مجلة الرسالة/العدد 482/من عجائب الناس

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 482/من عجائب الناس

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 09 - 1942


لعل ابن آدم هو المخلوق الوحيد الذي يرى الشيء الواحد بعينيه

الاثنتين أبيض تارة وأسود أخرى على حسب الصبغ الذي يلونه به

الهوى؛ فقد يتحد الشيء في ذاته وصفاته، ولكنه يختلف وا عجباه في

نظره أو في رأيه، فيكون حسناً وقبيحاً، أو خيراً وشراً، أو حلالاً

وحراماً، أو نافعاً وضاراً، لا باعتبار حقيقته في نفسه، ولكن، باعتبار

ما تقتضيه الحاجة أو الأثرة أو الرياء أو المحاباة. وبفضل هذه الميزة

العجيبة في الإنسان تعددت مقاييسه، وتضاربت أهواؤه، وتناقضت

أحكامه، وتباينت عقائده، وتفرقت سبله

ذلك كلام لا نكير فيه ولا لبس فلا أحلل ولا أعلل، وبحسبي أن أدع الحوادث تحدث والأمثلة تمثل

أذاع راديو (باري) منذ ليلتين أن فريقاً من الطلاب الهنود تظاهروا في بمباي فاعترضتهم فئة من الشرط الإنجليز فتفرقوا في شوارع المدنية أباديد بعد أن نفر منهم بجروح. ثم عقب المذيع على هذا الخبر بأن الاعتداء على المتظاهرين بالضرب ينافي المدنية، ويجافي الخلق، ويصم الذين ارتكبوه بالقسوة والوحشية والبربرية الأثيمة. وفي هذه الإذاعة نفسها أعلن هذا المذيع نفسه أن مليوناً من جنود المحور قد اقتحموا بالدبابات الثقيلة والطائرات المنقضة والسيارات المدرعة منازل (ستالينجراد) على الروس وفيهم النساء والأطفال والشيوخ والمرضى، فدكوا كل بناء، وسحقوا كل حي، وركموا أشلاء القتلى في الحجرات والطرقات على صورة لم يرها الراءون ولم يروها الراوون. ثم أخذ هذا البوق البشرى يهذي بفضل هذا النصر على المدنية، وينوه بعظيم أثره غي مستقبل الإنسانية!

كان لكاتب من كبار المصلحين حصة مأكولة في وقف أهلي، فظل يكتب وجوب حل هذا النوع من الوقف حتى نضب مداده، ويخطب في جشع النظارة وإهمال الوزارة حتى جف ريقه. وتداول الناس مما كتب وخطب جملة من البراهين الملزمة والنصوص الصريحة والوقائع الثابتة لا تدع لوجود الوقف الأهلي مبررا ولا للدفاع عنه حجة. فما هو إلا أ آلت النظارة على هذا الوقف إليه حتى بلع لسانه فلم يخطب، وكسر قلمه فلم يكتب، وفرغ لاستغلال الوقف والاستبداد بريعه فلم يقبل رقيباً عليه، ولم يقابل مستحقاً فيه!! ذكرت بهذا الكاتب المصلح ذلك الاشتراكي المفلس الذي كان يرى الرأسمالية وبالاً على المجتمع، والرأسماليين كلا على الناس. وكان يسوغ في سبيل اشتراكية الإرهاب والإضراب والمصادر والقتل، حتى ورث عن أحد أقربائه الأباعد قطعة من الأرض، فنصب على كل جهة من جهاتها الأربع لوحة كتب عليها بالخط العريض: (ممنوع المرور)!

وكان خطيب من خطباء المساجد عليه سمات التقى والزهد لا ينفك يقرع آذان المصلين بالعظات الزاجرة عن احتكار السلع وإفحاش الأسعار وإرهاق الناس في هذه السنين العجاف.

فإذا فرغ من الوعظ وخرج من المسجد جلس في حانوته الصغير يسبح لله ويقسم لطالب السكر أو الزيت أو الرز أن دكانه من كل أولئك خلاء. فإذا مجد الضعيف المضطر أعطاه بالسعر المضعف والكيل المطفف بعض ما يطلب! وهيهات أن تنفذ إليه عيون الحكومة من وراء الحجب الأربعة التي ضربها عليه من وظيفته وعمامته ولحيته ومسبحته!

هذا الشيخ يحسب أن حدود الدين لا تتعدى حدود المسجد، فإذا عالج شؤون الدنيا عالجها على النهج الذي سنه الشيطان لأوليائه؛ فهو كالتلميذ الذي يحسب أن قواعد النحو لا تتعدى (حصة) اللغة العربية، فإذا كتب في التاريخ أو في الكيمياء كان مطلق الحرية في إنشائه. ذلك أحسن الفروض، فإذا كان يعتقد أن الدين طعم الدنيا وشرك المال، كان كذلك الصوفي الهرم الذي زعموا أنه كان يركب الترام كل صباح إلى ضريح الشافعي فكلما أقبل عليه (الكمساري) يطلب أجر الركوب أدبر عنه وشغل لسانه بالذكر ويده بالتسبيح حتى ينصرف إلى غيره. ففي ذات يوم ألح المحصل على تغافل الشيخ وسأله عن (التذكرة) فلم ير بدا من أن يدفع هذه المرة ويقول في هيئة المفجوء ولهجة الذاهل: (معذرة يا بني! فقد شغلت بالله عن كل شيء)

كبير من الكبراء له في الصوم مذهب جديد؛ فهو يصوم الصوم (الصحي) الذي يفيد الجسم ولا يفسد الروح: يتعاطى كل ساعتين كوباً كبيراً من عصير العنب أو الليمون أو المانجو، ثم يمسك عن التبغ في النهار وعن الخمر في الليل، ويصر على أن تساقط أصابعه الثلاث حبات المسبحة منذ أذان العصر، وأن يفطر على أشربة رمضان وآكاله عند أذان المغرب. فإذا بلغه أن أحد مرءوسيه غفل عن آداب الصيام، في النظر أو الكلام، أخذه أخذاً شديداً (بتعليمات الوزارة)

أستاذ من أساتذة الأدب لا يحاضر إلا في الدين ولا يجادل إلا في الخلق، له في الحرية الشخصية مذهب فضفاض يسحب أطرافه السابغة على كل معروف من الدين والخلق. ثم لا يعوزه أن يجد لكل رغيبة من رغائب نفسه الشهوانة سنداً مما يسميه هو الدين والخلق. فمثله كمثل ذلك الفقيه الثقة الذي تبحر في القانون وتقصى في الإفتاء حتى لا تند عن ذهنه مسألة، ولا تعزب عن براعته حيله. فلما تولى أمور الناس وجد لكل مأزق من مآزق الضمير مخرجاً من مخارج الرأي لا يضيق عن أمر من الأمور في أي غرض من الأغراض!

هذه أمثلة من الواقع المشهود تؤيد شقاء الإنسانية بين العقل والهوى. ولو طاوعت القلم لسردت عليك ما هو أعجب؛ ولكن. . .

قالت الضفدع قول ... ردَّدته الحكماء

في فمي ماءُ وهل ين ... طق مَن في فيه ماء!

أحمد حسن الزيات