مجلة الرسالة/العدد 482/زواج الأدباء. . .
مجلة الرسالة/العدد 482/زواج الأدباء. . .
للمغفور له الأستاذ مصطفى صادق الرافعي
. . . أما احتراف الأدب، والكتابة في الصحف، ومعالجة الشعر، فهذه في الشرق ضروب من الفقر - كما هي ضروب من الحرفة - غير أنه فقر عاقل مميز يذهب بنفسه إلى السمو، وينزع إلى الحق، ويستنكف أن ينحط إلى منزلة الفقر العامي الجاهل. . .!
فالحوذي، والكناس، والمتسول، وأمثالهم من هؤلاء الذين يضطربون في معاشهم اضطراب الكرة الأرضية، يقطعون كل أربع وعشرين ساعة دورة حول أنفسهم. . . هؤلاء يتزوجون إذ لا يتورعون أن يظلموا المرأة، وأن يزيدها من فقرهم فقراً، ومن قلتهم قلة؛ ثم هم لا يبالون حاجتها من الحياة، ولكن حاجتهم منها هي. . .
فالمرأة عندهم وظيفة حياة طبيعية لا يشترط فيها إلا شرط الغريزة والعادة الاجتماعية. وفي طبقاتها في النساء من لا يصلحن إلا لهم؛ وقد أعدتهن رحمة الله إعداداً طبيعياً، وأمدتهن بنفوس صابرة قوية. . . فلها أن تعمل وترضى وتنقاد
إذ الرجل عندهن هو الجواد الأخير في عربة الحياة. . . ومتى فرشت دار الفقير بحصير فهذا هو بساطها وسجادها الفاخر!
بيد أن الشاعر والأديب وكاتب الصحف لا يرون على فقرهم إلا البساط والسجاد الفاخر والحشايا. . .!
فهؤلاء فقرهم هو الفقر، ما دام لأنفسهم، فإن اتصل بالمرأة التي تصلح زوجة لهم - أو تكون قريبة من أن صلح - لم يكن فقراً فحسب، بل فقراً وظلماً وبلاءً إنسانياً أسود. . . ومن ثم لا يتزوجون. وهذه ناحية من العدل في ذلك الفقر العاقل المميز الذي يحترف الأدب والشعر والفلسفة والكتابة في الصحف. . . فليس هنا طبيعة عبقرية ولا شعر، وإنما ذاك عمل النفس الطيبة لا غير. . .!
ولكنك واجد منهم من ينتحل العبقرية، ويقلد الشاعر الفحل والعبقري الكريم. وهذا شخص مضحك فإن الملك لا يكون بالتمثيل على خشبة المسرح. أما الشاعر الحق والعبقري الصحيح، فكلاهما واحد من ثلاثة:
الأول - أن يكون من مؤنثي الرجال، قد خلق كذلك، أو عرضت له آفة تنقص الفحولة فيه أو تمحقها محقاً. . . وهذا معه عذره البين
والثاني - أن يكون رجلاً قد طغت فيه الحياة طغيانها العصبي الشديد المجتاح، ثم يكون الفن طاغياً فيه طغيانه الخيالي العنيف التمرد - وهذا لا يصلح زوجاً ولا تصلح الزوجة له؛ فإنه إنما يرد المرأة المغلة، كأنها ضيعة من الفن الحي تغل عليه من ريعها وثمراتها. . . وقد أبى الشيطان لعنه الله أن يكون المرأة المغلة في الفن إلا امرأة محرمة. . . ومتى كان الشيطان في الأمر استطاع أن يجعل لكل امرأة فنا على حدة. . .!
ومن ههنا فسوق الكتاب والكثرة من العباقرة. وهذا سر تعزبهم وانصرافهم عن الزواج أو انصراف الزواج عنهم. وهؤلاء بركة على الفن، ولكنهم بلاء على الدين، وعلى الفضيلة، وعلى النسل، وعلى الإنسانية كلها. . . ومن سخرية الحياة بهم أن يكون العبقري العظيم فيهم هو من ناحية أخرى الحيوان العظيم. . .! وليس إبليس مغفلاً ولا أحمق فيتخذ له أدوات من المساجد والكنائس، ويشتغل ببيع السبح والتعاويذ للمصلين، بل هو كما يتخذ المرأة من المومسات في موضعها. . . يتخذ الرجل من أولئك في موضعه أيضاً. وهذا شأن ظاهر
أما الثالث - ففي رأيي أنه خير الزواج جميعاً - ولن تجد المرأة خيراً منه وهو العبقري إذا كان تام الفحولة، وكان ذا دين يمسكه وضمير يردعه، فهذا يكون الحيوان الذي فيه قيده، ويكون شذوذه كالليل الممتاز في ليالي الشهر يأتي ظلامه وفيه البدر
نعم إن هذا العبقري قد يخسر أشياء من وسائل الفن، ولكنه مستعيض عنها بخياله، ويشعر بها محروماً أكثر مما لو نالها. ثم إن الفن ليس في جميع أدواره وأغراضه تخنيثاً للحياة ولا تفككا وخلاعة ورقاعة
هناك ما هو أسمى من كل أعمال العبقري. . . هو إيجاد فضيلة عبقرية. . .!
مصطفى صادق الرافعي