مجلة الرسالة/العدد 473/الحديث ذو شجون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 473/الحديث ذو شجون

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 07 - 1942


الوفاء للوطن الغالي

للدكتور زكي مبارك

عند هذه الكلمة ترنَّم الهتَّاف بعد انتصاف الليل. . . فمن الهاتف؟

هو أديب من قراء (الرسالة) أراد أن يستفهم عن معنى القول بأن المسيحية تؤَّخ في كل أرض بميلاد المسيح، وتؤَّرخ في مصر بعذاب الشهداء

وما كدت أنتهي من شرح هذا المعنى، حتى هتف ذلك الأديب داعياً أن يجعل الله الوطنية من عقائد الشباب في هذا الجيل

فمن أنت أيها الفتى؟

وما قيمتُك في نفسك وفي نفس إخوانك؟

هل تعرف وهل يعرفون أن اهتمامك بكلمة في تمجيد وطنك هي الشاهد على أنك مصريٌّ أصيل؟

أنا أدعو لك بطول العمر مع العافية، أيها الفتى الوطني، حرسك الله وحماك!

اسمع يا صديقي ثم اسمع:

في كل أرض يكون للشجر والنبات موسم يقظة وموسم خمود، إلا مصر فاليقظة فيها دائمة في جميع الأحايين.

وفي كل أرض يوجد الماء في مكان وينعدم في مكانات، إلا مصر، فالماء موجود في كل مكان. وأين من يصدّق أن سكان جبل المقطم يستقون الماء من بئر هناك؟!

وفي كل بلد تجاهد الأرض في الزراعة موسماً، ثم تستريح موسمين أو مواسم، إلا مصر، فأرضها تصلح للإنبات مرتين في العام الواحد أو مرات

وطنك، يا صديقي، جميلٌ وثمينٌ ونفيس

كان وطنك محور التوازن الدولي قبل أن يعرف بنو آدم ماهية التوازن الدولي، وكان وطنك أول وطن تنبه إلى أن الله واحد بلا شريك، وفي سبيل هذا المعنى الدقيق جاهد إخناتون الشهيد. . .

وكان وطنك، يا بنيَّ، أول وطن حارب السماء عن علم أو عن جه وهل من القليل أن يكون الطغيان المصري أخطر طغيان حاربه القرآن؟

وطنك، يا صديقي، مذكورٌ بمحاسنه ومساويه في جميع البلاد، وستُنسى أمم وشعوب، ولا يُنسى وطنك، لأنه معتَرك الرشد والغي، والهدى والضلال، في جميع الأجيال

وطنك هو الوطن، وبلادك هي البلاد

وطنك هو الميزان في القضاء، قضاء الأمس وقضاء اليوم، والنصر لمن يظفر بقلبك، فلمن قلبك؟

قلبك لوطنك، وعقلك لوطنك، وهواك لوطنك. فلا تشرك به أحداً، ولا يخطر في بالك أن في الدنيا جمالاً أنضر من جماله، أو حمَى أعزَّ من حماه، وإن تناوشه الطامعون من كل جانب، فسيظل وطنك وحدك، ولن يكون لأعدائه غير العذاب في ميادين القتال، وبئس النصيب!

أدر المذياع إلى أية جهة من جهات الأرض، فستسمع اسم مصر. . . وسائلْ شركات البرق في أي بلد من البلاد، فستخبرك عن مبلغ اهتمامها بأخبار مصر. . . واستطلع المكنون من ضمائر الزعماء والملوك، فسترى أن مصر مُنْيَة الجميع، وبين المُنْية والمَنِيَّة صِلات

هل تعرف الحكمة التي تقول: رُبَّ أكلة مَتعت أكلات تلك الأكلة في مصر، فما طمع فيها طامع إلا قصمت ظهره. ولا دخلها غاضب إلا كانت وبالاً عليه، ولو استفتيت التاريخ لأفتاك ثم أفتاك

كنت أشارك المنفلوطي في السخرية من قول مصطفى كامل: (لو لم أكن مصريًّا لتمنيت أن أكون مصريًّا)

واليوم أعرف أن المنفلوطي كان من المخطئين الخاطئين، وأن كلمة مصطفى كامل أصدق من الصدق وأصوب من الصواب

ذلك بأن مصر غنية من جميع النواحي، وعظيمة من جميع الجوانب، وليس فيها شبرٌ إلا وهو مبعث حياة أو مصدر تاريخ

وما اقتتلت الأهواء، ولا اشتجرت الآراء، ولا اعتركت القلوب، ولا انتضلت العقول بأقوى وأعنف وأخطر مما يثور فوق الأديم الصحيح لهذه البلاد

يوم كان السلطان لأهل الشرق كانت مصر أول أمة تقاوم طغيان الشرق وحين كان السلطان لأهل الغرب كانت مصر أول أمة تحارب طغيان الغرب

وهل ينسى التاريخ أن عزَّة مصر هي التي جعلت واليها عَمْراً أول والٍ يخالف عن أمرِ الخليفة العادل عمر بن الخطاب؟

وهل ينسى التاريخ أن السلطنة العثمانية في أيام عزها المأثور عجزت عن تتريك الأمة المصرية؟

وهل ينسى التاريخ أن الإنجليز الذين سيطروا على كثير من ممالك الأرض عجزوا عن مقاومة العزة المصرية؟

نحن برعاية الله وكرامة مصر أعزَّاء وأعزاء وأعزاء.

النور أسرع من الضجيج

على حين غفلة أضاءت آفاقُ مصر الجديدة، وأضاءت ثم أضاءت ثم أضاءت؛ فقلت لصاحبي: في هذه اللحظة أُطلقت ثلاثة مدافع؛ فقال: ومن أين عرفت؟ فقلت: من هذه الومضات؛ فقال: ولكني لم أسمع ضجيج المدافع؛ فقلت: ستسمع بعد لُحَيْظات، وستؤمن بأن النور يسبق الضجيج

فيا ناشدي الشهرة باسم الأدب والحياة بلا قلب وبلا روح وبلا نور، فلن يكون له من مجد الأدب وشرف الحياة نصيب ولا خَلاَق

النور أسرع من الضجيج، لأنه أرقّ وألطف، وأقوى وأغلب، فاستعينوا بحرارة أرواحكم، قبل أن تستعينوا بجهارة أصواتكم، واعلموا أن النور وليد النار، وأن جوهر القبَس المتألق فيه أصالة حيوية لا يدرك مَداها غير أرباب القلوب

ومن أجل هذا كان الاضطهاد أعجز من أن يخمد حيوية الأديب، لأن الأدب نور، ولأن الاضطهاد ضجيج، والنور أقوى وأسرع من الضجيج

ثم ماذا؟

إن وضعت أصابعك في أذنيك، فقد حَجَبْتَ عن سمعك ما تحبّ وما لا تحبّ من الأصوات، وإن أغمضتَ عينيك، ثم عصبتهما بمنديل سَميك، فستحسّ النورَ عيناك، برغم ذلك الحجاب، أو برغم ذينك الحجابين، لأن النور أقوى وأسرع من الضجيج

فيا أعداء الأدب، متى تعقلون؟! ستضيء قُبوركم إن اعتصمتم منا بظلمات القبور، لأن من واجب النور أن يمزّق الظلمات. . . وسوف تعلمون!

أسرار وسرائر

في الحوار الذي دار بين الأستاذ محمود البشيشي وابنه النجيب حسين، مرّت إشارةٌ لطيفة إلى كاتب يجمجم ولا يفصح، وهو (كاتب من الكتَّاب) كان (حسين) - حرسه الله - كتب إليه يدعوه إلى ترك الإيماء والتلميح فيما يتناول من المعاني والأغراض

وأتولى الإجابة عن ذلك الكاتب فأقول:

لقد نشأ - يا بُنيَّ - في عصر من عصور الانقلاب، وفي مثل هذا العصر تكثرُ الأكاذيب والأراجيف، ويقلّ الفهم لدقائق المعاني، فهل يلام الكاتب إذا فرَّ من التصريح إلى التلميح؟

قد تقول: إن التلميح أخطر من التصريح، لأنه يفتح أمام المغرضين أبواب التفسير الخاطئ والتأويل المريب

وأقول: إني أحب أن يظلمني قومي عن شبهة لا عن يقين، فأنا أساور أهدافي بأسلوب يُعفي ظالميَّ من ربقة الظلم المبين؛ وإلا فمن يتوهم أن أغراضي تخفي على قرائي وهم من أُولى الألباب؟

بين مصر والعراق

في هذا الأسبوع أنِستُ بلقاء جمهور من الأساتذة المنتدبين للتدريس في العراق، وهم جميعاً ألسنةٌ تلهج بالثناء على الأريحية العراقية والذكاء العراقي. ومن كلام الدكتور راجح والدكتور غالي والأستاذ قنديل عرفت أن دار المعلمين العالية بلغتْ من التفوق مبلغاً يشرح صدور المؤمنين بعظمة العقلية العربية في العراق، وطن الأهل والأحباب.

ولكني تأذيت خين عرفت أن بعض المدرسين لا يريدون أن يعودوا لخدمة العلم في الوطن الشقيق، بحجة الخوف من تقلب الظروف، أو بحجة الشوق إلى الاستقرار في وطنهم الأول، وما درَوْا أن الاستقرار ضربٌ من ضروب الموت!

لو قلتُ الصدق كل الصدق لصرّحتُ بأن من يريدون قطع صلتهم العلمية بالعراق ليسوا إلا شباناً تعوزهم القدرة على فهم السرائر من الروحانية العراقية، فهم يعيشون هنالك عيش الغرباء بالفكر والروح، في بلاد قام كيانها على الفكر والروح.

في هؤلاء من يعتذر بأن العراق مهدّد بالغلاء في هذه الأيام، فهل يكون فيهم من يدرك أن في تمرة أو تمرتين كفاية لمن يدعوه الواجب للقيام بخدمة علمية؟

وفي هؤلاء من يقول: إن مصر تنساه حين تطول إقامته بالعراق فلا ينال حظه من الترقيات

وأقول إن هذا لن يقع بعد تنظيم التعاون الثقافي بين مصر والعراق.

كيف يصبر من عرف العراق على فراق العراق؟

أنا أخشى أن يكون مفارقوه لم يعرفوه. وهل يغيب عني أن في العراقيين أنفسهم من يجهل المحاسن الأصلية لوطنه الجميل؟

لقد عجب قومٌ من وفائي للعراق، وظنُّوني أستهديه منحةً من المِنح الذواهب، ثم انقضى عجبهم حين عرفوا أن وفائي للعراق وفاء القلب لا وفاء الجيب، ولكن عجبهم سيُبعث من جديد حين يعرفون أن في عنقي ديوناً للعراق، هي أكرم الأطواق، فما تلك الديون؟

رأيت العراق يكرم مصر في جميع مذاهبها العلمية والأدبية والتشريعية، ورأيته يفرح حين نفرح، ويلتاع حين نلتاع، ورأيت أنه بحق وصدق أخٌ شقيق.

مصر مسطورة الملامح فوق كل مكان في العراق، فما جزاءُ من يحبونها هذا الحب؟ وما جزاء من يعرفون من أقدارنا الأدبية أكثر مما نعرف؟

تلك معانٍ يجهلها من يبحث عن وظيفة توزن قيمتها بالدراهم والدنانير، وهي معانٍ يعرفها من يؤمن بأن الفناء في سبيل العروبة بابٌ من أبواب الخلود.

زكي مبارك