انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 466/قبل الرحيل

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 466/قبل الرحيل

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 06 - 1942



نشيد الأغلال!!

(إلى ذات الرداء الجازع. . .!!)

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

سَئِمْتُ عَذَابَ الْحبِّ! فَلْيَمْضِ عِطْرُهُ ... وَسِحْرُ أَغَانِيهِ إلى غَيْرِ رَجْعَةِ!

سَقَانِي بِمَا لَمْ يُسْقَ مِنْهُ مُحَيَّرُ ... عَلَى اْلأَرْضِ. . . يُسْقَى الْمَوْتَ في كُلِّ خُطْوَةٍ

وَقَيِّدَ أيَّامي بِنَارٍ حَمَلْتُهَا ... مُقَيَّدَةَ اْلأَنْفَاسِ حَوْلَ سَريرَتي!

وَأَلْقَى شَبَابِي فِي هَشِيمٍ مُفَزَّعٍ ... يُبَاغِتُهُ الإِعْصَاُر مِنْ كُلِّ وِجْهَةِ. . .

فَيَا مَنْ أُنَادِيهَا. . . فَيَأَتِي جَوَابُهَا ... أَنَاشِيدَ أَحْزَانٍ تُفَتِّتُ مُهْجَتِي

وَيَا مَنْ أُوَافِيهَا وَقَلْبِي مُرَفْرِفٌ ... فَيَرْتَدٌّ مَخْنُوقَ اْلأَسَى كالذَّبِيحَةِ

وَيَا مَنْ أُغَنِّيهَا فَيَنْسَابُ دَمْعُهَا ... كأَنَّ أَغَارِيدِي مَعِينُ الْبَلِيَّةِ

وَيَا مَنْ يُحِبُّ الْقَلْبُ. . . دُنْيَاكِ طَلْقَةٌ ... فَخَلِّى بَقَايَا الْحُبِّ تُبْلِى بَقِيَّتِي!

هَبِينِي انْطِلاَقَ الرُّوحِ. . . إِنَّ صَبَابَةً ... مِنَ اْلأُفُقِ اًلأعْلَى تُنَادِي حُشَاشَتِي

عَبَدْتُكِ حَتَّى لَمْ أَدَعْ لِمُتَّيمٍ ... عَلَى هذِهِ الدُّنْيَا خَيَالاً لِنَشْوَةِ. . .

سَلَي الْعُشْبَ. . . هَلْ خَمْرُ اْلأَصِيلِ تَدَفَّقَتْ ... لِغَيْرِ خُطَانَا فَوْقَهُ كُلَّ زَوْرَةِ؟

سَلِي الرِّيحَ. . . كَمْ مَرَّتْ بنَا وَهْيَ زَامِرٌ ... يُرَنِّحُ باْلأَنْفَاسِ نَايَ (الْجَزِيرَةِ)؟

لَهَا زَجَلٌ دَامِي الرَّنِينِ كأَنَّمَا ... تُذِيعُ شِكاَيَاتِ الزَّمَانِ الْخَفيَّةِ

أَدَارَتْ كُؤَوساً أَتْرَعتْهَا بِحُبِّنَا ... غَرَاماً، وَطَارَتْ لِلضِّفَافِ الْبَعِيدَةِ. . .

هَبِينَا رِيَاحاً يَا رِيَاحُ! وَسَافِري ... سِرَاعاً بِنَا نَحْوَ الْمَغَانِي السَّعِيدَةِ

شَقِينَا عَلَى الدُّنْيَا فَلَمْ نَرَ فَوْقَهَا ... سِوىَ خُطُواتٍ حَائرَاتِ التَّلَفُّتَ

أَلاَ لَيْتَ هذَا الْعُمْرَ كأْساً، وَحُبَّنَا ... رَحِيقاً، فَنَحْسُو الْحُبَّ حَتَّى الثُّمَالَةِ!!

هَبِينِي انْطِلاَقَ الرُّوحِ. . . إِنِّي مُصَفَّدٌ ... يُجَرَّعُ مِنْ وَهْمِ الْهَوَى وَهْمَ خَمْرَةِ. . .

أَدُورُ بِعَيْنَيْ تَائهٍ فَأَرَى الصِّبَا ... ظَلاَماً شَقِيَّا فِي لَيَالٍ شَقِيَّةِ

وَأَسْكَرُ. . . لاَ مِنْ أَيِّ خَمْرٍ! وَإِنَّمَا ... غَرَامُكِ وَاْلأَشْعَارُ أَذْهَلْنَ يَقْظَتِي!! أَرَاكِ فَيَهْتَاجُ اْلأَسَى في سَريرَتِي ... كَمَا هَاجَتْ الذِّكْرَى بِنَفْسٍ حَزِينَة

بِعَيْنَيْكِ مَعْنىً لَسْتُ بَالِغَ سِرِّهِ ... وَلَوْ قَادَ نُورُ الْغَيْبِ أَسْرَارَ نَظْرَتِي

رَحِيقٌ بِكأْسٍ؟ أم سُكُونٌ بِوَاحَةٍ؟ ... وَرُؤْيَا بِفَجْرٍ؟ أم صَلاَةٌ بِكَعْبَةِ؟

وَفِي وَجْهِكِ النَّشْوَانِ عِطْرُ صَبَابَةٍ ... يُذَكِّرُ أَحْلاَمِي بِطُهْرِ النُّبُوَّةِ

وَصَوْتُكِ أم ذِكْرَى حَنِينٍ مُرَجَّعٍ ... يُدَنْدِنُ فِي قَلْبٍ غَرِيبٍ مُشَتَّتِ؟

أُحِسُّ بِهِ فِي كُلِّ فَجٍ بِخَاطِرِي ... صَدَى قُبْلةٍ حَيْرَى إلَيَّ تَهَادَت

رَفِيفٌ بأَيْكٍ؟ أمْ نَشِيدُ عَلَى فَمٍ ... إِلَى الْيَوْمِ لَمْ يَخْفِقْ صَدَاهُ بِنَبْرَةِ؟

سَرَقْتِ حَيَاةَ الْمَوْجِ، طَوْراً وَدِيعَةُ ... كَحُلْمٍ حَزِينٍ، أو تَبَسُّمِ طِفْلَةِ

وَطَوْراً هَدِيرُ الْبَحْرِ مِنْكِ ارْتِعَاشُهُ ... كأَنَّكِ بَحْرٌ مِنْ شَبَابٍ وَفِتْنَةِ!

وَصَدْرُكِ لَوْ يَدْرِي الْهَوَى وَهْوَ قَاتِلِي ... أَمَانٌ لِرُوحِيِ مِنْ رِيَاحِ الْمَنَّيةِ

نَشيدٌ بِهِ لْحَنَانِ مِنْ قَلْبِ مِزْهَرٍ ... يَدُ اللهِ كاَنَتْ فِيهِ أَقْدَسَ رِيشَةِ

وَطَيْرَانِ فِي أَيْكٍ زَوَى الْخُلْدُ عِطْرَهُ ... فَحُرِّمَ لاَ يَسْرِي بِهِ طَيْفُ نَسْمَةِ

وَحُلْمَانِ. . . لَكِنْ مِنْ لَهِيبٍ وَنَشْوَةٍ ... غَرِيقَانِ فِي الرُّؤْيَا بِأَطْهَرِ غَفْوَةِ!

وَذَاتُكِ فَجْرٌ فِي لَيَالِيَّ هَائمٌ ... يُبَارِك باْلأَنْوَارِ مِحْرَابَ عُزْلَتِي

تنزَّهَ عَنْ قَيْدِ الزَّمَانِ، فَعُمْرُهُ ... خُلُودٌ مُضِيءٌ فِي الضُّحَى وَالْعَشِيَّةِ

وَثَغْرُكِ يَا وَحْيَ اْلأَنَاشِيِد رَحْمَتِي ... إِذَا ظَمَأُ اْلإلْهَامِ أَشْعَلَ غُلَّتِي

غِنَائي، وَخَمْرِي، وِانْتِعَاشِي، وَسَكْرَتِي ... وَسِحْرِي، وَشِعْرِي، وَابِتَهالِي، وَسَجْدَتِي

تَمَنَّعَ حَتَّى كاَدَ لَوْ خَطَرَتْ بِهِ ... بَنَانُكِ يِسْقِيهَا عِتَابَ الْقَدَاسَةِ!

كأَنِّي بِهِ نَبْعٌ مِنَ النُّوِر وَالْهَوَى ... تَخَّيرَ لِلْحِرْمَانِ أَمْنَعَ ذِرْوَةِ

هَبِيِنِي شُعاَعاً فِي الضُّحَى رَفَّ حَوْلَهُ ... وَصَلَّى وَلاقَى اللهُ فِي خَيْرِ بُقْعَةِ. . .

سَلاَماً نَجِىَّ الرُّوحِ يَا طَيْفَ رُوحِها ... إذا هِيَ أَشْقَاها هَوَانَا فَمَلَّتِ

تَظَلُّ تُصَافِيني إذا صَدَّ نُورُها ... وَتَحْنُو إذا ازْوَرَّتْ دَلالاً وَتَاهَتِ

أُرِيدُ لأِنْسَاها. . . فأَلقَاكَ في دَمِي ... نَبِيّاً مِنَ الذِّكْرَى عَتِيَّ الرَّسَالِة

تُشَعْشِعُ بِاْلأَحْلاَمِ رُوحِي وَفي الْكَرَي ... تُفَجِّرُ مُوسِيقَا الْحَنَانِ الشَّجِيَّةِ. . .

سَلاَماً حَبِيبَ الرُّوحِ. . . يَا طَيْفَ رُوحِها ... أَغِثْ شَجَنِي، وَارْحَمْ شَبَابِي وَعَلَّتِي! أَعِنِّي عَلَى نِسْيَانِهَا. . . وَامْضِ طَائِراً ... يَعيِشُ عَلَى ذِكْرَى الْهَوَى في الْخَمِيلَةِ

تَرَكْتُ لَكَ الْماَضي رَبِيعاً مُقَدَّساً ... فأَيَّانَ تَطْرِقْ فِيِه تَسمَعْ تَمِيمَتِي

فَفِيِه جَلاَلٌ مِثْلماَ فِيكَ خَالِدٌ ... وَفيهِ كما فِيهَا عَوَالِمُ هَيْبَةِ

وَفِيِه رُبىً خُضْرُ الظِّلاَلِ عَوَارِفٌ ... بِسِرِّ هَواناَ في شَذَى كلِّ زَهْرَةِ

فَطُفْ مِثْلمَا طُفْنَا زَماناً بِساَحِهِ ... وَذُقْْ فيِهِ طَعْمَ السِّحْرِ مِنْ كلِّ ذَرَّةِ

وَنَاجِ طُيُوراً لَمْ يَزَلْنَ بِأُفْقِهِ ... يُرَتِّلْنَ تَوْرَاةَ الْهَوَى كلَّ لَيْلَةِ

وَحَوِّمْ عَلى غُذْرَانِهِ تَلْقَ عِنْدَها ... أَمَاسِيَنَا سَكْرَى عَلَى كلِّ ضِفَّةِ

وَعَلِّمْنِيَ السُّلْوَانَ إِنْ كُنْتَ سَالياً ... فإِنِّيَ عَنْهُ في عَماءٍ وَضَلْةِ

ظَلَلتُ عَلَى نَارِي أُرَاوِدُ طَيْفَهُ ... فَيَخْفَي وَيَرمِيني بِنَارٍ جَدِيدَةِ!

فيَا رَبَّةَ اْلأَحْلاَمِ فُكِّي وَثَاقَها ... وَلا تَحْسبِيها غَيْرَ رُؤْيَا جَمِيلَةِ

تُريديِنَ أَسْرِى في الْهَوَى، وَأَنَا الَّذِي ... تُحَطِّمُ أَغْلاَلَ الزَّمَانِ سَكيِنَتِي!

أَلاَ أَطْلِقِينِي للسَّماءِ، وَحَلِّقِي ... إِذا شِئْتِ في دُنْيَا خَيَالي الرَّهِيَبةِ

غَدَوْتُ رُمَاَداً أَنْتِ سِرُّ انْطفَاِئهِ ... وَأَنْتِ به سِرُّ يُخِّلدُ جَذْوَتي. . .

أَلاَ مَنْ لِطَيْر في رَوَابيكِ هَائمٍ ... وَيَشْتَاقُ لِلْحِرْمَانِ فِي كل لْحَظَةِ!

هَبِيهِ لِصَحْرَاءِ اْلأَسِى، فَلَرُبَّما ... يُضِيءُ مِنَ اْلأَحْزَانِ نُورُ الْحَقِيقَةِ!

محمود حسن إسماعيل