مجلة الرسالة/العدد 463/الحديث ذو شجون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 463/الحديث ذو شجون

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 05 - 1942


للدكتور زكي مبارك

وإن عدتم عدنا - جوائز وزير المعارف - في سبيل الوحدة

العربية - بين القومية والإنسانية

وان عدتم عدنا

لعل القراء لاحظوا أني انصرفت عن مجادلة من يتعرضون لمقالاتي بالنقد والتجريح في بعض الجرائد والمجلات. ولعل فيهم من توهم أني تعبت من النضال فاعتصمت بالصمت البليغ! والواقع أني أسكت طائعاً عن بعض المجادلين، لأني أومن بأن من حقهم أن يثوروا على آراء دفعتهُم إلى مُحرجاتها برفق أو بعنف، وما يجوز لي أن أتعقب ناقداً بما لا يرضيه، مع أن قلمي هو السبب في إثارته إلى الجدال والصيال

ولهذا المعنى سكتُ عن كلمة جارحة نشرتها مجلة الثقافة (عملاً بحرية النشر) كما قالت، وهي كلمة (منسوبة) إلى إحدى أديبات فلسطين، وفيها شفاء لبعض الصدور المراض

ولهذا المعنى أيضاً سكتُ عن كلمة تطاولَ بها أحد محرري (الثقافة) الغراء، لأمنحه فرصة يقول فيها عني ما يريد

ولكن (الثقافة) فيها كاتبٌ اسمه (قاف) وقد أراد هذا الكاتب متفضلاً أن يشغل نفسه بالقصائد التي تنشرها (الرسالة) باسم (الشاعر المجهول). وما يؤذيني أن تُنقَد القصائد التي تنشر في (الرسالة)، لأن مجلة الرسالة لا تنشر من الشعر إلا ما يثير لنفاسته أقلام الناقدين

إن (قاف الثقافة) توهّم أن (الشاعر المجهول) هو (الكاتب المعروف) وساق عبارة دلّ بها قراءه على أنه يَعني الدكتور زكي مبارك

أهلاً وسهلاً!

ولكن هل يعرف (قاف الثقافة) أني سأسوق إليه كلاماً يزلزل (جبل قاف)؟

إن قاف الثقافة بعيد كل البعد عن الذوق الأدبي، وهو لم يتوار في أحد سفوح (قاف) إلا لينجو بنفسه من الرجفات التي تزلزل قمم الجبال

ومن ذلك القاف؟ وما صبرُ مجلة الثقافة عليه وقد زعمت أن عندها علماء من كل صنف؟ أيكون آخر ما عندها من الأصناف؟

إن درس اليوم هو الفَيْصل في معضلات النقد الأدبي، وسيعرف به قاف الثقافة ما لم يكن يِعرف، وسيذكرنا بالخير الجزيل إن كان من الصادقين

وإلى قراء الرسالة أحتكم، وفيهم ألوف من رجال الأدب والبيان. . . قال الشاعر المجهول:

أبحتُك من قلبي نفائس عطفه ... وحِّررتُ فيك المال منِ ربقةِ الضَّن

وقلتُ مثالٌ من جمالٍ أصونهُ ... فيسلم من إفك الزمان ويستغني

فلم تر صدري من سهامك في حمى ... ولم تر جيبي من نصالك في أمن

وعشتُ يريني الحبُّ أنك حافظٌ ... عهودي وأن الخُلد بعض الذي أَبني

فلما رأيتَ الوجدَ يغتال مهجتي ... وأيقنتَ أني من غرامك في سجن

مضيتَ إلى غيري جهاراً وخنتني ... فمن أيّ وحلٍ صيغ طبعُك خبّرني

تلك هي القطعة التي اعترض عليها قاف الثقافة، وقد اخترمها اختراماً ليخفي عن قرائه مقام البلاغة في الكلمة التي ثار عليها عقله الحصيف

فما تلك الكلمة؟ هي كلمة (وحل) فقد رآها كلمة قبيحة لا يجوز ورودها في قصيدة من قصائد التشبيب!

وأقول إن كلمة (وحل) هي أبلغ كلمة في هذا المقام، ولا يستطيع (قاف) أن يأتي بكلمة أقوى منها

وكلمة (وحل) وردت في قول مسلم بن الوليد:

مشينا بها مَشيَ المقيَّد في الوحلِ

فعدَّها القدماء أبلغ كلمة في هذا السياق

وقبل ذلك وردت في قول الأعشى

تدِبَّ كمْشي القطاة القطو ... ف في وَحلَ الَّنهى تخشى رقيبا

وأقبح من كلمة (وحل) كلمة (مستنقع) وقد عُدَّت أبلغ كلمة في قول شوقي وهو يذكر ما أنعم به السلطان على الضفادع:

وزاد أن جاد لمستنقَعٍ

وقبل ذلك وردت في قول أبي تمام فأثبت في مستنقَع الموتِ رِجلهُ

فماذا نصنع في تثقيف قاف الثقافة، وهو لا يعرف الأبجدية من البلاغة العربية؟

لو كان هذا القاف يعرف أسرار البلاغة لأدرك أن الكلمات تأخذ قوّتها وبلاغتها من السياق، وأن الكلمة القبيحة قد تصبح وهي نهاية في الجمال إذا أوجبها مقتضَى الحال

ولكن هذا المتأدب حديث العهد بالدراسات الأدبية، فهو محجوب عن سرائر الألفاظ والمعاني

هو رجل رقيق تؤذيه الأخيلة الجافية، لأنه من أبناء القرن العشرين، فإن لم يكن كذلك فهل يستطيع أن يناقش هذه الأحكام القاسية؟

يا قاف (الثقافة) الغراء:

إذا لم تستطيع شيئاً فدَعهُ ... وجاوزْهُ إلى ما تستطيعُ

وإلا فهل تملك من القدرة ما تجاريني به في ميدان النقد الأدبي؟

ارجع إلى كلمتك في مجلة الثقافة ثم اسأل نفسك، فإن فعلت فسترى أنك وقعت في غلطة ذوقية لا يقع فيها إلا من كان في مثل حالك

ولي أن أًُوجه إليك هذا السؤال:

كانت مجلة الثقافة تتقي شرّي فتسكت عما أُصوّب إليها من مؤاخذات فكيف استباحت في الأشهر الأخيرة أن تناوشني أربع مرات بلا موجب يفرضه الحرص على خدمة الأدب أو الحق؟

كانت مجلة الثقافة أعلنت على لسان أحد مراسليها أنني كنت البادئ بالعدوان في جميع الأحيان فما عذرها وقد هاجمتني أربع مرات بعد أن رُفع بيني وبينها غصن الزيتون؟

جوائز وزير المعارف

منذ أيام أقيمت حفلة في مكتب وزير المعارف لتوزيع الجوائز على الفائزين في مسابقة الأدب العربي، وهي جوائز تفضَّل بها معالي الأستاذ نجيب الهلالي بك، أما الجوائز الرسمية، فسيظفر بها أولئك الطلبة بعد الفوز في امتحانات القسم الخاص

والظاهر أن بعض المسؤولين في وزارة المعارف قد نظر فيما سيُلقَي أمام الوزير من خُطب وقصائد، فكانت النتيجة أنْ سلمت الحفلة من جميع العيوب، وأن جاءت شاهداً جديداً على أن الإيجاز من فنون البيان

وقد رأيت أن تكون لي كلمة في تلك الحفلة بعد أن لاحظت أن كبير مفتشي اللغة العربية ومراقب الامتحانات سكتا في خطبتيهما عمن أعان الفائزين إعانة حقيقية حين شرح لهم موضوعات المسابقة في (بعض) المجلات

وعند ذلك قال معالي الهلالي بك: (الحِدِق يفهم)؛ وهي كلمة لم يسمعها جيداً مندوب جريدة (الدستور)، فصاغها من عندياته بأسلوب غير مقبول

والمطالبة بجائزة لمن شرح موضوعات المسابقة الأدبية على صفحات (الرسالة) ليست جديدة، فقد طالبتُ بها الوزير السابق، فوعَد ثم صُرفَ عن الوفاء

أفلا يكون من حق ذلك الباحث أن ينتظر من الوزير الجديد جائزة سنية تشجعه على شرح الموضوعات الآتية لمسابقة العام المقبل؟

لمعالي الوزير أن يختار أحد أمرين: الأمر الأول أن يعدّ معاونة الطلبة على الفوز في المسابقات واجباً على جميع المفتشين؛ والأمر الثاني أن يرى تلك المعاونة تطوعاً يؤديه أهل الحرص الشريف على فوز التلاميذ

وفي كلا الحالين يكون الباحث الذي تفردَّ بشرح موضوعات المسابقة الأدبية في عامين متواليين أََهلاً للتفرد بالثناء

فما رأى معاليه في هذا الكلام؟

ومتى تفكر وزارة المعارف في تقدير أتعاب الباحثين؟

في سبيل الوحدة العربية

كنت أتأهب للرد على كلمة نشرت في إحدى المجلات تعريضاً بالدكتور عبد الوهاب عزام، وكان ألقى خطبة في كلية الآداب دعا فيها إلى الاعتزاز بالقومية العربية. وللدكتور عزام حقوق: لأنه من أفاضل الباحثين المصريين، ولأنه على جانبٍ عظيم من الأمانة والصدق، ولأن اتهامه بالغرض إثمٌ دميم

ثم فوجئت بخبر يشرح الصدر وهو اعتزام (الرسالة) إصدار أعداد خاصة بالأقطار العربية، للتنويه بتلك البلاد، وللتعريف بما عند أهلها من فضائل وآداب

وإذا استطاع أخونا الزيات أن يفي بما وعد، وعلى الوجه الذي يريد، فلن يكون عمله الصالح إلا أداءً لديون طُوَّق بها جيد مصر في مناسبات مختلفات، فقد أشرت في مقالاتي غير مرة إلى الأعداد الخاصة بمصر في مجلات العراق وسورية ولبنان، ودعوتُ إلى أن نجزي أولئك الإخوان وفاءً بوفاء

ولكن هناك صعوبات تعترض هذا المشروع الجليل، وأخطر الصعوبات هو ضعف الإحاطة بخصائص تلك البلاد. ولتوضيح هذا المعنى أقول:

سيبدأ الأستاذ الزيات بإصدار عدد خاص بالعراق، لأنه أقام فيه ثلاث سنين، ولن يجد صعوبة في تمثُّل ما فيه من مواهب ومطامح وآمال، ولأنه سيجد من إخوانه في القاهرة وبغداد من يساعده على إصدار ذلك العدد الخاص

فما الذي سيصنع حين يتأهب لإصدار أعداد خاصة بالأقطار المغربية واليمنية والحجازية والسورية واللبنانية؟

أنا بمشيئة الله حاضر لمساعدته على العدد الخاص بلبنان. فسأزوره في فرصة سعيدة عند اجتماع المؤتمر الطبي العربي في بيروت، فمن أنصار الزيات في غير العراق ولبنان؟

الخطب أسهل مما نتوهم، ولكن. . . ولكن على شرط أن يهاجر الزيات من المنصورة إلى القاهرة ليستوحي من فيها من العارفين بخصائص الحياة الأدبية والاجتماعية في تونس والجزائر ومراكش واليمن والحجاز وسورية وفلسطين

إن استطاعت (الرسالة) أن تصدر عدداً خاصاً بكل قطر من أقطار العروبة فستؤدي للأدب الحديث خدمة معدومة النظير والمثيل

ولكن متى تصدر (الرسالة) عدداً خاصاً بالسودان؟

السودان جزء من مصر، ولكن محاسنه محجوبة عن جماهير المصريين. . . فهل أستطيع أن أقول لأخواني في السودان إن الرسالة ستصدر عدداً خاصاً بالسودان بمناسبة المهرجان الأدبي المقبل؟

بين القومية والإنسانية

وأرجع إلى تفنيد التهمة التي سيقت ظُلماً إلى الدكتور عبد الوهاب عزام فأقول:

إن الذين كَبر عليهم أن ندعو إلى القومية العربية لم يجدوا حجةً تستر غرضهم المعروف غير القول بأن القومية تنافي الإنسانية، لأنهم فيما يزعمون لأنفسهم دعاة التحرر من الرجعية، والرجعيةُ في أنظارهم هي الوقوف عند حدود الوطن واللغة والدين

ونقول إن حجتنا هي الصحيحة، وإن الأساس لكل إصلاح هو أن تبدأ بنفسك، والذي يعجز عن إقامة بيت في القاهرة لا يستطيع إقامة عش في فيافي اليابان

وقد حدثناكم ألف مرة أن لمصر قومية عربية توجب عليها أن تنظر بعين الأخوة إلى من يفهم عنها وتفهم عنه ولو كان مسكنه فوق أسوار الصين

وحدثناكم أيضاً أن مصر لن تصمّ آذانها عمن يدعوها باسم الأخوّة الإسلامية، ولو كان من سكان المريخ

فيا فلانُ الذي قضى رُبع قرن في تنفير مصر من العواطف العربية والإسلامية باسم الغيرة على الإنسانية، يا فلان مكانك مكانك، فلن يَقبل الله لك عملاً، ولن تُحشر في زمرة المهتدين

وعند الله الجزاء لدعاة البر والخير والإصلاح السليم.

زكي مبارك