مجلة الرسالة/العدد 465/البريد الأدبي
مجلة الرسالة/العدد 465/البريد الأدبي
مذهب الشك قبل ديكارت
وردت كلمة للأستاذ (السيد يعقوب بكر) في العدد (463) من الرسالة يقارن فيها بين ديكارت في قوله: (أنا أشك فأنا أفكر فأنا موجود) وابن يعيش في كلمة له: (إنك إذا قلتُ: عدمتني، فمعناه علمتني غير موجود، لأنك إذا علمت كنت موجوداً وصحته على الاستعارة)
وقد أورد ابن يعيش هذه الكلمة في شرحه على مفصل الزمخشري في قواعد اللغة العربية - أوردها عرضاً وهو يناقش تركيباً من حيث معناه، ثم تركه ومضى فيما يعنيه من شرح القضايا الأخرى
فابن يعيش لم يكشف مذهباً فلسفياً، بل لم يجل بفكره أن يقف عند هذه القضية قليلاً ولا كثيراً، فكيف ينتظر منه أن يسايرها إلى غايتها ويتخذها أساساً لمنهج فلسفي؟
فليس الفرق أن هذا لم يصغ مع أنه السابق وذاك صاغ مع أنه اللاحق؛ ولكن الفرق هو أن ابن يعيش يناقش تركيباً عربياً من حيث معناه ثم يتركه إلى غيره، وديكارت درس طويلاً مختلف المذاهب الفلسفية التي تقدمته فرأى الفلاسفة عاجزين عن حل ما تصدوا لحله من المشاكل العقلية فتركهم يائساً (ألا يطفئ غلته من جداولهم). ولجأ إلى الشك بعد أن لج به اليأس، فشك في كل رأي وعقيدة في طريقي المعرفة: العقل والحواس، حتى لشك في وجوده فإذا هو مضطر أن يعترف بحقيقة لا شك فيها وهي أنه يشك أي يفكر فهو لابد أن يكون موجوداً، فوضع قاعدته: (أنا أفكر فأنا موجود) وهو لم يثبت بذلك وجود جسمه ولا نفسه بل ذاته المفكرة
ثم مضى في تفكيره على هذا الأسلوب حتى شاد فلسفة رفيعة تضيء الطريق لأصدقائها وأعدائها على السواء.
إن كان أحد قد سبق ديكارت بشيء من فلسفته - فيما أعلم - فليس ابن يعيش الذي عاش في القرن الثالث عشر الميلادي متقدماً نحو أربعة قرون على ديكارت الذي عاش في النصف الأول من القرن السابع عشر (1596 - 1650) بل فيلسوف آخر عاش في القرون الوسطى الأوربية في عصرها الأول الذي يسمى في تاريخ الفلسفة (عصر آباء الكنيسة وقد سبق ديكارت بأكثر من أثني عشر قرناً، وهو القديس (أورليوس أوغسطين فيلسوف المسيحية. وقد ولد عام 353م في (تجستي في شمالي أفريقية لأب وثني وأم مسيحية ملؤها الإخلاص والحماسة لدينها فنشأ وثنياً على ملة أبيه، ثم اعتنق المسيحية في الرابعة والثلاثين من عمره، فصار فارسها الأوحد الذي يناضل عنها بكل ما أوتي من قوة وبراعة؛ ورأى فيه المسيحيون إمامهم الذي إليه يرجعون في مشاكلهم فلا يذكر اسمه في مجال خلافي حتى ينحسم الخلاف في رضا واستسلام فهو الفيصل الذي لا معقب له.
قرر أوغسطين - وهو يفصل رأيه في المعرفة - أنه إذا جاز للإنسان أن يرتاب فيما تمده به الحواس من معلومات فلا يجوز له الريب فيما يزوده به العقل؛ لأنه حق ثابت، إذ الشك لا يمتد إلى شعور الإنسان باحساساته الباطنة، كما أن الشك في الاحساسات الخارجية يتضمن الاعتراف بوجود ذات تشك، لأني إذا كنت أشك، فإني أعلم بشكي أني موجود؛ فالشك إذن يتضمن الاعتراف بوجود المفكر من غير شك ولا خطاء، فإذا تشككت في كل شيء، فلن أخطئ إذ لا بد أن يكون المخطئ موجوداً.
وهكذا يمضي الفيلسوف في فلسفته فيثبت وجود الله وقدرة العقل على تحصيل المعرفة التي مصدرها الله ويبين الكيفية التي خلق الله بها العالم، ويفصّل رأيه في الروح والمادة والأخلاق وطريق الاتحاد بالله والسعادة الأخروية. وقد توفي عام 430م.
ومن مفكرينا المسلمين اثنان شكا كديكارت في كل شيء وإن ينتهيا إلى ما انتهى إليه من خلق فلسفة شاملة تفيض باليقين والإيمان من طريق العقل: أحدهما فيلسوف المعرة أبو العلاء الذي انتهت به قسوة الحياة وآلامها الملحة إلى الشك بالتشاؤم فلم يبق له إلا الإيمان بالألم كما يرى ذلك من قرأ له لرومياته ورسائله إلى داعي الدعاة ورسالة الغفران. وثانيهما حجة الإسلام الإمام الغزالي الذي انتهى الشك إلى الإغراق في التصوف كما يرى ذلك من قرأ كتابه (المنقذ من الضلال). ومما هو جدير بالالتفات هنا تشابه القديس أوغسطين والإمام الغزالي في كثير من آرائهما وحياتهما ومنزلتهما في الدين، فأوغسطين في المسيحية هو الغزالي في الإسلام، وكل منهما اضطرته ظروفه المحيطة به، والتي كانت تهدد دينه أن ينبري ليدافع عنه أعداءه فوفق في دفاعه كل التوفيق
(سمالوط) محمد خليفة التونسي
من محام شرعي إلى قاض شرعي
حضرة الأستاذ علي الطنطاوي المحترم
السلام عليكم ورحمة الله. . . جاء في مذكراتكم المنشورة في العدد (462) من (الرسالة) المجيدة ما نصه:
(ولا بد من الرجوع إلى الحكم بالشهادات التي قد يعلم القاضي أنها شهادات زور، وأن الشهود فساق لا عدالة لهم، ولا تقبل من مثلهم شهادة، وكانت القرائن تقطع بكذبهما - والقرائن والإمارات من أسباب الحكم - كما بين ذلك ابن قيم المدرسة الجوزية في كتابه الجليل (أعلام الموقعين)؛ ولكن لا سبيل إلى الأخذ بها إلا أن تنظر (وزارة العدل) في (دمشق) في الاقتراح الذي رفعته إليها في هذا الموضوع، وتتخذه أساساً لإصلاح شامل يخلص الناس من شهود الزور. . . فكيف يهدأ بال من يغلب على ظنه؛ أو يعلم فساد البيئة، ثم يضطرون إلى الحكم بها)
ألا فليهدأ الأستاذ بالاً، وليطمئن قلباً، وليقر عيناً. . . فليس في الأرض - أو على الأقل - ليس في بلاد من بلاد الإسلام قانون شرعي أو وضعي يجبر القاضي على الحكم ببينة يعلم أنها زور، لاسيما إذا كانت القرائن تقطع بكذبها، بل حتى إذا كانت القرائن توجب الشك فيها، أو تجبره على قبول شهادات الفساق الذين لا يقبل من مثلهم شهادة. ويكفي في تعليل إبطال هذه الشهادات وعدم العمل بها أن يقال: (لم تطمئن المحكمة لهذه الشهادات فردتها)؛ وإن استؤنف هذا الحكم فسيصدق (مائة في المائة)، إذ لا تملك محكمة الاستئناف القوة على جبر القاضي بالعمل بما يراه باطلاً
وانظر - رحمك الله - كم بالغ الفقهاء في وجوب تحري القاضي وبحثه عن أحوال الشهود، حتى لو ظهر كذبهم بعد التزكية لم يعمل بشهاداتهم. فهذا من جهة الشرع؛ وأما القوانين الوضعية، فقد جعلت تقدير الشهادات عائداً لضمير القاضي وألغت التزكية - وهي بحالها الحاضرة جديرة بالإلغاء -
إذن، لا يتوقف التخلص من شهادات الزور على نظر وزارة العدل في الاقتراح الذي رفعتموه إليها للأخذ بالقرائن والإمارات في هذا الموضوع
إنما الأخذ بالقرينة والأمارة موضعه فيما تنعدم فيه الشهادة فيكون الحق عرضة للضياع إذا لم يؤخذ بالقرينة والأمارة
ولو أن الأمر على ما ذكر الأستاذ من أن القاضي مضطر للحكم بشهادات يعلم أنها زور، لكان هذا هو الظلم الذي ليس بعده ظلم، ولما جاز للمسلمين أن يسكتوا عنه لحظة واحدة، حتى تبدل الأرض غير الأرض. . . وكيف يكون كذلك وهم - في محاكمهم الشرعية - يعملون بشريعة الإسلام. وهي وهذا ضدان مفترقان؟
نعم، بعض قوانيننا التي يجري العمل بها في المحاكم الشرعية - فيما سوى مصر - تحتاج إلى نظر وتعديل، ولكن ليس فيها هذا الظلم
وتعقيب آخر: قلتم في آخر مقالكم: (وقد فسروا حديث القاضي والقاضيين أن القاضيين اللذين في النار هما. . . الخ)؛ وهذا ليس تفسيراً للحديث، وإنما هو من صلب الحديث بلفظ آخر؛ ولفظة (في الجامع الصغير): (قاضيان في النار، وقاض في الجنة: قاض عرف الحق فقضى به، فهو في الجنة؛ وقاض عرف الحق فجار متعمداً، أو قضى بغير علم، فهما في النار)
(اللد - فلسطين)
(داود حمدان)