مجلة الرسالة/العدد 477/غرام (سعد زغلول)
مجلة الرسالة/العدد 477/غرام (سعد زغلول)
للدكتور زكي مبارك
دَرجتُ في الأعوام الأخيرة على كتابة مقالة سنوية في (الرسالة) بمناسبة ذكرى (سعد)، رعايةً لفضل هذا الرجل في بعث الحياة الأدبية عند اختلافه مع زملائه الذين شاطروه أعباء الثورة المصرية، لا رعايةً لمقامه الوطني (وهو مقام محفوف بالإجلال عند جمهور المصريين والشرقيين)؛ وإنما أحترس هذا الاحتراس لأن حقدي على (سعد) كان يفوق الوصف، ومقالاتي في الهجوم عليه كانت أقوى مما كتبت في صدر شبابي، فقد كانت مبادئ الحزب الوطني غزت قلبي غزواً عنيفاً
أكتب هذا والحزن يعصر قلبي، فقد انقضى ذلك العهد، وخمدت النار التي كانت تتأجج في صدري، ولم أعد أقبل الانضمام إلى أي حزب من الأحزاب السياسية
كانت لدينا مبادئ نقتتل في سبيلها اقتتال المجاهدين الصادقين، وكنا نرحب من أجلها بالسجن والاعتقال طائعين فرحين، مبادئ سليمة تفرق بين الابن وأبيه، والأخ وأخيه، في غير بغي ولا عدوان، فعلى عهدها الكريم ألف تحية وألف سلام!
ولو لم يكن هذا الحديث متصلاً بذكرى (سعد) الذي عانى ما عانى من بلايا النفي والاعتقال لطويته بلا تردد، مراعاةً لظروف هذه الأيام، فلتكن هذه السطور فناً من الإحياء لذكراه بين أبناء هذا الجيل
حديث اليوم عن (غرام سعد زغلول)، وهو حديثٌ لم يُفْضِ به إلا لأفراد قلائل، فما ذلك الحديث؟
أذكر أولاً أنني لن أجترح إثماً، ولن أسنّ سنّة سيئة، حين أتحدث عن غرام رجل عظيم شرَّق صيته وغرّب، فمن المحال أن تخلو قلوب العظماء من صبوات وأهواء
يضاف إلى ذلك أنني سأتحدث يوماً عن (غرام مصطفى كامل)، الغرام الذي جعله من كبار الخطباء بلغة الفرنسيس، والذي فرض عليه أن يهتف هتاف الشوق إلى هواه، وهو يعاني سكرات الموت. . .
وأذكر ثانياً أن الدار التي سيجري أسمها في الحديث عن (غرام سعد) لن تتألم ولن تتأفف، لأن سعداً أحبها وأحب أهلها حب الشرفاء، ثم أرتدّ عنها بحسرة دامية لم يخف كربها إ بعد سنين تزيد على الخمسين
فكيف كان (سعد) حين استعر في يصدره ذلك الحب؟
كان طالباً في الأزهر الشريف، وكان طلبة الأزهر في العهود السوالف على جانب كبير من التوقر والاستحياء
ولو شئت لقلت: إنه كان من الصعب على أي فتىً مصري أن يتخيل كيف تكون المرأة وهي عارية؛ ولو شئت لقلت أيضاً: إن التصون كان مما يتباهى به الفتيان، في ذلك الزمان، قبل أن تصاب الدنيا بأوضار التمدن الجديد
وكان (سعد) أزهرياً عفّ القلب، ولم يكن يعرف من نعيم الحواس غير اللحظات التي يقضيها مع زميله إبراهيم الهلباوي متربِّعَيْن على الرصيف بجانب المحكمة المختلطة لمشاهدة الرائحات والغاديات في عصرية كل خميس
فهل تكون تلك العصريات علَّمتْ سعداً معانيَ الغزَل الملفوف؟
هل تكون أوحت إليه أن قلب الفتى قد يتوهج من حين إلى حين؟
حين قصَ علينا الهلباوي بك - رحمه الله - تلك الحكاية لم يشأ أن يطنب في الشرح والتعليق، فقد كان في المجلس رجال يؤذيهم التبسط في مثل ذلك الحديث ولم أكن أنا أعرف أني سأتكلم عن غرام سعد بعد حين أو أحايين
المؤكد أن سعداً قضى شبابه في تصون وعفاف، ولولا ذلك لكان من العسير أن يظل في نشاطه المعروف إلى أن يجاوز السبعين
ومن هنا نعرف كيف اصطلى بنار الوجد في صباه، فالشاب المصون يعاني من الغرام لذعات أحر من لذع النار، لحرمانه من التصعيد الذي يجود به الحب الأثيم
فأين كان حب سعد، حبه السليم من آفات العبث والمجون؟
أطل يوماً من غرفته فرأى في دار الجوهري فتاةً كحيلة العينين مُشرقة الجبين، ثم غضّ بصره بسرعة حين تذكَّر أن ما زاد على النظرة الأولى حرام لا حلال
وما احتياجه إلى نظرة ثانية وقد رُسمت صورة الفتاة على ألفاف قلبه رسماً جعلها أقرب إليه من متن الألفية، وأوضح من شرح أبن عقيل؟
هل يُطلْ من النافذة فيراها مرة ثانية ليتأكد من التماثل بين الصورة والأصل؟ لا بأس، ولكن الفتاة لم تكن تظهر في صحن البيت إلا عند الأصيل، وهو الوقت الذي يعود فيه فتحي أفندي من المدرسة، وهو شقيقه الذي صار فيما بعد فتحي باشا زغلول، وكان الشيخ سعد يراعي فتحي أفندي، ويتعمد الظهور أمامه بصورة الناسك المتعبد، ليصرف عنه سوء التلفت إلى النساء، فقد كان يعرف أن التلاميذ (الأفندية) معرَّضون من هذه الناحية لأخطار تزلزل رواسي الجبال
النظر إلى المرأة حرام، فما حكم الشرع في سماع بُغام الملاح؟
وإنما عرضَ له هذا الخاطر الطريف، لأن مناغاة الفتاة لأترابها كانت تداعب أذنيه من وقت إلى وقت، وكان شديد العجب من أن تكون لفتيات الحواضر أنغام لم يسمع مثلها من بنات الريف، أنغام تصنع بلُبّه ما تصنع الراح بألباب الشاربين
ما حكم الشرع في هذه القضية؟ أيستفتى أشياخه بالأزهر الشريف؟ أيرجع إلى مطولات الفقه بالكتبخانة الخديوية؟
لا هذا ولا ذاك، وإنما اكتفى بوضع القطن في أذنيه عند سماع ذلك البُغام إلى أن يقضي الله في أمره ما هو قاض
كان يتمنى أن تتاح النظرة الأولى مرة ثانية، النظرة التي يرمي بها الفتى من غير عمد، وهي حلال على أرجح الأقوال، ولكن آبائنا قبل ستين سنة لم يكونوا يسمحون لفتاة بالخروج من البيت حين تصبح وهي في نضرة الغصن الفينان، فمن المستحيل أن يظفر الشيخ سعد بنظرة بريئة من تلك الفتاة عند الخروج لدروس الصباح، أو عند الرجوع لتناول الغداء
وهل كان الفتى الأزهري الذي يصلي ويصوم يستبيح التطلع إلى بنات الجيران؟ هيهات ثم هيهات، فقد حلف على المصحف ليصيرنَّ إلى آخر حياته وهو في طهارة القانت المنيب
ثم يضطرم قلب سعد أعنف الاضطرام، ويزداد بلاؤه بهواه المكتوم، من يوم إلى يوم، والفتاة لا تعرف أن بجوارها فتىً يدعو الله في أعقاب الصلوات أن يجعلها نصيبه من دنياه، أو يجعلها على فرض الحرمان نصيبه من الحُور العين
ويمضي فيقلب كتب النحو والفقه والتوحيد ليحفظ ما فيها من الأشعار الغزلية، ولا يكتفي بذلك، بل يمضي فينسخ ديوان أبن القارض، ليتخذ منه سميراً يؤنس وحشته حين تخفت الأصوات في دار الجيران
إن سعداً فلاّح وابن فلاّح، والفلاحون يخمدون نار الصبوة بالزواج، فما الذي يمنع من أن يسلك مسلك الفلاحين الشرفاء، فيطلب القرب من أهل تلك المليحة الحوراء؟
وهنا تثور مشكلة من أقبح المشكلات، مشكلة اجتماعية يعانيها الحي الأزهري في جميع الأزمان، وهي إصرار سكانه من كبار التجار على أن الأزهريين غرباء
لا جدال في أن الأزهريين هم شرايين الحياة في ذلك الحي، وبفضلهم تحيا متاجر وتقوم أسواق، ولكن هذا الفضل مجحود، لعله يحار في فهمها اللبيب. وقد كانت كلمة (مجاور) كلمة مدح، لأنها منقولة عن مجاورة الحرم النبويّ الظاهر، ثم صارت كلمة هجاء، بسبب التحامل على الأزهريين، فاعجبُ لكلمة ينقلها سوء المعاملة من مدلول إلى مدلول، بلا موجب معقول!
ومع أن الشيخ سعد زغلول كان يعرف أن حيّ الأزهر حيٌّ غادر ختّال، فقد قهره الهوى على أن يطلب يد ابنة الجوهري، ليسلم من وَقّد هواه، وليعرف كيف يُقبل على دروس الأزهر بعناية والتفات. وهل من المحال أن يفي ذلك الحيّ مرة في العُمر لمشرِّفيه من فتيان الريف؟
تشجّع الشيخ سعد فطلب يد ابنة الجوهري، فردّهُ الجوهري برفق، وهو يجهل ما ينتظر عمامة سعد من سيطرة أدبية وسياسية على أبناء هذه البلاد
ورجع سعدٌ حزين القلب، كاسف البال، وقد خاب أمله في هواه إلى آخر الزمان، ثم نظر فرأى أن الفرار من الحيّ الأزهري واجبٌ مفروض، لينجو من غمزات الذين شهدوا ردّهُ الأليم عن مناسك هواه. وأبناء الريف تؤذيهم ثرثرة السفهاء
لابُدّ من ترك الحيّ الأزهري، ولكن إلى أين؟ وماذا يصنع؟
إن أباه كان يرجو أن يصير من علماء الأزهر الشريف، ومن أئمة الدين الحنيف، فكيف يخلف ظن أبيه بلا تهيُّب ولا استحياء؟
ثم بدا له أن الكرامة الذاتية من مقاصد الكرامة الدينية، فخلع العمامة والجبة والقفطان، ولبس الحُلة الإفرنجية واحترف المحاماة، فأصبح وهو الأفوكاتو سعد أفندي زغلول، بشارع عابدين، وأمسى مكتبه سامراً يلتقي فيه كرام الرجال ولكن لوحة صغيرة كانت تُثير جواه حين يدخل ذلك المكتب، لوحة رُقِشَ في صدرها الأبيض هذا البيت:
وإذا دُعيتُ إلى تناسي عهدكم ... ألفيت أحشائي بذاك شِحاحا
ولم يكن بدٌ للقلب المجروح من دواء، وهل يُداويَ القلب المفطور بغير العمل الموصول؟
مرَّ عامٌ وعامٌ وأعوام، وسعدٌ يجاهد في سبيل المجد ليعرف من ردُّوه جاهلين أنهم أضاعوا (جوهرة) لن يرى (الجوهريُّ) مثلها ولو أضاع العمر في البحث والتنقيب
ثم استجاب الله لدعوات الوالدَين الصالحين، فاقترن سعدٌ بِفتاة كريمة العم والخال هي بنت مصطفى باشا فهمي رئيس الوزراء في ذلك العهد، وهي اليوم صفية زغلول أم المصريين، أسبغ الله عليها نعمة الصحة والعافية، إنه قريبٌ مجيب
وجاءت أيام في أثر أيام، وتنقل سعدٌ من حال إلى أحوال، إلى أن نفاه الإنجليز في سنة 1919 بسبب قضية الاستقلال
ثم سمح الإنجليز بأن يسافر من مالطة إلى باريس ليقنع (مؤتمر السلام) بعدالة القضية المصرية إن استطاع
وعجز سعدٌ وأصحابه عن الوصول إلى قصر فرساي، فرجع إلى مصر وهو آسف غضبان
فماذا رأى بعد الرجوع؟
أقيمت له حفلتان في الحيّ الأزهري، أولاهما في دار البكري، وقد فرح بها فرحاً عظيماً، فقد كان يظن أن خذلانه في الوصول إلى (مؤتمر السلام) قد يصرف عنه قلوب المصريين وفي تلك الحفلة هُتف عند دخول عدلي باشا بعبارة (تحيا وزارة الثقة) وهُتف لسعد باشا بعبارة يحيا (الشيخ سعد)
أما الحفلة الثانية فكانت. . . أين كانت؟
كانت في دار الجوهري، الدار التي ردَّت سعداً خائباً قبل أعوام تزيد على الخمسين
وجرى الهتاف لسعد: (يحيا الشيخ سعد)
والتفت سعد باشا ذات اليمين وذات الشمال، فرأى أنه في أمان من ثرثرة السفهاء، وأن الشيخ القديم لن يغلب الباشا الجديد، وأن من حق الأزهريين أن يفتخروا به مشكورين ثم التفت الرجل مرة ثانية ذات اليمين وذات الشمال، وسمح لعينيه بدمعتين محرقتين، هما التحية لهواه الذي ذهب إلى غير معاد
هذا سعد باشا خليفة الشيخ سعد، ولكن أين بنت الجوهري؟ وأين مكانها في هذا الوجود؟ أغلب الظن أنها ماتت وإلا فكيف صبرت عن خلع العذار لتقبِّل الحبيب الذي أنتصر على مكايد الزمان؟
وأقام سعد في (بيت الأمة) يتلقى تهنئة الوفود بعودته سالماً من باريس، وكان يمد يده فينزع اللثام عن كل امرأة تعتصم بالحجاب، وكانت حجته أنه يؤيد رأي صديقه الحميم قاسم أمين
ولعله كان يرجو أن يطلُع عليه القمر الجوهري، لو كان للقمر الآفل طلوع
لقد حدثتني النفس بزيارة دار الجوهري قبل أن اسطر هذا الحديث، ولكني خفت أن أضاف إلى المجانين
كان لي فيك هوىً، يا دار الهوى، فأين غرام سعد وأين غرامي؟
إن أعتدل الميزان فسنكتب على بابك العالي سطراً يقول:
(هنا تهاوتْ أحلام وقلوب)
وأين دار الجوهري؟ لا تسألوها عن مكانها ولا تسألوني، فقد ناب عني وعنها أبو تمام حين قل:
لا أنتِ أنتِ ولا الديار ديارُ ... خفَّ الهوى وتقضَّت الأوطارُ
وأنت، يا سعد باشا، ما رأيك في هذا الحديث؟ ألا ترى أنه من أشرف ما يتصل بتاريخك الجميل
زكي مبارك