مجلة الرسالة/العدد 47/صورة من الثورة الفرنسية
مجلة الرسالة/العدد 47/صورة من الثورة الفرنسية
مدام رولان 1754 - 1793
بقلم عبد الرحمن فهمي ليسانسيه في الآداب
مدام رولان، أنقى شخصيات الثورة الفرنسية، لا تزال تدوي كلماتها الأخيرة وهي تصعد درجات المقصلة في كافة الأرجاء.
وهي مانون ابنة مثال باريسي يدعى فيلبون، وكانت غرفتها ملاصقة (لاستيديو) النحت، تقضي فيها وقتها منهمكة في قراءة تراجم أبطال التاريخ. أبكاها يوماً أنها لم تكن رومانية أو اسبرطية، وقد جهلت أنها سوف تواجه أزمة لم يواجه مثلها أحد ممن كانت تحلم أن تكون مثلهم من أبطال التاريخ.
وكان يسرها كثيراً فوق قراءة الكتب اصطحاب أمها لها إلى حديقة النبات أو اللكسمبورج في باريس، عشقت القرية، ويدل على ذلك قولها (إنني أحب هذا السكون الذي لا يعكر صفوه غير صياح الديكة، وأشعر بالراحة التي تشعر بها شجرة ينقلونها من صندوق ضيق محدود إلى حقل واسع فسيح) وأحبت الرسم الذي يأخذك منه سحره وقوته. غير أنها لم تواصل عمل أبيها في النحت طويلا، لأنها مالت إلى العلوم، فكانت تنمي بما تقرأه وتلحظه من تجارب الحياة عقلا ناضجاً خدمت به الصالح العام.
أدخلت وهي في الحادية عشرة من عمرها ديراً تعرفت فيه بصديقتين حميمتين توثقت بينهن عرى الصداقة وهما: هنريت وصوفي كانيت. وبعد أن خرجن من الدير ورجعن إلى دورهن بقى الاتصال بينهن وثيقا، وذلك ما حدا بجدة مانون إلى أن تقول لها (ستنسين صديقتيك حالما تتزوجين) وسنرى مقدار صحة هذه الملاحظة من جانب الجدة العجوز.
ورسائل مانون أحسن وسيلة نرى منها صورة واضحة لشباب هذه الفتاة، فقد تحول اهتماماً بالدين إلى تعشق الفلسفة، ساعدها على ذلك عقل جبار يغلي كالمرجل ولا يستريح. وقد انتقت من بين خطابها العديدين رجلاً توهمت أنها تميل إليه، وهو مؤلف فيلسوف يدعى لابلانشير، ولكن سرعان ما ألقت عن نفسها هذا الميل واطرحته جانباً، غير واجدة فيه مثلها الأعلى. وكانت جد كلفة بكتابات روسو، وقدر لها أن تراه، وقد وصفت درجات سلم داره (. . . كما لو كانت درجات سلم معبد).
من هذه الرسائل نرى في مانون فتاة متحمسة ذكية، حية نشطة، محبة للاطلاع، قوية الذاكرة، وقد أثرت وفاة أمها في حياتها فخبا نورها قليلاً بتأثير الصدمة والحاجة إلى المال بعد ذلك.
إلا أن القدر خط صفحة جديدة في حياتها، فأن شخصاً يكبرها بعشرين سنة تمكن من أن يكسب عطفها الدائم نحوه ومحبتها الثابتة له، وهذا الشخص هو السيد رولان المفتش العام للصناعات، وزفت إليه وهي في سن السادسة والعشرين، وانتقلت معه إلى ليون.
وكان لأسرة رولان نخبة طيبة من الأصدقاء المثقفين الوطنيين الذين غالبا ما كانت تراسلهم مدام رولان راغبة بذلك تحسس الطريق نحو المجتمع الباريسي الساطع، فأن أسعد أوقاتها هي تلك التي كانت تقضها في غرفة الموقد بين ابنتها الصغيرة تعلمها حياكة قطعة من قماش وبين زوجها يدرس أوراقه على مكتبه، على حين تطرق أذنها فرقعة النار في الموقد وصوت الصقيع يصدم النافذة. وصفت في رسائلها حبها الشديد لتغيير فصول السنة واختلاف مواسم الزراعة في الحقول، ولم يعل على حبها لفترة تقضيها وسط الطبيعة الهادئة أي حب آخر
غير أن هذا السلام لم يدم طويلا، فإن الحكومة في فرنسا كانت سيئة في هذا الحين، والأرستقراطية المترفة فوق القانون، والفوضى ضاربة بجرانها على ربوع المملكة، أما الشعب الجائع فالويل له إن نبس أحد أفراده ببنت شفة ضد النظام القائم، وكانت تكفى إشارة بسيطة أو تلميحة سريعة لطرح المحتج في أعماق السجون. ورمت أسرة رولان وأصدقاؤها بأنفسهم في أحضان الحركة التي قصد بها إسقاط النظام الإقطاعي ومساوئه، وأصبحت مدام رولان: هذه المرأة الجميلة الملتهبة، روح حزب الجيروند الذي عمل على تشييد عهد الحرية على أساس معتدل
وبدأت الثورة الفرنسية عام 1789 وعهد إلى رجال حزب الجيروند عام 1792 بالحكم، ولكن اعتدالهم وإظهار استيائهم من مذبحة سبتمبر ورفضهم التصويت ضد إعدام الملك أتاح الفرصة لنجاح المتطرفين فقضوا على المعتدلين - منشأ الثورة ومنبعها - وصعدوا على أنقاضهم إلى منصة الحكم. وفي عام 1793 أعدم الملك ومعظم الجيرونديين وبدأ عهد الإرهاب برعاية اليعاقبة أكثر متطرفي الثورة شدة وعنفا.
عندما كانت السلطة في يد الجيرونديين عهد إلى السيد رولان بوزارة الداخلية، فكانت زوجته هي التي تحضر أوراقه الرسمية، وأصبحت بعد أن كانت تحرر إلى أصدقائها أمثال صوفي وهنريت تراسل البابا والملك برسائل يستعين بها المؤرخ الذي يكتب عن هذا الفصل من تاريخ فرنسا، ولو كانت مدام رولان رجلا أو لو سمح للمرأة في ذلك الوقت بلعب دور صريح على مسرح الحياة العامة لاختلف تاريخ الثورة الفرنسية عما هو عليه الآن.
وقد انتقلت مدام رولان من مسكنها المتواضع إلى الدار الفخمة التي كان يقطنها الوزير الخطير نكر، ووافقتها حياتها الجديدة كل الموافقة، إلا أنها لم تؤثر في خلقها السامي وطبيعتها البسيطة. وكانت تمد السماط للوزراء جميعاً مرة كل يوم جمعة، فإذا انصرفوا خلعت عنها ملابسها الرسمية، وانكبت على مكتبها تعمل بجد ونشاط فائقين.
وتمتاز من الجميع بهدوئها الظاهر، يكفي من جانبها كلمة هادئة تلقيها لتقضي بها على الاختلاف الحاد في الآراء، وغالباً ما أرسلت شعاعاً منيراً يستضيء به القوم في نقاشهم فتحلُ العقد وتفك الطلاسم.
وكثيراً ما دعاها المجلس الوطني ليمطرها أعضاؤه وابلا من الأسئلة كانت تجيب عليها جميعاً في اعتدال ووضوح وصراحة غير هيابة ولا وجلة، ولم تخف قط على حياتها، إنما كان إشفاقها دائماً على وطنها، وقد رأت بنظرها الثاقب وعقلها الفطن الناضج أنه ليس بين الجيرونديين رجل واحد يمكن أن يعهد إليه بأمر البلاد، وأنه لا يوجد بين اليعاقبة المتطرفين اثنان يمكن أن يثق أحدهما بزميله.
وسرعان ما تحقق تشاؤمها عندما تمكن اليعاقبة بقيادة مارا ودانتون وروبسبير من إسقاط الجيرونديين، وأدانوا أسرة رولان فيمن أدين من المعتدلين، فهرب رولان وقبض على زوجه، ثم أخلى سبيلها ليقبض عليها مرة أخرى بعد ساعة من إخلاء سبيلها ألقيت في أعماق السجون متهمة بأشنع التهم وأسفلها، ولكنها في السجن كما هو الحال في أي مكان آخر استطاعت أن تغزو القلوب، وصار حراسها طوع إرادتها ورهن إشارتها. ويشير صديق لها اعتاد زيارتها في سجنها (بأنها كانت تحدثه في شجاعة الرجل العظيم بصوت عذب كالموسيقى) إلا أنها كانت تخلو بنفسها تستند إلى النافذة وتمضي الساعات الطوال.
وبعد أن كانت ترى في فرنسا مهداً للإخاء والحرية والمساواة، أصبحت تجد فيها كابوساً ثقيلا ومجزرة يذبح فيها أبناؤها بتهمة حانق أو شكوى حاسد، ولم تسد شهوة الدم وجشع السفاكين ما كان قائماً ليل نهار من قتل النفوس بالمقصلة والرصاص والإغراق.
وقد ذكرت في آخر رسائلها أنها (تحب ضوء الشمس ودارها وزوجها وابنتها المحبوبة وخادمتها الوفية) وتركت لابنتها صحفاً جمة من رسائل الحنان الأموي ملأى بالنصائح الغالية والكتاب الآتي أحد هذه الرسائل التي كتبتها في سجنها إليها:
(لست أدري يا عزيزتي إن كان يسمح لي بمقابلتك أو الكتابة إليك مرة أخرى أو لا. تذكري أمك دائماً. وهذا أحسن ما يمكن أن أقوله لك. ولقد عهدتني سعيدة لشعوري بتأدية الواجبات الملقاة على عاتقي، ولاستطاعتي خدمة الذين يعانون آلام الحياة ومساعدتهم؛ وهل الحياة إلا هذا؟ لقد وجدتني أذعن للقدر إذ يسوقني إلى الأسر، ولست مجرمة أستحق هذا، إلا أن الذكرى الطيبة والماضي الحسن والأعمال الجليلة هي كل عزائي، وبمثلها يستطيع المرء أن يحتمل مساوئ الحياة وتقلبات القدر. إن ما أتمناه هو ألا يقدر لك مثل ما قدر لي من المشاق والمتاعب وهناك ما لو استطعت اتباعه تفاديت به قسوة الحياة وحميت نفسك من مساوئها، ألا وهو العيش المنتظم الذي لا فراغ فيه؛ فهو حارس من كل خطر؛ وهو حاجة تبحث عنها النفس وحكمة يسعى إليها العقل، ليكون صاحبهما جاداً محترماً في حياته. فكوني عند حسن ظن أبويك بك، فقد تركاك مثلا جميلا، ولو استطعت أن تستغلي هذا المثل للوصول إلى ناحية الكمال أمكنك أن تحيي حياة نافعة).
زارتها في سجنها يوماً هنريت كانيت، وطلبت إليها أن تبدل لباسها وتسرع إلى الهرب، وتبقى هي في مكانها، إلا أن مانون رفضت طلب صديقتها في إباء وشمم، قائلة لها (ولكنهم يقتلونك إن فعلت ذلك) وبعد خمسة أشهر من سجنها استدعيت للمحاكمة، وكيلت لها التهم الشنعاء، فوقفت تدفعها عن نفسها باكية ساخطة. وفي اليوم التالي في 8 نوفمبر سنة 1793 سيقت إلى المقصلة، ولما رأت الشجاعة تخون جلادها حثته على أن يؤدي واجبه، وقد ظهرت وهي على شفا حفرة الموت نبيلةً في لباس أبيض ناصع يدل على طهرها. وشعرها الأسود الفاحم مرسل حتى وسطها، ينبعث من عينيها البراقتين شعاع الشجاعة والنبل.
وبينا هي على درجات المقصلة إذ عنت لها أفكار فطلبت قرطاساً وقلماً لإثباتها، إلا أن طلبها رفض. ولن نعرف بطبيعة الحال ماهية هذه الأفكار التي نادتها ساعة الموت فلم تتمكن من تلبيتها.
بعد أسبوع من إعدام مانون عثر رجل على جثة قائمة إلى بعض الأشجار وقد امسكها بالشجرة سيف قد نفذ إليها من قلبه وعند قدمه ورقة خط عليها ما يأتي: (أنا رولان، لم أترك فرصة تمر دون اقتناصها في سبيل إسعاد وطني. أقدمت على إزهاق روحي لا من خوف ولا وجل، ولكن احتجاجاً على إعدام زوجي. فرغبت عن الحياة التي دنستها الجريمة).
حقاً إن هذه الصورة تمثل نهاية قاسية لفصل مزعج من فصول التاريخ الإنساني.
عبد الرحمن فهمي ليسانسيه في الآداب