مجلة الرسالة/العدد 465/صداقات الأدباء

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 465/صداقات الأدباء

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 06 - 1942


للأستاذ عباس محمود العقاد

لو تكلم القدر لأسمعنا العجب من ظلم الناس، وهم يحسبون أنهم المظلومون لأنهم يطلبون ولا يجابون، ولا يسألون أنفسهم مرة لماذا يحال بينهم وبين ما يطلبون!

فربما طلبوا ما لا يكون، وربما طلبوا شيئاً وهم يريدون غيره بل يريدون نقيضه، وربما طلبوا الشيء وتوسلوا إليه بغير وسيلته، ثم يعرفون خطأهم فلا يطلبونه بعد ذلك بوسيلته المثلى

والأستاذ توفيق الحكيم أراد الصفاء بين جميع الأدباء؛ فهل أراد شيئاً يكون في هذه الدنيا؟ وهل أراد حقاً؟ وهل توسل إليه بالوسيلة المثلى؟

إن ثلاث (لاءات) مفخمات غير أصدق جواب على هذه الأسئلة الثلاث

فالصفاء بين جميع الأدباء معناه الصفاء بين جميع الناس، وليس هذا بميسور ولا هو بلازم للأدب ولا للأدباء

فلماذا تصفو العلاقات بين جميع الأدباء وهي لا تصفو بين جميع الآدميين؟ إن الصفاء قد يتحقق بين طبيب ومهندس ولا يتحقق بين مهندسين أو طبيبين. وقد يتاح لرهط من الأدباء كما يتاح لرهط من أبناء الصناعات المختلفة، ولكنه لن يتاح لجميع الأدباء في وقت واحد، ولن يتاح لجميع الناس من صناعات شتى ولا صناعات متفقة. وليس تخصيص الأدباء هنا بالمطلب المفهوم إلا إذا عممنا الطلبة للأدباء وغير الأدباء، ورفعنا الكدر من جميع الأحياء. وهذا ما ليس بكائن، ولا نراه مما يكون

فالأستاذ توفيق الحكيم هنا يطلب شيئاً يجاب

ولكننا نعود فنسأل: هل طلبه حقاً؟ وهل اجتهد في تحقيقه فتوسل إليه بوسيلته المثلى؟

إن الذي يطلب الصفاء لا يبحث عن أسباب الكدر بملقاط ليخلقها خلقاً بين رجلين على أحسن ما يكون من الصفاء؛ بل هو يمحو منها ما وجد إن كان له أثر محسوس، ولا يوجد منها ما ليس له وجود ولم يحسه أحد ولا توهمه، ولا وقع في ظن من الظنون

فماذا صنع الأستاذ توفيق الحكيم؟

حمل ملقاطه ووضع مجهره على أنفه وراح ينبش ما بين السطور وأطال النبش بينهم ليصيح بعد ذلك: وجدتها! وجدتها!. . . هنا سبب من أسباب الكدر كامن بين السطور لعله لا يظهر على وجه الكلام ولكنه مستور هنالك لمن يبحث عنه ويجري وراءه، وهو لهجة تعالٍ في الشكر، أو لهجة يخيل إلى من شاء التخيل أنها تشف عن التعالي ولا تبرئ الشكر من الجفاء

ثم يصيح برجلين يفهمان ما يقولان وما يقال لهما: أرأيتما؟ أليس خليقاً بكما ألا تصفوا؟ أيليق بكما أن تصفوا وبينكما هذا الذي أراه مانعاً للصفاء!

ذلك ما صنعه الأستاذ توفيق الحكيم

فهل في وصفه مبالغة؟ وهل صورناه بغير صورته القريبة التي تعرض نفسها لكل من ينظر إليها؟

أهدى إلي الدكتور طه حسين قصته (دعاء الكروان) فجعلت هذا الإهداء موضوع مقال من أعماق النفس في معنى الكروان ودعاء الكروان وذكريات الكروان، وقرأه كثيرون من الأدباء فحدثوني عنه حديث رضى وسرور، وفي مقدمتهم الدكتور طه مهدي دعاء الكروان

أما الأستاذ توفيق الحكيم فماذا صنع؟

لم يرضه ما أرضى الدكتور طه ولا ما أرضى الأدباء ولا ما أرضى كثرة القراء، وراح يتحدث ويكتب ليقول: هنا صفاء. . . فكيف بالله يليق هذا الصفاء؟

لو كان الأستاذ توفيق الحكيم يطلب الصفاء ويتوسل إليه بوسيلته المثلى لكانت له ندحه مما صنع ولو لم أكتب ذلك المقال عن دعاء الكروان.

نعم كان في وسعه أن يقول بينه وبين نفسه: لعل واجب الشكر قد أُدي في رسالة أو في مقابلة، أو سيؤدَّى في سانحة أدبية يأتي أوانها في حينها، أو لعلي أعرف الحقيقة إذا عنيت بالسؤال عنها عند أهلها.

هذا ما كان في وسع طالب الصفاء أن يصنعه ولو لم أكتب مقالي في (دعاء الكروان)

ولكن الأستاذ الحكيم لم يصنعه، ولم يزل يحمل ملقاطه ويضع مجهره على أنفه، ليخلق الكدر من شيء يبحث عنه بين السطور، ولا يراه على ظاهر السطور

أهذا هو طلب الصفاء والسعي إليه؟

فماذا يكون السعي إلى خلق الكدر والإشفاق من دوام الصفاء؟ كانت المناقشة بين الأستاذين زكي مبارك وتوفيق الحكيم قائمة يوم لقيت الأستاذ توفيقاً في إحدى المكتبات وفيها صديقنا الأستاذ على أدهم. فجرى ذكر تلك المناقشة وصارحت الحكيم فيما أراه فقلت له: إنك لم تبحث عن أسباب الإنصاف بعض بحثك عن أسباب الجفاء؛ لأنني لا أعرف ولا أذكر أنني قصرت في حق زميل إبان اشتغالي بالصحافة وتولِّي فيها صفحةً للأدب ودراسة المصنفات. فكل أديب أرسل إليَّ كتاباً في هذه الأثناء فقد نوهت به وكتبت عنه، ولكنني أنا أرسلت كتباً إلى زملاء يعرضون للمصنفات في المجلات فلم يذكروها ولم يشيروا إلى صدورها. فلماذا نسيت هذا وحاسبتني على ما تقول إنه شكر لم يبلغ ما تتخيله من الرقة والنعومة؟ لماذا تحاسب من يكتب ولا تحاسب من يهمل؟ ما الذي يعفي أولئك الزملاء من عرفان حقي، ويوجب عليّ أنا أن أبلغ الغاية التي يتخيلها كل متخيل من عرفان الحقوق؟

وتكلم الأستاذ الحكيم عن أولئك الزملاء فقلت له: إنني لا أفردهم بالملاحظة ولا أستثنيك أنت منها. فقد كتبت عنك مرتين أو ثلاثاً فكم كتبت عني؟ وما الذي يعفيك من هذا الواجب الذي لا أذكرك به إلا لمناقشة رأيك لا لأنني أطلبه أو أحتاج إليه؟

ثم بينت له موقفي من تقريظات العظماء الذين يثنون على كتبي فأشكر لهم ثناءهم ولا أنشره فيما أطبعه من كتبي، وإن كان في نشره فخر أعتز به كما يعتز به سائر المؤلفين

بينت له ذلك لكي لا يقع في روعه أنني أطالبه بواجب الكتابة أو أتقاضاه حقاً من الحقوق. فلو أردت ذلك لعمدت من قبل في عشرات السنين الماضية إلى نشر الكتابات التي وصلت إلى يدي وهي مما يسمح بنشره في جميع البلدان

ثم افترقنا ولم أسمع من الأستاذ الحكيم في تلك المقابلة ما يذهب بدهشتي من سعيه إلى الصفاء بذلك الأسلوب، ومن محاسبته إياي على الوهم بين السطور وهو يرى أناساً يسهون كل السهو عن حق الأدب وحق الزمالة، فيغضي عن الحقيقة الماثلة، وينسى السطور وما بين السطور

وفارقني تلك الليلة ولا أدري ما في نفسه، ولعله كما علمت بعد أيام قد تبين صواباً فيما قلت أو في بعض ما قلت فعدل إليه وكتب مقاله المشكور عن كتابي (عبقرية محمد) فقدمه بكلمات يقول فيها: (وقد سمحت لنفسي بالسبق إلى أداء هذه التحية، لأني فطنت إلى أني المتخلف دون غيري عن أداء الواجبات، وليس لي من عذر إلا انصرافي عن باب النقد منذ أول الأمر). وهو موقف بار أحمده له كل الحمد وأعتقد أنه قد حُسب له عند القراء كما حسب له عندي في عداد الخلائق المرضية والفضائل الخلقية. ثم وجه إليّ بعد أيام أخرى خطاباً يقول فيه:

(إنك للمرة الأولى تخاطبني بهذه اللهجة التي كنت تخاطب بها الرافعي رحمه الله. أبهذه السرعة تضع الناس في صف أعدائك؟ لعلك لفرط ما قاسيت من شر الناس، ولقلة ما وجدت من خيرهم، أصبحت مثل (هملت) تستل سيفك لتضرب من خلف الأستار دون تبين الوجوه. فطعنت صديقاً وأنت لا تدري)

ولا أظن أنني أشبه (هملت) في كثير من خصاله وفعاله؛ ولكني إذا سئلت لم صنعت صنيع (هملت)؟ أفلا يجوز لي أن أسأل: ولم الوقوف وراء الأستار، وأولى من ذلك الخروج إلى وضح النهار؟ أليس هنالك بعض اللوم على من ينصت خلف الستر ليسمع ما لا يُسمع، أو ليقول ما لا يقال؟!

وبعد، فما العبرة من كل أولئك في تاريخ الأدب ونقده وسلوك الأدباء مشهورين كانوا أو غير مشهورين؟

العبرة من أولئك (أولاً) أن الأستاذ الحكيم يقول بعد الإشارة إلى ثناء الدكتور طه عليه منذّ سنوات: (. . . لم نسمع في غير مصر أن الناقد إذا أثنى على كتاب حسب أنه تفضل على مؤلفه ورفع شأنه من الحضيض، وأن على المؤلف واجباً مقدساً هو أن يشتري من فوره سبحة كيلا ينسى أن يسبح بحمد الناقد أناء الليل وأطراف النهار. . .)

كذلك يقول الأستاذ الحكيم اليوم. فليذكر مقاله الأدباء الناشئون الذين يؤمنون بكفاءة تشبه كفاءته الفنية، ليذكروا أنهم يطلبون شيئاً ينكرونه جاهدين بعد بضع سنوات: يطلبون التشجيع ثم ينكرون التشجيع، وكان أحرى بهم ألا يطلبوه وألا ينكروه، فما سمعنا في غير مصر أن الأدباء المشهورين مسئولون عن شهرة كل أديب ينشأ بعدهم ولا يعرف لهم حقهم، وإلا كانوا هم الملومين المقصرين

وعبرة أخرى أن الأستاذ الحكيم يذكر التعالي في موقف الكاتب وينسى أنه اختار لأدبه عنوان (البرج العاجي) وهو عنوان الأدب المصطلح على وصفه بالتعالي بين نقاد الغرب وشعرائه. فليترك برجه العاجي إذن أو فليتركنا نحن نتعالى ونتواضع كما نشاء

وعبرة ثالثة أن الأستاذ يحن إلى صداقات في الأدب المصري كالصداقات التي أثرت عن كبار الأدباء الغربيين

وأن أناساً لتأخذهم السمعة البعيدة في زمانها أو البعيدة في مكانها فليلحقونها بعالم الخيال وعالم المثال ويسهون عن الواقع الذي لا يقبل المحال

وأعيذ الأستاذ أن يكون من هؤلاء

فتاريخ الآداب الأوربية بين يديه يستطيع أن يرجع في كل ساعة إليه، ويستطيع أن يعلم بعد المراجعة أن في الأدب العربي حديثه وقديمه صداقات تضارع تلك الصداقات مع حسبان الفارق في البيئة والزمن والمناسبة

فهل يعني الأستاذ صداقة شعراء البحيرة في أنجلترا؟ هل يعني صداقة شلي وبيرون هناك؟ هل يعني صداقة جيتي وشلر بين شعراء الألمان؟ هل يعني صداقة تولستوي وتورجنيف وديستفسكي بين عظماء الأدب العالميين من الروسيين؟

إن كان يعني هؤلاء وأمثال هؤلاء فهو واجدٌ في الأدب العربي الحديث صداقات من طراز تلك الصداقات، وواجدٌ من هناتهم في الغرب نظائر لما يشكوه من هنات الزملاء المصريين والشرقيين

والطبيعة البشرية واحدة في كل مكان. . . تلك أصدق حكمة عن الناس قالها إنسان.

عباس محمود العقاد