مجلة الرسالة/العدد 480/حق الإمام في نسخ الأحكام

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 480/حق الإمام في نسخ الأحكام

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 09 - 1942



لعالم فاضل

نشرت مجلة (الرسالة) الغراء كلمة قصيرة تحت عنوان (محاولة قديمة جريئة في الفقه الإسلامي)؛ وقد ذكر في هذه الكلمة أن من الفرق الإسلامية من يعطي الإمام حق نسخ الأحكام، وأن الإمام أبا جعفر النحاس في كتابه (الناسخ والمنسوخ)؛ ولا شك أن ما تذهب إليه من تلك الفرقة - إن صح - هو الوسيلة الوحيدة لما يراد الآن من تطويع الفقه الإسلامي لمجاراة الظروف والأحوال، حتى لا يجد المسلمون في العمل به حرجاً في أي زمن من الأزمان؛ وقد قال الله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج)؛ وقال أيضاً في بيان الغاية من بعثة النبي : (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم). فالدين الذي جاء لرفع ما كان في الأديان قبله من أغلال، لا يمكن أن يقر أغلالاً على أتباعه في أي زمن، لأن هذا لا يتفق مع غايته، ولا تتحقق معه تلك الميزة التي امتاز بها على الأديان قبله

وإنما كان ذلك هو الوسيلة الوحيدة لتطويع الفقه لمجاراة الظروف والأحوال، لأن ما يذهب إليه بعضهم في ذلك من جعل وظيفة الإسلام روحية بحتة، لا يتفق مع حقيقة هذا الدين، فقد جاء بعد أديان بعضها يغلب جانب الروح على المادة، وبعضها يغلب جانب المادة على الروح؛ فعمل على الموازنة بينهما، وجعل من غايته إعطاء كل منهما حقها، حتى لا تطغى إحداهما على الأخرى، ليتم بها نظام العمران، ويتلاءم الدين مع طبيعة الاجتماع البشري، لأن كل دين لا يتلاءم مع هذه الطبيعة، يكون غلا عليها، وتكون تكاليفه فوق طاقتها؛ وقد قال الله تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)

وكذلك ما ذهب إليه بعضهم من تقسيم التشريع الإسلامي إلى دائم ومؤقت؛ فهو لا يبقى أيضاً بتطويع الفقه الإسلامي لمجاراة الظروف والأحوال، لأن جعل التشريع المؤقت ما صدر عن النبي بشخصية الإمام المجتهد، وجعل التشريع الدائم ما صدر عنه بشخصية الرسول المبلغ عن الوحي، ومن يدرس التشريع الإسلامي يعرف أنه من المتعذر تمييز ما صدر عن النبي بهاتين الشخصيتين، ويرى أنه مع إقرار الوحي لأحكام الاجتهاد، لا يكون هناك فرقاً بينهما وبين الأحكام الصادرة ع الوحي الصرف، وهذا إلى أن ما يراد الآن هو تطويع الفقه الإسلامي لمجاراة الظروف والأحوال ولو لم يكن مصدره شخصية الإمام المجتهد، حتى يكون تطويعاً شاملاً كاملاً، ولا يوجد فيه ما يعوق هذا الفقه عن مسايرة أي زمن؛ وهذا لا يمكن إلا بما تذهب إليه تلك الفرقة من إعطاء الإمام حق نسخ الأحكام؛ ولهذا قلنا: إنه هو الوسيلة الوحيدة لتطويع الفقه الإسلامي لمجاراة الظروف والأحوال

ونريد بعد هذا أن نبين أن الإمام أبا جعفر النحاس لم ينصف في عرض مذهب تلك الفرقة في إعطاء الإمام حق نسخ الأحكام لأنه لم يعن بالرد عليها، ولم يبين ما استندت عليه في إعطاء الإمام ذلك الحق، مع أن كل عاقل لا يمكن أن يصدر في أحكامه عن الهوى، بل لا بد له من سند قوي أو ضعيف يعتمد عليه في أحكامه، ويحمله على مخالفة غيره؛ وقد فاته أيضاً أن يبين كيف يستعمل الإمام هذا الحق عند تلك الفرقة؟ أيستعمله كما يشاء ويهوي، فيكون الحكم في ذلك للهوى المذموم ولمصلحة الإمام دون مصلحة الرعية؟ أم يستعجله للمصلحة العامة، ويحكم فيه بالاجتهاد منه ومن أهل الحل والعقد في الأمة؟ ولا بد أن هذه الفرقة لا تعطي الإمام حق نسخ الأحكام بحسب الهوى، فيكون عرضه لسوء استعماله، واستخدامه فيما يضر الرعية ولا ينفعها

وإذا كان الإمام أبو جعفر النحاس قد فاته بيان مستند تلك الفرقة، وجرى في ذلك على عادة فقهائنا في العمل على إماتة كل مذهب يخالف المذاهب المشهورة، حتى فقدنا بذلك ثروة فقهية لا يستهان بها، وكانت تنفعنا في كل أزمة تشريعية تحصل لنا، كالأزمة التشريعية التي نعانيها في عصرنا، إذا كان قد فاته ذلك فإنا نحاول أن نبين هنا ما يمكن أن يكون مستند تلك الفرقة فيما ذهبت إليه، بدون أن نحمل أنفسنا تبعة ما نسوقه ونحكيه، لأن من يحكي ما يمكن أن يكون مستند القول من الأقوال لا يصح في أدب المناظرة تحميله تبعته، وإنما هو كناقل لا يلزم إلا بتصحيح النقل

فمما يمكن أن يكون مستند تلك الفرقة أن الله تعالى ذكر في كتابه الكريم أنه شرع لنا من الدين ما وصى به نوحاً والأنبياء من بعده، فشريعة الله إذن واحدة لا تقبل التغيير والتبديل، وليس الإسلام في صميمه إلا تلك الشريعة الثابتة من عهد نوح، أما تلك الفروع التي تضاف إليها فإنها ليست من صميمها، ولهذا تخلف فيها الأنظار، وتقبل التغيير والتبديل بحسب الظروف والأحوال

ومما يمكن أن يكون مستند تلك الفرقة أن الله تعالى ذكر تشريع النصارى للرهبنية بعد عيسى عليه السلام، فلم يدم تشريعها منهم، بل أقر ابتداعهم بقوله تعالى: (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها) فلا بأس إذن في كل تشريع حسن بعد الأنبياء، والإسلام في ذلك مثل غيره من الأديان

ومما يمكن أن يكون مستند تلك الفرقة أن النبي أعطى المسلمين حق التشريع بعده، وذلك بقوله: (ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن)، وبقوله أيضاً: (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر فاعلها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر فاعلها إلى يوم القيامة)

ومنها أن أهل الصدر الأول لم يتحرجوا من التغيير والتبديل في الأحكام على ما اقتضته المصلحة العامة في عصرهم، فأبطل عمر التغريب في الزنا حين فرَّ بعض من غرَّبهم إلى بلاد الروم فتنصر، وقد طلب منه نصارى تغلب أن يجعل جزيتهم صدقة كالمسلمين على أن يدفعوا ضعفها له فقيل ذلك منهم، وكذلك زاد عثمان في أذان الجمعة حين كثر سكان المدينة في خلافته، واسقط معاوية حد السرقة عن قوم أشراف سرقوا في عهده، وقدم مروان بن الحكم خطبة العيد على صلاته حين رأى الناس ينصرفون بعد الصلاة ولا يجلسون للخطبة

فهذه كلها وجوه يمكن أستناد تلك الفرقة عليها، كما يمكن أيضاً ردَّها عليهم، ولو أن الأمام أبا جعفر ذكر ما تستند عليه لأغنانا عن تكلف تلك الوجوه، وقضى بذلك حق الإنصاف والتاريخ

(ع)