مجلة الرسالة/العدد 470/مثل المصرية الحديثة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 470/مثل المصرية الحديثة

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 07 - 1942


- 2 -

قالت السيدة. و. . . تفصل ما أجملت من رأيها في معنى لفظ البيت الجدير بأن يكون بيت أسرة، وفي حقيقة معنى المرأة الجديرة بأن تكون ربة بيت:

قد تكون الزوجة أبصر النساء بفنون الطبخ وشؤون المطبخ وأصول المائدة، ولكنها تكون أجهلهن بما يجب لمهد الطفل وسرير الزوج ومدفأة الأسرة وبهو الضيوف، وإذن لا تعدو أن تكون طاهية

وقد تكون الزوجة أقوم على رعاية الطفل والزوج، واضبط لحساب الدخل والخرج، وأحزم في سياسة العمال والخدم، ولكنها تكون عامية الفكر خشنة الجانب مبتذلة الهندام فلا تعدو أن تكون قهرمانة

وقد تكون الزوجة بطبيعتها ولوداً فتتوزعها الآلام والأسقام والشواغل في الحمل والوضع والرضاع والفطام والترتيب والتهذيب والتمريض فلا يبقى من جهدها طاقة للبيت، ولا من وقتها ساعة للناس، ولا في قلبها مكانة للزوج، فلا تعدو أن تكون والدة

وقد تكون الزوجة أجذب أنوثة من كليوبطرة، وأعذب حديثاً من شهرزاد، وأفتن رشاقة من بنات هليوود، ولكنها تكون خرقاء لا تجيد العمل، حمقاء لا تحسن التدبير، فلا تعدو أن تكون خليلة

وقد يقتصر مدلول البيت في ذهن السيدة على غرفة الزينة وقاعة المطالعة وصالون الاستقبال، فهي ترقب الحديث من الثياب، وتقرأ الجديد من الكتب، وتناقش الطريف من الآراء، ولكنها تعيش على هامش الأسرة عيش الترف والظهور والحذلقة، فلا تعدو أن تكون أدبية

وليست المرأة الصالحة لملكوت البيت واحدة من أولئك، إنما هي هن جميعاً: هي مخلوقة من نوادر ركبها الله من مجموع ما تشتت من الفضائل في هؤلاء النسوة، كما ركَّب الإغريق (فينوس) من جملة ما تفوق من الجمال في مختلف الحسان

قال الطبيب الزوج: كأنك يا عزيزتي تنقلين عن نفسك صورة هذه المرأة. وأقسم لقد تعلمت في بعض بلاد أوربا تقلبت في بعضها الآخر فلم أر صاحبة بيت تفوقك فيما سردت من مزايا الزوجة الصالحة

فقالت الزوجة: قد يكون في شهادة الزوج لزوجه بعض الهوى الذي يميل ميزان الحكم، أو بعض الرضا الذي يُزيغ بصر الناقد

قال المحامي: ربما كان الهوى والرضا من شوائب الحكم في غير الزوج! فإن الغالب أن يُتهم الزوجان بعد طول العشرة، ودوام الخبرة، وسأم الخلاط، بقسوة العدل أو برقة الظلم في حكم أحدهما على الآخر. على أن صديقنا الدكتور لم يعدُ ما في نفوسنا جميعاً؛ وإنما المسألة الصريحة التي تطلب الجواب الصريح هي أنني عرفت من النساء من هن أوسع ثقافة وأرفع بيئة وأضخم ثروة وأكرم أسرة، ولكني لم أجد فيهن ما وجدت فيك من خلال الزوجة المرجوة التي تجمع حنان الأم وإخلاص الزوجة وبراعة القهرمانة ومهارة الطاهية وأناقة الحبيبة وثقافة الأديبة. فإذا لم تكن الثقافة أو البيئة أو الثروة أو الأسرة هي التي تكوِّن الفتاة على هذه المزايا فمن ترينه يكون؟

فقالت السيدة: إن أغلب في هذا الضرب من النساء أن يكون وليد الفطرة وربيب الطبيعة. وهو يكثر حيث يشتد التماسك ويقوى التضامن في الأسرة؛ لذلك تراه في القرى أكثر منه في المدن، وبين العامية أظهر منه بين الخاصة، وما دامت القسمة الطبيعية قائمة بين الشريكين الدائمين على أن يكون للزوجة البيت وللزوج ما وراءه، فإن هذه الخصائص الفطرية تنشأ في المرأة بحكم الضرورة، وتقوى بفعل المران، وتحكم بسلطان العادة. وليس التعليم والتمدين إلا ثقافاً وصقالاً لهذه الخصائص يقومانها ويرفعانها إلى المستوى الذي بلغه المجتمع. فإذا وجدت امرأة تجردت من هذه الشمائل كلها أو بعضها، فلا تشك في أن طبيعة الأنوثة قد فسدت لسبب من الأسباب، فغدت من شواذ الخَلق كالجمل المستنوق أو الناقة المستجملة

قال الفلاح: لقد كنت أتمثل في ذهني المرأة القروية حينما كنت تصفين ربة البيت. ولكني لم أستطع إقحامها في الحديث لأنها في رأي الجمهور عنوان الجهالة حتى سمعتك تقررين أن الزوجة الصالحة تكثر في القرية. والحق الذي يؤيده العيان أن الفلاحة تقوم على شئون البيت، وتنهض بأمور الأسرة، على المنهج الأعلى الذي رسمتِه في قولك واتبعِته في فعلك. والفرق بين القروية والمدنية هو الفرق بين بيت وبيت، وبيئة وبيئة، وحياة وحياة.

وتجانس العقلية في المجتمع القروي يجعل مكان المرأة فيه أرفع، وسلطانها عليه أوسع، لتميزها عن الرجل في قوة النشاط ولطف الحيلة ويقظة الرأي

فقالت السيدة: ذلك يؤيد ما قلت من أن ربة البيت هي من صنع الضرورة والطبيعة، لا من صنع المدرسة والبيئة؛ والضرورة هي وجود البيت، والطبيعة هي توزيع العمل على حسب الاستعداد والقدرة. ولا أعني بالبيت المسكن، وإنما أعني به الأسرة. وللأسرة في النظام الاجتماعي مفهوم قلما يتضح في أكثر النفوس؛ فلا تظنوا أن قصور الخاصة بيوت تسكنها اُسر، إنما هي فنادق ينزلها أفراد. فللزوجين والأولاد غرف لا يدخلونها إلا وقت النوم، ومائدة لا يرونها إلا ساعة الأكل، وصالون لا يزورونه إلا يوم الاستقبال، ومرافق لا يعرفونها إلا عند الحاجة. أما القصر وما فيه ومن فيه ففي ذمة القهارمة والخدم. ومن المحال أن ينشأ في مثل هذه الجماعة المنتثرة سيدة تصلح لبيت، أو آنسة تصلح لزوج، وفي اعتقادي أن الكتّاب الذين يعادون المرأة المصرية بين رجلين: رجل أحبها ويريد بعدائها أن تتحدث عنه فهو خادع، ورجل كرهها لأنه عرفها في البيئات الممسوخة فهو مخدوع.

احمد حسن الزيات