انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 47/الكتب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 47/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 05 - 1934



مذكراتي في نصف قرن

بقلم الأستاذ أحمد شفيق باشا

(في 527 صفحة كبيرة - طبع مطبعة مصر)

لم يجتمع لكثير من رجال الدولة المصرية مثلما اجتمع لصاحب السعادة الأستاذ أحمد شفيق باشا من ظروف المشاهدة وفرص الدرس والاطلاع والتحقيق؛ فقد عاصر هذا الشيخ النابه النشط عدة عصور ومراحل من تاريخ مصر الحديث؛ وشهد الحياة المصرية منذ أواخر عصر إسماعيل، واتصل بالقصر وشئون الدولة العليا منذ حداثته؛ وشهد حوادث الثورة العرابية وتتبعها بدقة، وكان مرجع النفوذ والحول طوال أيام عباس. ولم يكن شفيق باشا يطوي هذه المراحل والعصور مشاهداً فقط، ولكنه كان يقرن المشاهدة بالدرس والتدوين؛ فكان يدون مذكراته تباعاً عن الحوادث والشئون الخطيرة التي كان تتري في هذه الحقبة من تاريخ مصر، ويدون إلى جانبها كثيراً من الملحوظات عن تطور الحياة المصرية الاجتماعية، ثم عن حياته الخاصة التي كانت صدى ومثالاً صادقاً لهذه الحياة.

وقد أخرج لنا الأستاذ شفيق باشا الجزء الأول من هذه المذكرات في مجلد ضخم؛ يتناول وصف الحوادث والحياة المصرية منذ أواخر عهد إسماعيل حتى عزله، ثم عهد توفيق والثورة العرابية وأسبابها ونتائجها حتى استقرار الاحتلال الإنكليزي. وهذا هو القسم التاريخي العام. ويتناول القسم الثاني منه حياة المؤلف الخاصة أثناء دراسته في باريس، ومشاهداته العامة في فرنسا ومختلف البلاد الأوربية التي زارها.

ولعله لم يصدر عن الحياة المصرية في أواخر القرن وصف أصدق ولا أمتع من ذلك الذي يتحفنا به شفيق باشا في مذكراته. فقد تقلب شفيق باشا منذ حداثته في مختلف البيئات والمجتمعات المصرية لهذا العهد، واتصل بالطبقات الاجتماعية الرفيعة اتصالاً وثيقاً؛ وشهد بعينه من صورها وألوانها الشيء الكثير؛ ووصف لنا جدها وهزلها ولهوها وسمرها وصفاً صادقاً شائقاً؛ ويجد مؤرخ الحضارة المصرية في هذا العصر في مذكرات شفيق باشا مادة نفيسة تؤيدها المشاهدة الصادقة. وهذه ناحية من الكتاب لها أهميتها وسحرها.

بيد أن لهذه المذكرات من الوجهة التاريخية ناحية أهم. ذلك أن المؤلف يقص علينا سيرة الحوادث السياسية الخطيرة التي وقعت في عهد توفيق، أعني الثورة العرابية وما انتهت إليه من النتائج المشئومة. وقد كتب تاريخ الثورة العرابية وما إليها في العصر الأخير غير مرة، وصدرت عنها مذكرات كثيرة مصرية وأجنبية، ولكن شفيق باشا ينفرد بمعالجة ناحية لم تعالج من قبل بمثل ما عالجها به من الإفاضة والدقة، ولم يكن ليستطيع معالجتها غير شفيق باشا نفسه. ذلك هو موقف القصر ووجهة نظره وحقيقة تصرفاته إزاء تلك الحوادث العصيبة. وقد كان شفيق باشا يومئذ من موظفي القصر، ومن الرجال الذي يضع فيهم الخديو ثقته؛ وكان بذلك في مركز يستطيع أن ينفذ منه إلى بواطن الأمور وحقائقها وأن يعرف حق المعرفة ما يقع في القصر وما يدبر فيه وما يقال نحو الحوادث وتطوراتها، وأن يقف على وثائق لا يقف عليها غير رجال القصر الأخصاء؛ وهذه الناحية تبدو واضحة قوية في رواية شفيق باشا عن الثورة العرابية، وتلقي الضياء على مسائل وشئون كثيرة في تاريخ الثورة لم نقف عليها من قبل بمثل ذلك الوضوح. وهذه الميزة وحدها تجعل لمذكرات شفيق باشا قيمة كبيرة؛ هذا إلى ما يتخلل ذلك كله من النبذ الاجتماعية والأدبية التي تمثل روح العصر وأحواله أصدق تمثيل.

فنهنئ الباشا بمجهوده القيم، ونرجو اله أن يمتعه بالصحة والعافية حتى يخرج لنا ما تبقى في جعبته من ذلك التراث القومي النفيس.

(ع)