مجلة الرسالة/العدد 480/الحديث ذو شجون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 480/الحديث ذو شجون

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 09 - 1942


للدكتور زكي مبارك

تخطيط القاهرة - فكاهات هندسية - النور القدير على تمزيق الظلمات - أبناء دار العلوم بوزارة المعارف

تخطيط القاهرة

أيام هذا الصيف آذتني أعنف الإيذاء، بسبب صعوبة المواصلات، الصعوبة التي خلقها الازدحام في الترام والاتوبيس في أكثر الأوقات، ولا سيما وقت انصراف الموظفين، فكنت أقطع الطريق على قدميَّ في حرِّ الظهيرة من وزارة المعارف إلى باب الحديد، وكانت الظروف قضت بأن تكون محطة المترو في باب الحديد بضعة أسابيع.

وقد غنمت من هذه الظروف غنيمتين: الغنيمة الأولى هي لفح الوجه بوهج الشمس، فما رآني صديق إلا توهم أني قضيت على شواطئ الإسكندرية شهراً أو شهرين. وليت الأمر كان كذلك، فقد سمعت بعد فوات الوقت أن شواطئ الإسكندرية كانت فتنة العيون والقلوب في هذا الصيف!

أما الغنيمة الثانية، فهي أغرب وأنفع، لأنها هدتني إلى أفكار تستحق التسجيل، أفكار متصلة بتخطيط القاهرة، عاصمة الشرق بلا نزاع، وأعظم مدينة دينها الإسلام ولغتها العربية.

هداني السير على قدميَّ في حرِّ الظهيرة إلى القول بأن القاهرة لم تجد مهندسين يراعون أصول الانسجام والتنسيق.

وقبل أن أفصِّل هذا القول، أرجو من زار القاهرة أن يتمثل شارع محمد علي فهو الشارع الوحيد الذي روعيت فيه أصول الانسجام والتنسيق، بحيث يجوز لك بعد مراعاة الأدب مع الله أن تقول إنه بين شوارع القاهرة واحدٌ بلا شريك.

تقف على رأس هذا الشارع من ميدان العتبة الخضراء (ميدان الملكة فريدة) ثم تنظر فتروعك منارة جامع السلطان حسن ومنارة جامع الرفاعي، مع أن بينك وبين هاتين المنارتين مسافات طويلات.

فما أسم المهندس الذي خط هذا الشارع منذ أعوام طوال؟ وأين قبره لننثر عليه زهرات الإقحوان المقطورة على التنسيق؟

وفي ميدان العتبة الخضراء يبدأ شارع حديث العهد، شارع أنشأناه بعد أن كثر عندنا المهندسين، وهو شارع الأزهر الشريف.

وهنا أيضاً أرجو من زار القاهرة أن يتمثل واجهة الأزهر وما يصحبها من منارات رشيقات. . . ليعرف كيف كان من الجناية على تخطيط القاهرة أن تحجب واجهة الأزهر عمن يقف متطلعاً إلى محاسن القاهرة في ميدان العتبة الخضراء.

وما يقال في شارع الأزهر يقال في شارع الأمير فاروق، فقد كان يجب أن يستقيم هذا الشارع بحيث تمكن رؤية ميدان فاروق، وعلى ناصيته سيل أم عباس، لمن ينظر فيه من ميدان العتبة الخضراء.

فما اسم المهندس الذي خطط هذين الشارعين قبل بضع سنين لنغري به أحد المستجوبين في مجلس النواب؟

أنا لا أدعو إلى أن تكون جميع الشوارع بريئة من الانحراف إلى اليمين أو إلى الشمال، فذلك تكليف بما لا يطاق، وإنما أدعو إلى مراعاة الذوق في إبراز محاسن القاهرة عند التخطيط، ولتوضيح هذه الفكرة أقول:

أجمل واجهة في قصور القاهرة هي واجهة قصر عابدين، فهل يرى تلك الواجهة من يمرَّ بميدان الإسماعيلية، مع أنه منها قريب؟

ومن الواجهات الجميلة واجهة محطة باب الحديد، فهل يراها من يقف في ميدان إبراهيم؟

وعلى من يرتاب في صحة القول بأن مدينة القاهرة لا تجد من يفكر في الانسجام والتنسيق، على من يرتاب في صحة هذا القول أن يزور حيّ الأزهر في أحد الأيام ليرى العجب العاجب في تعمد الخروج على الذوق، فهنالك قامت بناية عالية في العهد الحديث، بعد إكتهال الزمان وبعد الشعور بقيمة التنسيق في التخطيط، فكانت حجاباً كثيفاً يفصل بين واجهتين جميلتين: واجهة الجامع الأزهر وواجهة جامع الحسين.

إن الذوق من أطيب الأرزاق، فهل يتفضل الله فيزيد مهندسي القاهرة ذوقاً إلى ذوق؟

فكاهات هندسية

حين زرت البصرة في سنة 1938 تلّطف معالي السيد تحسين علي فمضى بي في سيارته لنزهة جميلة تخترق غابة النخيل في طريق أسمه (طريق أبي الخصيب) وهو طريق كثير الاعوجاج بلا موجب معقول، فلما سألت معاليه عن سبب ذلك الاعوجاج ابتسم وقال: (كان المهندس الذي شق هذا الطريق يحب المال بعض الحب، فاعوج الطريق بعض الاعوجاج!!) فأدركت أن أصحاب الأملاك كانوا أصحاب الرأي في تخطيط ذلك الطريق.

وفي السنة التالية زرت الدير المحرَّق فرأيت في الذهاب إليه طريقاً كثير الاعوجاج بلا موجب معقول، فلما سألت عن سبب ذلك الاعوجاج كان الجواب أن المهندس الذي شق الطريق عُرف بشراهة الجيب فكان يراعي خواطر أصحاب الأملاك.

فليحذر من يشق طريقاً معوَّجاً في أي بقعة بعد اليوم، فقد يُتَهم بأنه من سلالة المهندس الذي شق طريق الدير المحرَّق، أو المهندس الذي شق طريق أبي الخصيب.

النور القدير على تمزيق الظلمات

هو نور الله، النور الغَّلاب القَّهار الذي لا يصده حجاب، ولو كان في كثافة أنفس المحجوبين عن كرم واجب الوجود.

وما تمر بنا لحظة من لحظات الكدر أو الغيظ إلا كانت شاهداً على أن إيماننا بالله إيمانٌ مدخول.

ولا تمر بنا لمحة نعتمد فيها على هذا المخلوق أو ذاك إلا كانت بعض دليلاً على أن ثقتنا بالله مزعزعة الأركان.

فما بالُ قومٍ تطير نفوسهم شَعاعاً حين يهدَّدون بغضب بعض الخلائق؟ وما بال قوم لا يستطيبون النوم إلا حين يطمئنون إلى أنهم تحت حماية بعض الخلائق؟

لا يجوز لمن يخاف الناس أن يرجو الله، فإنه عز شأنه لا يسبغ نعمته الصحيحة إلا على المؤمنين، والمؤمن لا يخاف الفانين.

وماذا يملك بنو آدم حتى يرجوهم من يرجو، أو يخافهم من يخاف؟

الأمر كله لله، ولا أمر لمخلوق، وإن زيّن الوهم للمخاليق أنهم أقوياء.

جرْب الثقة بالله، إن كنت لم تجرِّبها من قبل، فسترى أن الأنس بالله يرفع عنك آصار الثقة بالناس، وما أعتمد أحدٌ على خلق الله إلا باء بالخذلان.

كن رجلاً مؤمناً في جميع أحوالك، والرجل المؤمن ينظر إلى الناس كما ينظر الأسد إلى النمال.

تواضَعْ لله وحده، ولا تتواضعْ للناس، فهم بحكم فنائهم أذلاّء.

تواضع لله أدباً لا خوفاً، فهو يحب أن يراك في أخلاق السادة لا أخلاق العبيد.

لا تعامل باللطف والرفق إلا أهل اللطف والرفق، ثم أمنح ظلمك وعدوانك لمن تحدثهم النفوس الأواثم بالتطاول عليك.

نَزِّه نفسك عن الكفر بالله، ومن صور الكفر الموبق أن تقيم وزناً لمخلوق لا يؤمن بفكرة العدل، ولا يجعل هواه من هواك في الاحتكام إلى صاحب العزة والجبروت.

إن زمانك قد أصيب باختلال الموازين، ولم يبق من أهله من تحدثك ملامح وجهه بالخوف من الظلم والكذب والافتراء، فكن أوحد زمانك في الفرار من تلك الأخلاق السُّود، ولا عليك أن تعيش عيش الفقراء، فما يغتني في أزمان الانحطاط غير التجار السفهاء.

وما أوصيك إلا بما أوصيت به نفسي، فما يستطيع أبن أنثى أن يقول أني استعنت به في جليلٍ من الأمر أو دقيق، ولا خطرٍ في بال مخلوق أن ينال ودادي بغير الصدق في الوداد.

دنياكم سخيفة يا بني آدم، وأنتم منها أسخف، وسبحان من تجاوز عنها وعنكم فأمدّها وأمدّكم بالشمس والقمر، والماء والهواء!

لست منكم، ولستم مني، فبينيَ وبين الله عهد وثيق، وإلا فكيف جاز أن تحاربوني عشرين سنة، ثم لا تكون شكواي إلا من متاعب الغنى والثراء؟

آمنت بالله، آمنت، آمنت، وإني لأكاد أصافحه بيمناي.

ومن أنت يا ربي؟ أجبني، فأنني ... رأيتك بين الحُسن والزهّر والماءِ

في كلية الآداب

كتب إليَّ طالبٌ لا أسميه (إشفاقاً عليه من بعض المصاعب) كلمةً يقول فيها إن المحصول الأدبي في مجلة الرسالة قد استهواه فنقله من قسم اللغة الإنجليزية إلى قسم اللغة العربية، فماذا أقول في توجيه ذلك الطالب الأديب؟

أقول أن قسم اللغة الإنجليزية مطالبه أسهل من مطالب قسم اللغة العربية، وإليه البيان:

المتخرجون في قسم اللغة الإنجليزية لا يطالبون بالتفوق الذي يسمح بأن يكونوا من شُرَّاح الأدب الإنجليزي في مناحيه العقلية والاجتماعية، ولا يراد منهم إلا أن يكونوا أساتذة صالحين لتدريس اللغة الإنجليزية في المدارس الابتدائية والثانوية.

أما المتخرجون في قسم اللغة العربية فهم مطالبون بالتفوق المطلق، التفوق الذي يسمح بأن يكونوا من أئمة الأدب العربي في هذا الجيل.

يضاف إلى ذلك أن كلية الآداب شحيحة بالرجال، فمنذ إنشائها في سنة 1908 إلى اليوم لم يبرز من أبنائها غير آحاد، لأن المثل الأعلى في تصور كلية الآداب لا يسمح بنبوغ العشرات والمئات. ومن حسن الحظ أنها كانت كذلك، ليظل النبوغ الأدبي بعيداً من أوضار النسبة العددية، ولتظل كلية الآداب كلية آداب.

والحياة الجامعية في مصر تؤرخ بنشأة هذه الكلية، فهي النواة الصحيحة للجامعة المصرية، وهي الفيصل بين عهدين: عهد المحاكاة وعهد الإبداع.

وكان قسم اللغة العربية أساس كلية الآداب، كما كانت كلية الآداب أساس الجامعة المصرية، وهي عصارة الأماني الوطنية، فقد أنشئت لأسباب ما أظنها تخفى عليك، إلا أن يجب العلم بالتاريخ القديم مع جواز الجهل بالتاريخ الحديث!!

وكليتنا الغالية موسومة بقوة الروح، فما ذكرت الحياة الجامعية إلا كانت أول ما يخطر في البال، ولا جاز الاضطهاد إلا على أبنائها الأوفياء، لأنهم سبقوا زمنهم بأزمان.

فإن وجدت من قوة العزيمة ما يساعد على أن تكون من أساطين قسم اللغة العربية فأقبل غير هياب، حرسك الله ورعاك!

أبناء دار العلوم بوزارة المعارف

أمضى معالي الأستاذ أحمد نجيب الهلالي باشا قراراً بترقية جماعة من كبار الموظفين بوزارة المعارف إلى الدرجة الأولى الفنية وعلى رأسهم الأستاذ جاد المولى بك كبير مفتشي اللغة العربية، فالتفت الذهن إلى نصيب أبناء العلوم من الترقيات بوزارة المعارف، وقد طالت شكواهم من الإغفال والإهمال عدداً من السنين الطوال.

والظاهر من البحث الذي بذلته في درس هذه القضية أن أبناء دار العلوم لم يفز منهم بالدرجة الأولى قبل جاد المولى بك غير رجلين أثنين: عاطف بركات وعبد العزيز جاويش.

ومع هذا فالطعم مختلف كل الاختلاف: فالمغفور له عاطف بركات رقَّته وزارة الحقانية لا وزارة المعارف، لأنه كان ناظر مدرسة القضاء الشرعي، وكانت تلك المدرسة تحت إشراف وزارة الحقانية، وكان مفهوماً أنها تملك في إنصاف الرجال ما لا تملك وزارة المعارف.

أما الشيخ عبد العزيز جاويش فلم يراع في منحه الدرجة الأولى أنه من أبناء دار العلوم، وإنما روعيت شخصيته العظيمة الفخيمة، وكان رجلاً ملء العين والقلب، وكان يتكلم الإنجليزية والألمانية والتركية بسهولة تستوجب الالتفات، وكان له في خدمة الوطنية تاريخ طويل عريض، فصار من الصعب أن تجعله وزارة المعارف في منزلة أي كبير من كبار الموظفين.

فكيف ظفر جاد المولى بك بالدرجة الأولى، وهو رجل لا يعرف غير عمله الرسمي وعمله الأدبي في هدوء وسكون، ولم يعرف عنه التقرب إلى هذا الحزب أو ذاك، ولو شئت لقلت إنه ضعيف الحيلة إلى أبعد الحدود؟ كيف ظفر بهذه الدرجة؟ كيف؟ كيف؟ وهو لا يرى وزير المعارف إلا إن دعاه للتشاور في بعض الشؤون، ولا يعرف من أندية القاهرة غير القهوة التي يَسمُر فيها مع بعض المفتشين بميدان الإسماعيلية في مساء كل خميس؟. . . تلك إلتفاتة نبيلة من الهلالي باشا أراد بها إعزاز اللغة العربية، ولعلها كرمٌ أضفاه الله على رجل يصلي ويصوم، في زمن جُهلت فيه آداب الصلاة والصيام عند بعض الكبار من الموظفين زاده الله فلاَحاً إلى فلاَح.

زكي مبارك