مجلة الرسالة/العدد 481/الحديث ذو شجون
مجلة الرسالة/العدد 481/الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
فرحة الأديب بالأديب - عصا إلياس - مع الأستاذ علوبة باشا
- هلال شعبان وهلال رمضان - تقليد جميل - آداب إسلامية
فرحة الأديب بالأديب
عبارة (فرحة الأديب بالأديب) تعد من مبتكرات ابن الرومي من حيث الصورة والمعنى، برغم كثرة النظائر والأشباه في تصوير هذا الخاطر الطريف. ومع أن أدباء هذا الزمان لا يفرح بعضهم بلقاء بعض إلا في أندر الأحيان، فأنا أفرح من أعماق القلب حين يصل إلى سمعي أن أحد الأدباء بسم له الدهر بعد عبوس، وقد أطيل الشكر لله حين يظهر كتاب يشرف أحد الباحثين، كالذي صنعت حين ظهر كتاب (عيد الأزهر الألفي) للأستاذ محمد عبد الله عنان، وكالذي سأصنع كلما ظهر كتاب جيد، ولو كان مؤلفه من ألد خصومي، فقد قضيت أعواماً وأعواماً في الحديث عن الحب إلى أن فاض القلب وامتلأ فلم يبق فيه لناثرة الحقد مكان
ولكن ما سبب هذه الخاطرة الوجدانية؟
كان ذلك بعد قراءة مقال في مجلة الجمهور البيروتية، مجلة الأستاذ (ميشال أبو شهلا) وهو أديب مر بمصر مرة فرأى الأستاذ الزيات أن يكرمني بمعرفته في مسامرة أدبية، وكان الزيات يقيم بالقاهرة (في ذلك الزمان) وكانت أسمارنا لا تنقطع، فقد كنا نتلاقى روحاً إلى روح في كل مساء عن طريق الهتاف، وإن لم نتلاق وجهاً إلى وجه إلا لحظة واحدة في كل شهرين
متى يرجع الزيات إلى القاهرة؟ متى يرجع؟
المقال الذي أنار هذه الخاطرة الوجدانية هو مقال نشره الأستاذ (إلياس أبو شبكة) وهو أديب تحرش بي عدة مرات ولم أغضب عليه لأنه حقاً أديب، والأديب الحق مغفور الذنوب
وما أثارني هذا المقال إلا بفضل ما فيه من الدلالة علي حيوية الأريحية العربية في الديار السورية، فقد ذكرني بماضينا الغالي، يوم كان الأديب لا يتألم إلا تألمت له أقطار وديار وشعوب، ثم ذكرني بحاضرنا المزعج، الحاضر المثقل بالعقوق، الحاضر الذي يقضي بأن يعيش الأستاذ أحمد علام أسابيع وهو معصوب العينين بعد عملية خطيرة، ولكنها بإذن الله مرجوة النجاح، ثم لا نقرأ في إحدى المجلات الأدبية كلمة يتوجع كاتبها لفنان كانت عيناه أجمل ما رأت العيون
لقيني الأستاذ أحمد علام مرة بعد فراق طال، فاعتذرت عن تقصيري بكثرة الشواغل، فابتسم ابتسامة العاتب ثم قال: سيكون نصيبي منك نصيب الأستاذ محمد السباعي، فلا تؤدي حقي من الوفاء إلا بعد أن أموت!
ولقيني مرةً بعد ذلك فقال: كيف تشيد في مجلة الرسالة بمواهب الأستاذ إبراهيم الجزار في إنشاد الشعر ثم تنساني؟
فقلت: إن إبراهيم الجزار مات، ولم يبق له غير وفائي
فقال: عيب الدكتور مبارك أنه يذكر الأموات وينسى الأحياء
ومنذ يومين كنت أسير في شارع فؤاد فهتف هاتف والترام يعدو به عدواً: دكتور، دكتور، دكتور! فالتفت فإذا الأستاذ عباس فارس، فقلت: نعم، نعم، نعم! فقال: هل زرت الأستاذ أحمد علام؟
ومضيت إلى ما أريد قبل أن يمضي الترام إلى ما يريد، فلن أرى أحمد علام إلا بعد أن يرفع العصائب عن عينيه الساحرتين. فهل يكرمني الله فيبرئ هذا العليل النبيل لأزور مع شواطئ النيل قبيل الغروب، ولنقول معاً بصوت الشكران للواهب المنان: هنا وقفنا قبل عشرين عاماً أو تزيد!
أنا أقدم جائزة لمن يثبت ولو عن طريق التلفيق أن الأستاذ أحمد علام نكث بعد عهد، أو خان بعد وفاء
ذلك روح لا تجود بمثله الأقدار إلا في القلل من الأحايين
فارفع العصائب عن عينيك يا أحمد لتقرأ هذه الكلمات، ولتعرف أن أخاك لا ينساك، ولتفرح (فرحة الأديب بالأديب) يا أجمل أمثلة الأدب في هذا الجيل
عصا إلياس هي عصا شعرية، وإليها يرجع الفضل في تذكيري بالواجب نحو الأستاذ أحمد علام، عصا سوداء ورثها الأستاذ إلياس أبو شبكة عن أبيه، ثم أوحت إليه هذه الأبيات اللطاف:
عروسٌ تزيتْ بزِيَّ الدُجُنهْ ... ولقَنها ساحِرُ اللّيل فنهْ
تناهتْ إلى والدي من أبيه ... وأورثنيها عجوزاً مُسِنهْ
لئن كثرت في الدُجى عن بريق ... أخافت طيوف الظلام وَجِنَّهْ
إذا هَبطَ الليلُ أرخِي لها ... على حَصَبات الطريق الأعنَّهْ
فيَسمع من صُلبها العاشقون ... وقد أرِقوا رنْةً إثْر رَنهْ
أنينٌ سَرَى من عروق إليها ... فرَنَ بها كصَليل الأسِنَّهْ
ثم وقع أن أخذ أبو شبكة إلى دار الشرطة بتهمة التجمهر في أحد الأيام السود، ولم ينج من السجن إلا بعد أن سمع بخبره وزير الداخلية، وردت إليه الشرطة كل ما أخذت منه إلا عصاه، فصرخ: هاتوا عصاي! فقال أحد الرؤساء: عصاك التي قلت فيها شعراً؟ فأجاب: نعم، عصاي التي قلت فيها شعراً. ولم تعد العصا برغم هذا الصراخ، فكتب في جريدة المعرض يقول:
(أيها الجندي الذي خطف عصاي من يدي، من أنت؟ ومن تكون؟ وأي شأن لك بعصاي، عصاي التي قلت فيها شعراً؟)
وبعد أسبوع تبارى اللبنانيون بالهدايا، هدايا العصي إلى الشاعر الذي فقد عصاه الشعرية، وسرى الخبر إلى اللبنانيين في المهاجر فتلقى عصاً من الأرجنتين وعصاً من البلجيك، وبهذا كان أعظم شاعر (مضروب) في هذا الزمان
أكرم الله أهل لبنان، فما يزالون من أمثلة الأريحية العربية!
مع الأستاذ علوبة باشا
الحديث ذو شجون، كما يقال، فليس من الإسراف أن أستطرد فأقول:
منذ عامين لقيت الأستاذ الجليل محمد علي علوبة باشا بقصر عابدين وفي صحبته الأستاذ أنطون بك الجميل، فدعاني برفق ليسر إلي إحدى نصائحه الغالية، فاشترطت أن يسمع الأستاذ الجميل خشية أن يستوحش من إبعاده عن حديث هو منه قريب علوبة باشا - أنا أقرأ مقالاتك بإعجاب
زكي مبارك - يشرفني أن يكون معالي الباشا من قرائي
- ولكن. . .
- من حق القراء أن يعلقوا على مقالاتي بألف (لكن) لأني أكتب في كل يوم، ولا يسلم المكثار من العثار، فما (لكن) عندك يا معالي الباشا؟
- لكني أراك كثير الشكاية من زمانك
- هذا صحيح، و (لكن) هل يذكر الباشا أنه كان وزير المعارف؟
- أذكر ذلك، فما تريد أن تقول؟
- أريد أن أقول: إني لم أكن أملك الدخول عليك بدون استئذان، ولهذا صحت نيتي على أن لا أرى وجه وزير إلا إن دعاني
- أنت مسرف في سوء الظن بالوزراء، فلهم شواغل لا تخفى عليك
- هذا الاعتذار مقبول، إذا كان الزائر رجلاً من أصحاب المطالب، وأنا رجل نفضت يدي من الدنيا ومن الناس، فما حجة الوزير الذي لا يرى أن أراه بدون استئذان؟
- الوزراء مشاغيل
- والأديب غير مشغول، يا معالي الباشا؟ إن للأديب شواغل وجدانية وروحية وعقلية وفلسفية لا تخطر لبني آدم في بال، وهو مسئول عن رعاية وطنه في حاضره وماضيه، فيعادي من يعادي ويصادق من يصادق في سبيل الوطن الغالي، ثم يكون جزاؤه أن يعتذر أحد الوزراء عن مقابلته بحجة أنه مشغول
- أنت مزعج، يا دكتور مبارك!
- المزعج هو الذي يطالب بالإنصاف، وأنا لم أطلب من أحد إنصافي، وإنما أسأل كيف يسرني أن استصيح بوجه أحد الوزراء فلا يتم ذلك بدون استئذان؟
- إن رجعت إلى الوزارة فسأبلغ من إنصافك ما تريد
- وإن رجعت إلى الوزارة فلن تراني ولن أراك!!
- ما هذا الذي تقول؟
- أنظر ثم انظر إلي ذلك الجانب تر (معالي. . . باشا)، فهل تراني هرعت للتسليم عليه؟ - أنت مخطئ، فهو رجل جليل
- ولكنه وزير أديب!
- وما عيب الوزراء الأدباء؟
- عيبهم أنهم كانوا معنا فطاروا عنا، وأنهم لا يحفظون حق الأديب على الأديب
- وهل تحفظ حق إخوانك إذا صرت من الوزراء؟
- حقق الله نبوءتك ليكون لي إخوان!
ثم نظرت فرأيت وزير المعارف السابق قد انصرف (بدون استئذان)، ورأيتني أهتف بقول أبن درَّاج:
سلامٌ على الإخوان تسليم يائس ... وسقياً لدهرٍ كان لي فيه إخوانُ
مضى عيشهم بعدي وعيشي بعدهم ... كأنيَ قد خنتُ الوداد وقد خانوا
هلال شعبان وهلال رمضان
في الأشعار الشعبية التي تقص أخبار الزناتي خليفة وأبي زيد الهلالي يوصف الوجه الجميل بأنه كهلال شعبان، وقد التفت إلى هذا المعنى مرات كثيرة فرأيت هلال شعبان يبدو غاية في الإشراق، بصورة تميزه عن سائر الشهور، وتجعله هلال شعبان بلا جدال، فهل يتفضل الفلكيون بتعليل هذه الظاهرة الطبيعية، وقد أدركت الجماهير آثارها منذ أزمان، ودونوها في أشعارهم الشعبية بدون تفكير في علتها الأساسية
أما هلال رمضان فهو في أغلب أحواله نحيل، وينبني على نحوله أن تراه عيون، ويغم على عيون، بحيث يجوز أن يصوم المصريون في يوم الأحد، ويصوم العراقيون في يوم الاثنين، والتونسيون في يوم الثلاثاء، كالذي وقع منذ بضع سنين
فما الحكمة في نحول هلال رمضان؟
إن راعينا الحساب الذي يجريه الفلكيون فالهلال يولد في وقت واحد، بلا تفريق بين هذا القطر أو ذاك؛ وإن راعينا (الرؤية) فهي تختلف في القطر الواحد، وقد صمنا مرة ثم افطرنا ثم صمنا، وكان لذلك حديث بين الشيخ سليم البشري والسلطان حسين، وهذا شاهد على نحول هلال رمضان
وفي حل هذه المشكلة رأى قوم أن نعتمد على الحساب لا على الرؤية، لنتقي شر الخلاف حول بداية الصوم، وهو في بعض مظاهره من المضحكات
ولكن الحساب في هذه السنة كان محرجاً، فهو يقول بأن هلال رمضان يمكث دقيقة واحدة بعد غروب شمس التاسع والعشرين من شعبان
وما دقيقة واحدة فيها الهلال بعد الغروب ثم يغيب؟
أمن أجل دقيقة واحدة نقطع ما بين الفجر والمغرب صائمين بدون تكليف من الشرع الشريف؟
لا، الرؤية هي الأساس، وهي أيضاً الشاهد على أن الإسلام يبني قواعده على أصول لا تحتمل الشك والامتراء. أصول يستوي في إدراكها العوام والخواص
وهنا تظهر الحكمة الحقيقية لاشتراط الرؤية في ثبوت هلال رمضان
تقليد جميل
قالت إحدى الجرائد أن المحكمة الشرعية جرت على العادة التقليدية في ثبوت الرؤيا فصنعت كيت وكيت
وأقول إن هذا تقليد جميل، ويعز على أن تضعف مظاهره من عام إلى عام، فلا نرى (موكب الرؤية) في الفخامة التي شهدها الآباء والأجداد
هذا الموكب هو (التهيؤ لاستقبال شهر الصيام، وهذا التهيؤ هو في ذاته قربان من أعظم القرابين، وهو يعد النفوس لروحانية هذا الشهر الجليل
أتذكرون اختلاف الفقهاء في صحة الصيام لمن فاته أن ينوي الصيام؟
هذا دليلٌ على أن النية هي الأساس في جميع الأعمال الأخلاقية، والنية رياضة تقوى بها عضلات النفوس. والنفوس كالأجسام لها جوارح وعضلات وأعضاء، ولكن أكثر الناس لا يفقهون
آداب إسلامية
إن من يقرأ كتب الفقه الإسلامي يعجب من ترفق الإسلام بالصائمين، فهو لا يفرض الصوم على من يتأذى بالصوم لسبب من الأسباب، ثم يفتح له باب التحرر من تلك الفريضة بتعويض خفيف تقدر عليه أكثر الجيوب، وهو الجود بصدقات ينتفع بها بعض الفقراء والمساكين
فإن عجزت عن الصوم فتصدق، وأنا أومن بأن الله يجزي المتصدقين أضعاف ما يجزي الصائمين، لأن الجود بالمال يحتاج إلى عزيمة دونها عزيمة الإمساك عن الطعام والشراب
ومع هذا، فلا يجوز لك الخروج على آداب الصيام بحجة الاعتصام بالصدقات، فما يخرج على آداب الصيام غير السفهاء
وإن استطعت إن تصوم وتتصدق، فتلك غاية لا يتسامى إليها غير عظماء المؤمنين
المهم هو أن تكون لك نية في جميع أفعالك، فتصوم عن نية، وتفطر عن نية. المهم هو أن تحفظ أدبك مع الله الذي ترفق بك فلم يكلفك ما لا تطيق، كن رجلً في إيمانك ليجعلك الله أحد عظماء الرجال!
زكي مبارك