مجلة الرسالة/العدد 470/معركة (بلنهايم)

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 470/معركة (بلنهايم)

ملاحظات: معركة (بلنهايم) The Battle of Blenheim هي قصيدة بقلم روبرت ساوذي نشرت عام 1798. نشرت هذه الترجمة في العدد 470 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 6 يوليو 1942



للشاعر الإنجليزي روبرت سوثي

بقلم الأستاذ محمود عزت عرفة

(بلنهايم قرية في بافاريا الغربية على ضفاف الدانوب الأعلى، انتصر عندها الإنجليز وحلفاؤهم من الأوربيين بقيادة مارلبورو (وهو جون تشرشل جد ونستن تشرشل الحالي، يعاونه الأمير أوجين صاحب سافوي. . . على جيوش الفرنسيين والبافاريين بقيادة المارشال تالارد؛ وكان ذلك في 13 أغسطس 1704 م. وقد أنشأ روبرت سوثي - وهو أحد شعراء البحيرة الثلاثة قصيدته هذه عام 1798)

كانت أُمسيَّة من أمسيَّات الصيف الرائعة؛ وقد أنهى (كَسْبَار) العجوز عمله في مزرعته، ثم احتبى أمام باب كوخه يرقب الشعاع الغارب في سكون. . . بينما انطلقت حفيدته (ولْهِلْمِينا) تلهو بجانبه على المرج الأخضر

وبعد هنيهة أقبل أخوها (بيتركين) يقلب في يده كرة بيضاء مستديرة، عثر بها وهو ينبش الأرض إلى جانب الجدول القريب. . .

وراح الصغير يتساءل في لهفة عن هذه الكرة المستديرة الملساء؛ فتناولها منه الجد وأقبل يفحصها بيده وبصره؛ بينا وقف أمامه الصغيران ينتظران جوابه في لهفة واشتياق

هزَّ الشيخ رأسه في أسف؛ وتنهد تنهيدة حرَّى ثم قال: (هذه جمجمة أحد أولئك المساكين الذين سقطوا صرعى يومَ الانتصار الكبير. . . لقد طالما عثرت بمثلها وأنا أنبش الأرض: في الحديقة. . . وفي المزرعة. . . وفي كل مكان. وكم من مرة ارتطمت سكة محراثي بجمجمة كهذه، حتى لأصبحت وما أكاد أحفِل بها أنّي أجدها. نعم؛ إن آلافاً وآلافاً من الرجال البواسل طحنتهم رحى القتال فلم تبق منهم إلا أشلاء مختلطة؛ في يوم هذا النص الذي ارتفع ذكره ودوى صداه!

فهتف (بيتركين) في دهشة: ولكن. . . قل لي يا جدي علام اصطرع هؤلاء الرجال. وفيم استباحوا لأنفسهم أن يَحْضَأُوا نار هذه الفتنة المبيرة، ويتساقوا بأيمانهم كؤوس المنية دهاقاً؟. . .

وأصغتْ ولهلمينا إلى الجواب في لهفة، وقد حدقت في وجه جدها بعينين مستطلعتين

قال الشيخ الهرم: هذا سؤال لا يحضرني جوابه؛ ولكني سمعت الجميع يقولون: إنه كان انتصاراً رائعاً تردَّد صداه في كل مكان. . .

كان أبي يقيم يوم ذاك في (بِلِنْهايم) خلف هذا المجرى القريب؛ ولقد أضرم المتحاربون النار في بيته حتى تداعت أركانه وانهار بنيانه؛ فلاذ بأذيال النجاة، وشرد هائماً في السهل العريض، مع زوجة مكروبة، وطفل مزءود، يطاردهم الموت أنى ذهبوا، وتسد عليهم كوارث الحرب كل مسلك. . . فما يملكون لها دفعاً، ولا يجدون لهم من دونها موئلا. . .

لقد فعل الحديد والنار فعلهما في هذه الأنحاء، وانبثت نذر الهلاك والدمار فيها طولاً وعرضاً؛ حتى لذهلت كل مرضعة عما أرضعت، ووضعت كل ذات حمل حملها. ولكم من شيخ مات إعياء وضعف؛ وطفل اخترم جزعاً وخوفاً. . . ولكن أشياء كهذه تحدث دائماً - كم تعلمان - عند كل انتصار كبير!

إنهم ليتحدثون في ارتياع وذهول، عن بشاعة المنظر الذي كانت تقع عليه العين يوم انجلى غبار المعركة عن أكداس فوق أكداس من أشلاء ممزقة، وهامات مفلقة؛ قد صهرتها حرارة الشمس، ودب فيها دبيب البلي. ولكن هكذا الشأن في كل نصرة: مسرة تحفها الآلام، ونعمة يعاتقها الشقاء، وتسد سبيلها الكوارث والمفجعات. . .

لقد طوقت هذه الحرب (دوقَ مارلْبوردُ) بهالة من المجد والفخار، وأكسبه صدق بلائه فيها محبة وثيقة من كل قلب، وثناء رطيباً على كل لسان. وكذلك حظي أميرنا المحبوب (أُوجين) بقسط من الحمد عظيم، ونصيب من الثناء وافر. . . فاعترضت ولهلمينا تقول: عجباً! وفيم كل هذا؟ لقد ارتكبا والله شناعة، وأتيا أمراً إدَّا.

قال الشيخ في حدة: كلا، كلا يا فتاتي العزيزة؛ إنه لانتصار رائع وفوز مبين؛ وإن الجميعَ ليثنون على الدوق الشجاع الذي بلغ بمقدرته تلك الغاية، وسجل هذا النصر الأغر. . .

وهنا عنَّ لبيتركين أن يسأل بدوره فقال:

ولكن حدثني يا جدي عما أفاده الناس من هذه المعركة الطاحنة، ذات الحوادث الرهيبة!

فأحس الشيخ بالحرَج. . . وكأنما قد فرغ رأسه بعد أن نفض عنه كل ما يعلم، فقال في لهجة من يختتم الحوار:

لا أستطيع يا بني أن أقول في هذه المعركة شيئاً، سوى أنها كانت نصراً حاسماً تردَّد صداه في كل مكان!!

(جرجا)

محمود عزت عرفة