مجلة الرسالة/العدد 479/ضرورة الإفصاح عن الرغائب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 479/ضرورة الإفصاح عن الرغائب

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 09 - 1942



للأستاذ حسين الظريفي

كان مما تناولناه في مقال لنا سابق عن الرغائب، تلك القوة الديناميكية التي تتمتع بها الرغبة، وتندفع إلى الظهور؛ وما تلك القوة إلا وليدة ذلك الرباط الذي تربط به بالغريزة. والغريزة لا ريب تراث ذلك الماضي الطويل الذي يظل يتقهقر ويتقهقر حتى يتصل بأول الخليقة؛ فليس مما يقع في الإمكان أو يتصور في الأذهان، أن تبطل هذه الغرائز، أو ينعدم ما تتمخض عنه من الرغائب، ونحن لم نزل في ظروف وبين وقائع إن لم تكن مثل تلك التي احتضنت الإنسان الأول فإنها لها مقاربة. وما كان لبشر أن يحيا مجرداً عن الرغائب، وهي التي تشعره بوجوده وتدفع في طريق الأمل والعمل

والحقيقة التي يدور عليها مركز ثقل الموضوع في هذا المقال، هي أن الرغبة لا تخلو إما أن تكون تطوراً لغريزة، أو عوضاً عنها. فنحن كنا نعيش بالغريزة العمياء، حتى إذا أبعدت الحياة في مراحل التقدم، أخذت بعض الغرائز تستحيل إلى رغائب بحيث لا يبقى لها من اثر فيما استحالت إليه، إلا ذلك المعنى الذي يدفع أو يمنع. ونحن إنما نطوّر الغريزة إلى رغبة، أو نستبدل هذه بتلك، بذلك العامل الفكري الذي تمتع به الإنسان منذ عهده الأول فحدا به إلى التقليد تارة وإلى التجربة مرة أخرى، حتى انتهى به المطاف في مراحله الكثيرة إلى أن اصبح مجموعة رغائب بقدر ما كان مجموعة غرائز

وأخذت الرغبة من أمها الغريزة ما لها من قوة وفتوة، وأصبحت في نفس الإنسان مظهر قلق من هذا، وعامل إقدام أو إحجام من ذاك، ولكنها على كل حال تأبى إلا أن تدُرك مالا يُترك، وإلا بقيت في النفس شغلاً شاغلاً أو علة دفينة. فنحن لا يمكن أن نشعر بالسعادة ولو كانت محدودة في النوع وفي الزمن، ما دامت إحدى رغائبنا القوية لا تصل إلى ما تريد الوصول إليه. تلك هي العلة في شكوى أكثرنا مما يقع لهم في الحياة، حتى تكاد تضيق بهم على الرغم ما لها من سعة وما فيها من متعة. فتيار هذا الشعور إنما يرجع إلى مصدره في أعماق النفس ولا شأن له مع الخارج

غير أن قضاء هذه الرغبة وحده لا يكفي في إيجاد الشعور بالسعادة، وإنما يجب أن يرى هذا القضاء على شكله النافع لمن قامت هي عنده ولغيره من الناس. فالرغبة في ذاته تمثل خيراً ولا شراً، وإنما تضر أو تنفع بالقياس إلى طريق إشباعها من جوع وإروائها من ظمأ؛ لذلك أمكن أن نتخذ من الرغبة مهما كان نوعها أو لونها، عامل نصر في معركة الحياة

إن في طيات النفس ضروباً من الغرائز إحداهن غريزة المقاتلة، غير أن هذه الغريزة لم تَعُد تفصح عن نفسها في أوساط الحضارة وفي أغلب الأحيان، كما كان يفصح عنها الإنسان الأول في بيئته المتأخرة وإدراكه المحدود؛ فبعد أن كان الأوائل من أهل القرون الموغلة في القدم لا يكتفون في إشباع هذه الغريزة بغير القتل والتمثيل، أصبح لنا من وازع الضمير ومن قوة القانون ما يحول دون الإفصاح عن الغريزة بلغتها الأولى، فقد تثور في داخلنا الرغبة في القضاء على الخصم، إلا أن مانعاً يقيمه الضمير، أو رهبة تبعثها العقوبة، أو هذه وذاك مجتمعين، يحولان دون تلبية الرغبة الأولية بذلك اللسان القديم، فنختار طريقاً آخر في أمين حاجة النفس إلى إيذاء العدو، فنتعقب عيوبه ونعلنها للملأ أو نريه أنَّا له مهملون

إن من طبيعة الغريزة أنها لا تظهر إلا بما هي فيه وعليه من غير تلوين أو مراوغة. ذلك لأنها خلوة من التبصر والتدبر، فلا تعرف معنى لاختيار الأصلح في الهدف وطريقة الوصول إليه. ثم هي لا تقيم وزناً لقوة الظروف وماهية الوقائع، وإنما تتجه إلى الغاية في ذات الطريقة. لا تتلف ولا تتكلف. ولكن بظهور حياة التمدن وتقُّيد هذه الحياة بآداب الوسط الجديد وبأحكامه الآمرة أو الزاجرة، وجد المرء نفسه بحاجة إلى تعديل ما في بعض غرائزه الفطرية وإلى الاستعاضة عن بعضها الآخر بما دعوناه بالرغائب. وكانت هذه التطورات والتغيرات المتلاحقة على الغريزة أثراً لتلك المراحل الطويلة التي قطعها الإنسان في سبيل التقدم، وصدى لذلك الصوت العميق المنبعث من أعماق الضمير

يتضح من كل ما تقرر أن الخلق ليس إلا مظهراً لرغبة تقيم في العقل، ما أعلن منه وما أبطن، فإذا نحن أردنا استبدال خلق بآخر أو إجراء تعديل فيه، فلا مندوحة لنا عن التعرف بتلك الرغبة التي صدر عنها ذلك الخلق، ومن ثم إشباعها بصورة حميدة تقضي على شذوذ في السلوك. أما إذا نُظر إلى الخُلق وحده، وأهملت الرغبة التي تكمن وراءه، فإن كل مسعى في إصلاحه يذهب سدى وأفضل ما يضرب به المثال في هذا المجال، ذلك الباعث الأول والدافع الأصيل في النفس وأعنى به (الغريزة الجنسية) فإن إشباعها وإرواءها مما لا مفر منه ولا محيص عنه. فإذا اصطدمت هذه الغريزة بما حال دون الإفصاح عنها، واضطرها إلى التواري من مجرى الشعور إلى ما وراءه - أبت وهي في قاع النفس إلا أن تضطرب وتلتهب وترسل في وسطها المظلم تيارات خفية من الأوامر والنواهي، تظهر على المصاب عند تلبيتها بمظاهر الشذوذ

فنحن نبدو عاجزين عن معالجة العليل إذا فصلنا الشذوذ عن الرغبة الغريزية التي تحيط به وتغذَّيه؛ فالإصلاح يجب ألا يتناول الخلق ذاته، وإنما يجب أن يتجاوزه إلى ما وراءه من بواعث خفية هي ولية الأمر في كل شذوذ عن المجموع، وفي كل ظاهرة تمر، وأخرى قد تصل إلى مرتبة الجنون، أو تؤدي إلى ارتكاب الجريمة

وقد ظهر أن هذه الغريزة قد تستفيد طاقتها وتستفرغ وسعها في صور شتى هي خلاف اجتماع الذكر بالأنثى، كالانصراف إلى الرياضة، والاشتغال بالفنون الجميلة؛ فإذا نحن عرفنا مصدر الشذوذ في الخلق وأرجعناه إلى ظمأ هذه الغريزة، كان في مكنتنا تسوية هذا الشذوذ بإزالة ذلك الظمأ. . . تلك هي الطريقة الصحيحة في تقويم ما أعوج وبناء ما انهدم من جوانب أخلاقنا واتجاهاتنا وأهدافنا في الحياة. والأمر أهون مما يُظن متى كشف عن دخيلة النفس، واستجيبت دعوة تلك الرغبة بما يرفع عنها الضغط ويعلو بها القاع

حسين الظريفي