مجلة الرسالة/العدد 471/الحديث ذو شجون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 471/الحديث ذو شجون

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 07 - 1942


للدكتور زكي مبارك

تأريخ عصر النبوة

قرأت في مجلة (الثقافة) مقالاً جيداً للأستاذ محمد مندور عن اتجاه رجال الأدب في العصر الحديث، فرأيت أن أخصه بشيء من التعقيب، عساه يلتفت إلى تحرير آرائه بعض الالتفات فهو صديقٌ عزيز وله علينا حقوق. واكتفى بالتعقيب على العبارة الآتية:

(ما بالُ معظم كتّابنا قد انتهوا بالكتابة عن (محمد)؟ أهو إيمان من يشعر باقترابه من اليوم الآخِر؟ ذلك ما نرجوه. ولكن ثمة أمرٌ لا شك فيه، وهو أننا قد وصلنا من التزمت حدّاً نبرّئُ منه كل الأديان على السواء)

ومعنى هذه الفقرة أن الكتابة عن الرسول ضربٌ من المتاب، وأنها دليل على ابتلاء الجمهور المصري بالتزمت والجمود.

وأقول إن هذا التصور المنحرف ليس بجديد، فقد سبقته أوهامٌ تزعم أن الحديث عن الرسول بابٌ من الرجعية، وأن الاشتغال بأخبار النبي وأصحابه فنٌّ من التودد إلى الجماهير، وهي تحب الإفاضة في أمثال هذه الشؤون (؟!)

والحق أن عصر النبوّة الإسلامية يحتاج إلى دراسات كثيرة، وأن ما كُتب فيه لهذا العهد ليس إلا تباشير لدراسات تستغرق مئات المجلدات، لأن ذلك العصر كان مطلع نهضة إنسانية تركت أعظم الآثار الروحية والعقلية في المشرق والمغرب، وصبغت التفكير الإنساني بألوان تحتاج إلى من يدرسون عناصرها الجوهرية بتعمق واستقصاء

وإذا جاز اتهام المهتمين بتأريخ عصر النبوة بالغايات الدنيوية أو الأخروية، فلن يجوز القول بأن ذلك العصر قد وضّح في أذهان الجماهير وضوحاً يغنيهم عن التأليف الكاشف لما فيه من أسرار وآيات

ولو نظرنا في ما كتب الأوربيون في مدى عشرين سنة عن شاعر من شعراء الأساطير مثل هوميروس لوجدنا عنايتهم به تفوق عناية العرب بتأريخ حياة الرسول في مدى أجيال، مع العلم الوثيق بأن الرسول العربي ترك في الوجود آثاراً تفوق آثار من سبقه من الأنبياء، بّلْه الشعراء لم يقلٌ أحد إن هيكل كان رجعيّاً حين ترجم لجان جاك رُوسُّو، ولم يقل أحدٌ إن العقاد كان رجعيّاً حين ترجم لابن الرومي، ولا قال قائل برجعية طه حسين حين ترجم لأبي العلاء، ولكن الرجعية أصابت هؤلاء الأساتذة حين شغلوا أنفسهم بتأريخ عصر النبوّة، لأنه مصدر من المصادر الدينية، وأهل هذا الزمان يرون الحديث عن الديانات من المبتذلات!

أنا أبغض الرياء كل البغض، وأنا أسأل الله أن يصبّ جام غضبه الماحق على المرائين، ولكن ذهني لا يسيغ أن يكون ما كتب هيكل وطه والعقاد عن الرسول ضرباً من الرياء، لأن كتاباتهم في هذا الموضوع كتابة أصيلة، والكتابة الأصيلة لا تصدُر إلا عن ذوق وروح وإيمان

وقد حدثتكم مرة أن الدكتور طه حسين ليس له من (هامش السيرة) غير قصة الراهب في الجزء الأول. والأمانة توجب أن أحدثكم أن ناساً في العراق أخبروني أن في الجزء الثاني فصولاً أفاضت عيونهم بالدمع، فهل يبكي القارئ قبل أن يبكي المؤلف؟

أرجوكم أن تذكروا أن في الأدب العربي المصري لهذا العهد أصالة روحية وذوقية تستحق الإعجاب، ولو أعفتنا الخطوب مما يعوّق النهضة الأدبية في مصر لرجونا أن يكون للبيان العربي عصرٌ جديد يفوق في روعته أجمل ما أُثِر عن عصر بني أُمية وبني العباس، ونحن قد تفوقنا بلا ريب، ومحصولُنا الأدبي وصل إلى غاية من الروعة لم تخطر لأحد من القدماء في بال

وخلاصة القول أن تاريخ عصر النبوة لم يأخذ من عنايتنا كل ما يستحق، لأنه ليس مصدر ثروة روحية فحسب، وإنما هو مصادر لثروات أدبية واجتماعية وتشريعية. وتاريخنا الأدبي أجاز أن تؤلف رسالة في إعراب (جاء زيْدٌ) فكيف يُنكَر أن تؤلف رسائل في حياة الرسول؟

وهنا مَلْحَظٌ آخر: هو صدور المباحث الدينية في هذه الأيام من رجال ثقافتهم مدنية. فما معنى ذلك؟ معناه أن الإسلام بريء من الصبغة الكهنوتية، وأن كل مسلم مسئول عن شرح أغراض الدين الحنيف، ولو جهل موقع البلد الذي تقوم فيه إدارة الأزهر الشريف

حدثني أستاذنا الشيخ المراغي قال: (الإسلام خسارة في هؤلاء المسلمين). وهي كلمة هزّت قلبي حين سمعتها من هذا الرجل العظيم، فلو كان الإسلام دين أمة مثل الأمة الإنجليزية أو الأمة الألمانية لاستقلّ أتباعه أن يُنشر عنه في العام الواحد عشرات المجلدات

بين الأزهر والجامعة المصرية

نشرت (الرسالة) كلمة للدكتور محمد البهيّ عن المستوى الجامعي في مصر بين الأزهر والجامعة المصرية، وهي كلمة تؤكد المعنى الذي أراده أحد الشعراء حين قال:

اقتلوني ومالكاً ... واقتلوا مالكاً معي

فقد أراد أن يحكم بالعُقم على الأزهر وهو من أبنائه ليسهل عليه الحكم على الجامعة المصرية بالإفلاس!

والحق أن الجامعة أدخلت في الحيَواتَ الأدبية والعلمية والتشريعية فنوناً جديدة متسمة بالقوة والإشراق. ومن الظلم أن يقال: (إن الكثير من مؤلفات الجامعيين يلازمه الغموض في التعبير عن الفكرة، ويندر أو تنعدم فيه شخصية المؤلف)، فهذا القول يشهد على قائله بالبعد عن مسايرة النشاط الجامعي في الميادين الأدبية والعلمية والتشريعية، ويضيفه إلى المتجنين على الجامعة بلا بينة ولا برهان

نحن لا نقول بأن كليات الجامعة المصرية وصلت إلى الكمال المطلَق، ولكننا نرفض القول بأنها خدعت (عقلية الرأي العام المصري) كما قال هذا الباحث المفضال، فقد صدرت عن الجامعة المصرية مؤلفات وأبحاث ودراسات لم تشهد مثلها اللغة العربية منذ أجيال طوال؛ والمنصفون من رجال الأزهر الشريف لا ينكرون ذلك المحصول النفيس

ليت وهل ينفع شيئاً ليت؟

ليت المنافسة العلمية تثور بين الأزهر والجامعة المصرية!

ليت الأزهريين يجارون الجامعيين في البحث والتأليف، وفي السيطرة الفكرية على شباب هذا الجيل؟

لو استطاع الأزهر أن يصاول الجامعة لضمنتُ للفكر الجديد جذوةً كريمة الروح، ولكن الأزهر مكتف بمكانته في التاريخ، والموت من نصيب من يكتفون بالتاريخ

الجامعة المصرية هي اليوم صوت مصر في الشرق، وهي التي تشرع المبادئ للمعاهد العالية في الأمم الشرقية، فليأخذ الأزهر من يدها هذا الصولجان إن استطاع، فهل يستطيع؟

ليت ثم ليت!! وهل ينفع شيئاً ليت؟! روح الغزالي ينتقم

إن كان في قراء (الرسالة) من يرضى عن مقالاتي في هذه الأيام فأنا عن تلك المقالات من الساخطين، لأنها بعيدة عما أريد أن أقول، ولأنها تصورني بصورة من لا يشعر بما في الدنيا الحاضرة من هموم وأرزاء

وقد نظرت فعرفت أم روح الغزالي ينتقم مني، فقد جاء في (كتاب الأخلاق عند الغزالي) ما نصَّه بالحرف:

(بينما كان بطرس الناسك يقضي ليله ونهاره في إعداد الخطب وتحبير الرسائل لحث أهل أوربا على امتلاك أقطار المسلمين، كان الغزالي غارقاً في خلوته، منكبّاً على أوراده، لا يعرف ما يجب عليه من الدعوة إلى الجهاد. ويكفي أن نذكر أن الإفرنج قبضوا على أبي القاسم الرملي الحافظ يوم فتح بيت مقدس، ونادوا عليه ليُفتَدى فلم يَفده أحد، ثم قتلوه وقتلوا معه من العلماء عدداً لا يحصيه إلا الله، كما ذكر السبكي في الطبقات. . .

وما ذكرنا هذه المأساة إلا لنعدّ القارئ لفهم حياة الغزالي، ولنقنعه بأنه ليس من الحتم أن يكون الرجل الممتاز بعلمه صورةً لعصره، فإن كُتب الغزالي لا تنبئنا بشيء عن تلك الأزمة التي عاناها المسلمون حين ابتدأت الحروب الصليبية. . . ومن الخطأ أن نقصِر الأخلاق على سلوك المرء كفردٍ مستقلّ عن الحياة الاجتماعية، فلكل ظرفٍ واجباتُه، ويتعسر وجود حالة لا تقضي فيها الأخلاق)

كذلك قلتُ في التثريب على الغزالي بلا ترفق ولا استبقاء، فأين أنا اليوم؟ وما صلة ما أكتب بظروف هذه الأيام؟ وماذا يقول الإخلاف إذا نظروا فرأوا أن مقالاتي في سنة 1942 خَلتْ من الحديث عن معترك المطامع الأوربية في الأقطار الإسلامية؟

هل يوجد في الإخلاف المنتظرين من يعتذر عني فيقول إن الأدب الصِّرف كان في سنة 1942 باباً من أبواب الجهاد، وإنه كان يجوز للأديب أن يصم أذنيه عن أصوات المدافع ليتسمّع صرير الأقلام؟

لو اعتذرتُ عن الغزالي لوجدت من يعتذر عني. وكما يدين الفتى يُدان!

تقاليد مصرية لم يبق ريبٌ في أني مفتونٌ بوطني أعظم الفتون، ولهذه الفتنة أسبابٌ أهمُّها الشعور بأنه وطنٌ يمجد الذاتية، ويعين أهل الكرامة على الظفر بشرف الحرية والتفرد والاستقلال

وآيةُ ذلك أني قضيت من عمري ما قضيت في التمرد على أهل زماني، ولم أسمح لأحد بأن يأخذ بيدي في أي وقت، ولا رضيت بأن يكون زمامي في يد أي مخلوق، فكيف كانت العواقب؟

لم يضع مني شيء، ولا أُغلق في وجهي باب، ولا استجاز أحدٌ أن يتناسى أنني استغنيت بالله عن الناس. . . وهل أموت يوم أموت إلا بسبب الإفراط في الطعام والشراب؟

العزَّةُ لله ولرسوله وللمؤمنين، وقد أكرم الله مصر فجعل للروح المصري خصائص لم يَهَبْها لأحدٍ من الشعوب

ولتوضيح جزئية من جزئيات هذا المعنى الكليّ أقول:

كانت مصر أول أمة انتفعت بالإذاعة اللاسلكية بين أمم الشرق، وقد رأت مصر أن يكون (القرآن) فاتحة إذاعات الصباح، وريحانة إذاعات المساء

فماذا وقع؟

رأت جميع الأمم الإسلامية أن تلاوة (القرآن) شرطٌ في صحة الإذاعة اللاسلكية

ثم ماذا؟

ثم رأى الإنجليز والألمان والطليان والفرنسيين أن إذاعاتهم العربية لا تصح إلا إذا افتُتحت بالآيات القرآنية

فما معنى ذلك؟!

معناه أن (مصر) وضعت شريعة للإذاعة اللاسلكية باللغة العربية

ومعناه أن مصر هي صوت العروبة والإسلام في الشرق والغرب

وطني. . .!

إن سنبلة القمح في أرضك أعظم من أختها في أي أرض!

وإن لوزة القطن في أرضك أعظم من أختها في أي أرض!

وما سطعت الشمس في سماء بأقوى مما تسطع في سمائك، ولا ازدان رأس بأكاليل المجد الأصيل كما ازدان رأسك، ولا ضُربَ المثل بالحلاوة والمرارة قبل المأثور من حلاوة نهرك، ومرارة بحرك. . .

وطني. . .!

إن المسيحية تؤرِّخ في كل أرض بميلاد المسيح، وفيك وحدك تؤرَّخ المسيحية بعذاب الشهداء، لأنك وطن المعاني!

وفي الإسلام مذاهب لا تجتمع في بلد إلا ذاق بعضها بأس بعض، وفيك وحدك تلتقي جميع المذاهب الإسلامية بلا بغي ولا عدوان، لأنك وطن الإخاء!

وطني. . .!

إن جنى أحدٌ على نفسه بالغباوة والدمامة، فجنايتك على نفسك هي ذكاؤك وجمالك، يا معترَك الذكاء والجمال في كل عصر وفي كل جيل

وطني. . .!

ماضيك أعظم وأضخم وأشهر من أن يحتاج إلى بيان، فما أنت في حاضرك، وهو ما أعرف وتعرف؟!

هل استطاعت الخطوب الثقال أن تطفئ أنوارك، أو تخمد نيرانك، أو تذبل ازهارك، أو تغيض أنهارك، أو تصدّك عن التحليق في سموات العلم والفكر والبيان؟

لو عانت كبار الشعوب معشار ما عانيتَ، يا وطني، لشالت كفتها في ميزان التاريخ، فكيف استطعت أنت برغم ما عانيت أن تظل مصدر العقل في الشرق، وأن تهتدي بنورك في اللغة والدين مئات الملايين؟

لا إله إلا الله ولا وطن إلا مصر!

ذلك نشيدي في حبك يا وطني، ولن تراني إلا حيث تحب، ولن يراني أعداؤك إلا حيث يكرهون، ولو زعموا أنهم في طهر ملائكة السماء!

الدول تحترب من أجلك، فكيف لا أحترب من أجلك؟ وكيف أهادن خصمائي فيك، وأنت صرحٌ أقام أساسه واهب الخلود؟!

في يدي حسامٌ هو قلمي، وفيه الحتف لأعدائك يا وطني، ولو استظهروا بجيوش البر والبحر والهواء. . . اللهم أعني على الوفاء بالعهد للوطن الغالي

زكي مبارك