثل هذا النظام؛ فالرجل الذي يسير على منهاج واحد طول حياته يُعطّل عن المسير من وقت إلى وقت، والأمة التي تلتزم خطة واحدة في حياتها السياسية والاقتصادية تعطل عن الانتفاع بما يجد في الدنيا من تطورات وتغيرات - أنت إذن لا تقول بالثبات على المبدأ

- المبدأ هو الغاية، وهي لا تختلف، والوسائل هي الطرائق، والطرائق تختلف من يوم إلى يوم باختلاف الظروف

- ولكن الناس لا يفرقون بين الوفاء للغايات والوفاء للوسائل!

- وهل فهم الناس جميع الدقائق في الأخلاق الفردية والقومية؟

ثم سار المترو فانقطع الحديث. . .

شيطنة مصرية

تغربت عن وطني عدداً من السنين، وعرفت الناس من جميع الأجناس، فما رأيت أذكى من المصريين. ولو دُوِّن ما يتندَّر به السامرون بالأندية المصرية في أسبوع واحد لكان ثروة أدبية تقتات بها أجيال وأجيال

وأذكر شاهدين اثنين يتصلان بشخصي، وفيهما الكفاية لمن يريد إدراك بعض الجوانب من الشيطنة المصرية:

1 - تفضلت حكومة العراق فمنحتني وسام الرافدين، فكتبت الجرائد كلمات لطيفة بينت فيها أن الحكومة العراقية أرادت أن تثيبني على ما بذلت من الجهود في توكيد الصلات بين مصر والعراق؛ ولكن إحدى المجلات اهتدت إلى السبب الصحيح فقالت: إني مُنحت ذلك الوسام جزاء بالرحيل عن بغداد!!

وتلك نكتة أدق من السحر الحلال!

2 - الأستاذ الزيات يحرص على أن أكتب في (الرسالة) بدون انقطاع. وكان المفهوم عندي أن الأستاذ الزيات يراني من أمراء البيان، ولكن إحدى المجلات قد اهتدت إلى السبب الصحيح فزعمت أن الأستاذ الزيات قال أنه يستغني بمقالي عن صحيفة اللطائف والطرائف!

والحمق المصري أجمل من العقل، ومجانين مصر هم الغاية في لطف الذوق وخفة الروح

والمأمول أن يكون هذان الشاهدان من فنون المزاح، فلا يحق ما يترتب عليهما من أحكام لها في ساحة الظلم مكان

مسابقة الأدب العربي احتفلت وزارة المعارف بتقديم الجوائز إلى الفائزين في مسابقة الأدب العربي، وكان احتفالاً في غاية من الرواء والبهاء

وكنت في الحفلة الماضية قد استهديت معالي الوزير جائزة، لأني شرحت مواد المسابقة على صفحات (الرسالة) في عامين متعاقبين، فقام أحد الطلبة في هذه الحفلة وطالبني بتقديم جوائز من مؤلفاتي لحضرات الفائزين. وقد ابتسم الهلالي باشا لهذا الاقتراح اللطيف، كأنه يظن أني سأعفيه من جائزة على الجهد الذي أبذله في هذه الدراسات. ولا يضيع حقٌّ وراءه مطالب!!

أترك هذا وأذكر أني سأستعين الله في دراسة المواد الجديدة لمسابقة العام المقبل، بعد انتهاء شهر الصوم، راجياً أن يتفضل أساتذة السنة التوجيهية بمعاونتي، فقد تكون المؤلفات المقررة فوق ما أطيق

سنلقي مرة ثالثة على صفحات الرسالة مع الطامحين من أبناء الجيل الجديد، وسيكون للقلم ميدان أو ميادين في تشريح الكتب المقررة على المتسابقين

(اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، ولو شئت لجعلت الحزن سهلاً)

بهذه العبارة كان يبدأ درسه أحد العلماء فيظفر بالتوفيق، وبها نبدأ ما نقبل عليه من الدروس، والله وحده هو المستعان، وبه التوفيق

زكي مبارك