مجلة الرسالة/العدد 481/رمضان
مجلة الرسالة/العدد 481/رمضان
للأستاذ يحيي محمد علي
بعد جهاد مضن في سبيل الحياة والبقاء، ونضال منهك من أجل القوت والعيش، تعود النفوس رازحة لاغبة ضارعة قد أرهقها النصب فوهنت وتراخت، وهدها الإعياء فتثبطت وتوانت، وفدحها الإخفاق فقنطت وتخاذلت؛ لتنعم في ظل رمضان بالراحة التي تجدد قواها المكدودة، والرجاء الذي يرهف عزمها الكليل، والرشاد الذي يقيها مغبة الضياع في مجاهل الغواية
وبعد خصام ملث على المال المدنس، ونزاع متواصل على الجاه المزيف، تعوج القلوب مرمضة صادية قد غمرها الإثم فصدها عن الخير، وغشيها الجشع فصرفها عن الإحسان، وتألب عليها الغرور فكبحها عن التواضع؛ لتستمد من وحي رمضان الإيمان الذي يقر في مطاويها فورة البغى، والقناعة التي تسكن في أعنائها سورة الشره، والإباء الذي يخمد في ثناياها جذوة الحسد
وبعد صراع عنيف على المجد الزائل، وتهافت شائن على السطوة الكاذبة، واندفاع يائس وراء الظنون والأوهام، تدلف العقول جائرة مفتونة حائرة قد ران عليها الباطل فحجب عنها ضوء الحق، ووطئها الغي فجنحت للطيش، ولازمها الحرص فزين لها الصلف والزهو والعجب، لتقتبس من قدسية رمضان اليقين الذي يبدد لها دجى الشكوك والريب، والهدى الذي يرفع عنها آصار المروق والزيغ، والحلم الذي يكفكف فيها غلواء الجهالة والنزق
فلا يلبث ذلك الإنسان السادر في المعصية والجامع في الشر والمصر على المنكر أن يدرك أسرار الوجود فيرق ويلين، ويترفق ولا يتمرد، ولا يتجبر ولا يتكبر، ويعرف قيمة الحياة فيتعفف عن الرذيلة ويتصون عن الرجس ويترفع عن الغش والخداع ولا يخضع لسلطان الهوى ولا يخنع لطغيان الشهوة ولا يصغي لهمسات الشيطان، ويفهم معاني الإنسانية فلا يتغلظ ولا يقسو ولا يظلم، وتتيقظ في أعماقه أحاسيس الرحمة والشفقة فيعطف ويحسن ولا يسيء، وتتفجر في أغواره منابع البر والرأفة فيرفد ويتصدق ولا يبخل
هذا هو رمضان أيها المسلم. . .
ترويض للنفس على الكفاح والمجالدة والاحتمال، وتدريب للقلب على الصبر والثبات والمثابرة، وسمو بالعقل إلى الصلاح والسداد والتبصر، وتقويم للطباع وردع للأهواء
وهو يلوح لنا من أفق الزمن هذا العام والكون مغتلم الأمواج صخاب اللجج عصوف الريح يكاد سيله العاتي يطم ويطغى فيجتاح ما ظل من آثار الحضارة المنكوبة، ويكتسح ما بقى من أطلال المدينة المحروبة، والإنسان المجنون محمول على غوارب اللجج وقد غلبه الجزع فأفقده وسيلة النجاة، وملكه الذهول فضيع عليه معالم الطريق، فلم يعرف كيف يتفادى العاقبة المؤلمة ولم يدر كيف يتقي الغب المر.
فلا ريب أن حاجة المسلمين اليوم إلى التعاون والتقرب والتضامن أشد منها بالأمس.
فليكن رمضان وازعاً للتعاون وسبباً للتقرب ودافعاً للتضامن
ولا ريب أن المصاعب التي تعانيها الطبقة الفقيرة الآن أعظم منها في أي وقت مضى.
فليكن رمضان سبيلاً لتخفيف وطأة هذه المصاعب عن كاهل هذه الطبقة.
تذكر أيها الغني المترف المتقلب في الرخاء والمتمرغ على الذهب والديباج أولئك المعوزين الذين جار عليهم الدهر، وأغار عليهم الإملاق، وأناخ عليهم الداء، وقعد بهم العجز، وادرء عنهم بالصدقة عرام الفاقة.
وتذكر أولئك اليتامى الذين نكبهم القدر فحرمهم عناية الأم ورعاية الأب وحنان الناس، وأجهدهم السغب فسلبهم الدعة والاطمئنان، وطاردهم التشرد فضن عليهم باللقمة التي تسد الرمق، والسمل الذي يستر الجسد، والمأوى الذي يلوذون به من الحر والقر، وكن لهم الردء والمساعد والمعين.
فقد يمن الله علينا بعد خلاص النفوس من الأهواء، وصفاء القلوب من الأحقاد، وتجرد العقول من الأوهام؛ بالسلامة من أوار هذا الجحيم المتأجج وخطر هذه النكبة البشرية المروعة!
وإن العقبى للصالحين.
(بغداد)
يحيي محمد علي