مجلة الرسالة/العدد 47/القصص
مجلة الرسالة/العدد 47/القصص
صاحب الملايين الأنموذج
للأديب الإنجليزي أوسكار وايلد
ترجمة الأستاذ بشير الشريقي
لا ينتفع المرء بجمال الشاب إلا مع الغنى؛ البطالة عمل الغني وليست شغل الفقير؛ على الفقراء أن يكدوا في طلب الرزق؛ دخل ثابت خير لك من شبابك الفاتن؛ تلك هي الحقيقة الواحدة في هذا الجيل الحديث، الحقيقة التي لم يدركها (هيوارسكين).
مسكين هيو! إنه ليس بالفتى صاحب الشأن أو الذي يضر وينفع؛ ولكنه كان يبدو مثال الملاحة بشعره الأسمر المجعد. وعينيه الرماديتين؛ ووجهه الجميل، وكان مشهوراً بالحسن بين الرجال والنساء على السواء، وبأنه يجمع كل الفضائل إلا فضيلة كسب المال؛ خلف له والده وكان فارساً مقداماً حسامه وتاريخ حرب الجزيرة في خمسة عشر مجلداً، فعلق (هيو) الحسام على مرآته، ووضع كتاب التاريخ على الرف. لقد طرق كل أبواب الرزق، فاحترف الصرافة ستة أشهر، ولكن ما الذي تفعله الفراشة بين الثيران والدببة؟ واشتغل بتجارة الشاي لمدة أطول بقليل، ولكن سرعان ما تعب: حينئذ جرب بيع الخمر الأسباني فلم ينجح؛ وأخيراً أصبح لا شيء، اللهم إلا شاباً طروباً قد أعطى البطالة مقوده.
وعلى نية العمل المثمر أحب؛ وكانت الفتاة التي أحبها تدعى (لورا ميرتون) وهي ابنة كولونيل متقاعد أضاع مزاجه ونظامه في بلاد الهند. لقد عبدته (لورا) وكان هو على استعداد لأن يقبل شريط حذائها؛ كانا أظرف عاشقين في لندن ولا يملكان فلساً واحداً.
أحب الكولونيل (هيو) كثيراً، ولكنه لم يكن يرغب أن يسمعه يتحدث عن أية خطبة، وكان يقول له من حين إلى حين: (تعال إليّ يا ولدي؛ حين تصبح مالكاً لعشرة آلاف جنيه عندها نفكر في أمر خطوبتكما) فيتألم (هيو) ويذهب إلى (لورا) ليجد بقربها العزاء.
في صباح أحد الأيام خطر له - وهو في طريقه إلى متنزه (هولاندة) - أن يرى أحد أصدقائه العظام (ألن تريفور) وكان (ألن تريفور) رجلاً غريباً فظاً؛ نمش الوجه أحمر الخدين خشن اللحية؛ ولكنه كان رساماً ماهراً، وفناناً إذا تناول قلم الرسم فهو الأستاذ الحقيقي والرسام العبقري.
وكان هذا الفنان عظيم الميل (لهيو) في الزمان الذي مضى، عظيم التقدير لجماله، وكثيراً ما كان يقول (على الفنان أن لا يصاحب إلا الظرفاء اللطفاء؛ والذين يشجيك مسمعهم ومنظرهم).
حين دخل (هيو) المحترف (الستديو) وجد (تريفور) يضع الأجزاء الأخيرة لصورة شحاذ كبيرة، ورأى الشحاذ نفسه واقفاً على منصة مرتفعة في زاوية المحترف، لقد كان شيخاً متهدماً ذا وجه كالجلد المجعد، قد ألقى على كتفه عباءة خشنة كلها رقع وخرق، ولبس حذاء رثاً بالياً، واتكأ بإحدى يديه على عصا غليظة، ومد بالأخرى قبعته الممزقة يلتمس المعروف!.
همس (هيو) وهو يصافح صديقه - ياله من أنموذج غريب! فصاح (تريفور) بأعلى صوته - أنموذج غريب. . أظنه كذلك. . إنك لا تلتقي بأمثال هذا الشحاذ كل يوم. . إنه لقية يا عزيزي.
هيو - مسكين هذا الشيخ إنه يبدو مثال البؤس والشقاء وإني لأظن أن ثروته بالنسبة إليكم أيها الفنانون إنما هي في وجهه
أجاب تريفور - طبعاً. . أنت لا تريد أن يبدو الشحاذ مسروراً
هيو - كم يأخذ الأنموذج عن كل جلسة.
- شلناً في الساعة.
- وكم تأخذ أنت على صورتك يا (ألن)
- أوه. . آخذ على هذه ألفي جنيه.
هيو ضاحكاً - حسن، ولكني أرى أن يأخذ الأنموذج نسبة من الأرباح، إنهم يتعبون بقدر ما تتعبون.
- كلام هراء. . يجب ألا تضيع وقتي بمثل هذا السخف، إنني مشغول جداً، دخن سيجارة واجلس صامتاً.
وبعد حين دخل الخادم وأخبر (تريفور) أن صانع الأطر يريد أن يكلمه.
(تريفور) وهو خارج - لا تذهب يا (هيو) سأعود حالاً.
اغتنم الشحاذ الشيخ فرصة غياب (تريفور) فجلس يستريح على مقعد خشبي كان موضوعاً خلفه، حقيراً بائساً؛ حتى أن (هيو) لم يملك نفسه من الحزن عليه، فمد يده إلى جيبه ليرى مقدار ما معه من الدراهم، فكان كل الذي وجده ديناراً وبضعة دوانق، فقال لنفسه (مسكين الشيخ إنه أحوج مني إلى هذه الدراهم) وسار وسط (الستديو) ورمى الدينار في يد الشحاذ.
فزع الشيخ وارتسمت على شفتيه الذابلتين ابتسامة ضئيلة وقال: أشكرك يا سيدي. . أشكرك. .
ثم حضر (تريفور) فاستأذنه (هيو) بالانصراف إلى (لورا) حيث أمضى النهار وتمتع بتعنيف لذيذ على إسرافه.
وفي تلك الليلة؛ حوالي الساعة الثانية عشرة، ذهب إلى نادي (باليت) فوجد (تريفور) جالساً وحيداً في غرفة التدخين يعاقر بنت الحان؛ فقال له وهو يشعل سيجارته.
- خيراً (ألن). . هل أنهيت الصورة!
فأجاب تريفور - لقد انتهت يا ولدي، وأحيطت بالإطار؛ وعلى ذكر الصورة أخبرك أنك حزت ظفراً عظيماً نهار الأمس، إن ذلك الأنموذج الشيخ الذي رأيته معجب بك كل الإعجاب ولقد أخبرته عن كل ما يتعلق بك. . من أنت؟ وأين تعيش؟ وكم دخلك! وما هي مطالبك من الدنيا؟. . .
صاح (هيو) - يا عزيزي ألن، أخاف أن أجده في انتظاري كلما ذهبت إلى البيت؛ ولكنك تهزل. . مسكين هذا الشيخ الفقير.
آه! لو أقدر على نفعه. . إنه لشديد أن يعيش إنسان في مثل بؤسه؛ عندي في البيت تلال من الثياب القديمة، فهل تظن أنه يهتم بثوب منها؟ ولم لا؟ إن خرقه أخذ منها البلى مأخذه. .
تريفور - ولكنه يبدو في أطماره زاهياً، إن ما تسميه أنت اطماراً أسميه أنا حللاً، وما يظهر لك أنه الشقاء هو مثال البهاء عندي. . وعلى كل حال فسأخبره عن هديتك.
هيو جاداً - إنكم بلا قلب أيها الرسامون.
أجاب تريفور - قلب الفنان رأسه، ليس الإصلاح صنعتنا وإنما تصوير العالم كما نراه ولكل صنعته. . والآن حدثني عن (لورا) كيف هي؟ لقد أغرم بها الأنموذج كثيراً.
هيو - أنت لا تريد أن تقول إنك حدثته عنها.
- أؤكد لك أنني حدثته، لقد عرف كل شيء عن الكولونيل الذي لا يرق له قلب، وعن (لورا) المحبوبة؛ وعن العشرة آلاف جنيه.
فصاح هيو وقد بدا عظيم الغضب كثير الاحمرار - إذن لقد أطلعت ذلك الشيخ الشحاذ على كل شؤوني الخاصة.
تريفور مبتسماً - يا ولدي العزيز إن الذي تدعوه بالشيخ الشحاذ هو من أغنى الرجال في أوربا، إنه يقدر أن يبتاع لندن كلها غداً من غير أن يؤثر ذلك في ثروته؛ إن له قصراً في كل عاصمة؛ ويأكل في أطباق من الذهب والفضة؛ وهو قادر - حين يشاء - أن يمنع روسيا من الحرب.
هيو متعجباً - من هذا الذي تعنيه؟!. .
تريفور - أقول إن الرجل الشيخ الذي رأيته في (الستديو) هو (البارون هوسبيرج) إنه من أعظم أصدقائي، ويبتاع كل صوري، وقد كلفني منذ شهر أن أرسمه كشحاذ فما قولك بهوي هذا المليونير.
صاح هيو - البارون هوسبيرج يا إله السموات. لقد تصدقت عليه بجنيه. . . وارتمى على المقعد مذعوراً. .
تريفور صائحاً - تصدقت عليه بجنيه!! وانفجر عن هدير من الضحك!
هيو بحزن - كان يجب أن تخبرني يا ألن. . .
ألن - لا بأس يا هيو. . إنه لم يخطر لي على بال أنك يمكن أن تذهب هذا المذهب في توزيع الصدقات؛ إنني افهم تقبيلك لأنموذج جميل، أما أن تعطي ديناراً لقبيح فلست أفهمه!
هيو - وأي غبي ظنني؟!.
- أبداً لقد كان في غاية السرور بعد أن غادرتنا، وظل يضحك في سره ويصفق بيديه المتغضنين مدة؛ لم أستطع إدراك سر سروره حينذاك؛ ورغبته في معرفة كل شيء عنك؛ أما الآن فقد فهمت كل شيء؛ سوف يشغل لك دينارك يا هيو ويدفع لك الفائدة كل ستة أشهر.
زمجر هيو - يا لي من شقي. الأحسن لي أن أذهب إلى الفراش، أرجوك يا عزيزي ألن ألا تخبر أحداً؛ إنني لم أعد أجرؤ على لقاء الناس
كلام هراء. إن عملك يا هيو يدل على ما في نفسك من الخير العظيم، لا تذهب، خذ سيجارة أخرى؛ وتكلم عن لورا بقدر ما تشاء. .
لكن (هيو) لم يقف بل سار إلى البيت حزيناً، تاركاً (ألن تريفور) غارقاً في الضحك.
في صباح اليوم الثاني وقد جلس (هيو) يتناول فطوره، أحضر له الخادم بطاقة كتب عليها (السيد كوستاف نودن، رسول البارون هاسبورج).
فقال هيو لنفسه - يغلب على ظني أنه آت يطلب إلى أن أعتذر، ثم أمر الخادم أن يصعده ردهة الاستقبال. .
دخل الغرفة شيخ جليل ذو منظار ذهبي وشعر أشيب وقال بلهجة فرنسية: هل لي شرف الكلام مع السيد (أورسكين).
- فانحنى له هيو.
الشيخ مستمراً - لقد أتيت من عند البارون هاسبيرج، ان البارون. . . .
هيو مقاطعاً - أرجوك يا سيدي أن تبلغه أصدق اعتذاري.
فابتسم الشيخ الجليل وقال - لقد أرسلني البارون أسلمك هذا الكتاب. ومد يده بمغلف مغلق قد كتب عليه (هدية عرس إلى هيو أورسكين ولورا ميرتون من شحاذ عجوز) وفي داخله حوالة بعشرة آلاف جنيه
وحين اقترنا صار لهما ألن تريفور عجاهنا، وألقى البارون خطاباً على مائدة العرس؛
وأبدى (ألن) هذه الملحوظة (إن نماذج صاحب الملايين نادرة، ولكن أنموذج أصحاب الملايين أندر)
شرق الأردن
بشير الشريقي المحامي