مجلة الرسالة/العدد 462/خصومات أدبية!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 462/خصومات أدبية!

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 05 - 1942



للأستاذ توفيق الحكيم

من كان يتصور أن دعوتي إلى الصفاء بين الأدباء تثير خصومات أو ذكريات عن خصومات! فلقد كتب الأستاذ (عباس محمود العقاد) في العدد الماضي من (الرسالة) قصة طريفة أهداها إليَّ. هي الآتية:

(قيل أن الدكتور طه حسين خرج من وظيفته بالجامعة المصرية قبل سنوات. وقيل أنه أثنى على الأستاذ توفيق الحكيم في بعض ما كتب وهو على جفوة مع رؤساء تلك الأيام. وقيل أن الأستاذ توفيق أشفق من مغبة تلك الجفوة فكتب يقول أنه لا يريد مدحاً من أحد. . . وأدرك شهرزاد الصباح أو المساء على قصة أخرى تمثل اليوم مع العقاد لأن خصومته قد تشبه خصومة الدكتور طه حسين قبل سنوات. . .)

والتعليق على هذه القصة الطريفة لا يحتاج إلى عناء. لأن الأساس الذي بنيت عليه وهو شبهة الخصومة بيني وبين العقاد قد أنهار في اليوم ذاته الذي ظهر فيه مقاله. فقد طلع لحسن الحظ عدد مجلة الثقافة في مساء ذلك النهار وفيه تحية مني للعقاد وثناء على كتابه (عبقرية محمد) بما هو أهله.

يضاف إلى ما تقدم أن (ما يدريه العارفون وأوشك أن يدريه غير العارفين) هو أن موقفي اليوم يشبه في كثير من الوجوه موقف العقاد. وأن من بين المجلات والصحف والأقلام ما يعلن تجريحي وخصومتي بمختلف الأسباب لعين الأغراض. بقى بعد ذلك عنصر واحد من عناصر القصة سكت طويلاً عن تجليته ظناً مني أنه لن يؤخذ على سبيل الجد. أما وقد أخذه الأستاذ العقاد على أنه حقيقة، فمن الواجب إذا أن أوضح ولو كان في الإيضاح إساءة للدكتور طه. فإن هذا الوقت هو أحب الأوقات عندي لإساءته لا لإرضائه.

أن حقيقة الخصومة بيني وبين طه حسين في تلك الأيام من عام 1934 كانت خصومة أدبية صرف، ولكن الدكتور طه أراد أن يقحم فيها عنصر السياسة ليظهرني في صورة (يهوذا) ويظهر نفسه في صورة (المسيح). فأخترع تلك القصة اختراعاً ولكن الحقيقة ما لبثت أن ظهرت في اليوم التالي واضحة مبينة.

إلى هنا ينتهي التعليق على هذه القصة. ولكن هنالك قصة أخرى للأستاذ العقاد مهداة إليّ أيضاً، وربما احتاجت إلى تعليق طويل لأنها تمس قضية أدبية تحدث في جميع الآداب في كل زمان. تلك هي قضية الناقد والكاتب. فقد ذكر الأستاذ العقاد أني أنكر أن الدكتور طه حسين رفع من شأني بما كتب عني. وأنا حقاً أنكر ذلك كل الإنكار ومن يحرص على كرامة الفن لا يسعه أن يقول غير هذا القول. فما من مخلوق على الأرض يرفع أو يخفض من شأني غير فني ولما ترجم هذا الفن أو بعضه إلى لغات أجنبية وجد من أعلام نقادها من يرفع شانه كما وجد في اللغة العربية طه وأمثاله. فألفن هو الذكي يكرم نفسه أو يمتهنها في كل مكان أو زمان يحل فيهما. حقاً أن طه حسين أستقبل كتاب أهل الكهف استقبالاً رائعاً، لكن لا ينبغي أن ننسى غيره. فبمراجعة تاريخ الحوادث يتضح أن أول من نوه بالكتاب تنويهاً جميلاً كان الشيخ مصطفى عبد الرزاق ثم الأستاذ المازني ثم الأستاذ العقاد على هذا الترتيب. ولعل العقاد قد أشار في نقده إلى انتفاع بعض المؤلفين الأوربيين بجوهر الأسطورة (أهل الكهف) تهمة الاقتباس أو النقل عن الأجانب وأظنه فضلها من حيث طريقة التصرف على ما قرأ في بعض اللغات عن فكرة القصة. فلما أطمئن طه حسين إلى آراء هؤلاء أقبل فصاح صيحته المشهورة كأنها صيحة (يوحنا المعمدان) وهو يبشر بالمسيح. فقد قال بهذا النص: (أما قصة الكهف) فحادث ذو خطر، لا قول في الأدب العصري وحده. بل أقول في الأدب العربي كله. وأقول هذا في غير تحفظ ولا احتياط. ولا أقول هذا مغتبطاً به مبتهجاً له. وأي محب للأدب العربي لا يغتبط ولا يبتهج حين يستطيع أن يقول وهو واثق بما يقول أن فناً جديداً قد نشأ فيه وأضيف إليه. وأن باباً جديداً قد فتح للكتاب وأصبحوا قادرين على أن يلجوه وينتهوا منه إلى آماد بعيدة رفيعة ما كنا نقدر أنهم يستطيعون أن يفكروا فيها الآن. نعم هذه القصة حادث ذو خطر يؤرخ في الأدب العربي عصراً جديداً. . . ويمكن أن يقال أنها أغنت الأدب العربي وأضافت إليه ثروة لم تكن له. ويمكن أن يقال أنها قد رفعت من شأن الأدب العربي وأتاحت له أن يثبت للآداب الأجنبية الحديثة والقديمة. . . بل يمكن أن يقال أن الذين يحبون الأدب الخالص من نقاد أجانب يستطيعون أن يقرءوها أن ترجمت لهم، فسيجدون فيها لذة قوية، ويجدون فيها متاعاً خصباً وسيثنون عليها ثناءً عذباً كهذا الذي يخصون به القصص التمثيلية البارعة التي ينشئها كبار الكتاب الأوربيين) وكان لتلك الكلمة أثر قوي ذو دوي لأن طه حسين وضع الأمر كما رأينا في صيغة التقرير بمذهب جديد. كأنه (سانت بوف) يعلن أمر المذهب الرومانتيكي عند ظهور تمثيليات (هوجو)!! ولنسلم بأن طه حسين هو المشيد الأول بشأن أهل الكهف ومؤلفها. فهل هذا حدث جديد في تاريخ الآداب؟ ألم يصح مثل هذه الصيحة (تورجنيف) عندما استقبل أول أعمال (تولستوي) قائلاً (ظهر كاتب روسيا الأعظم!) أو لم يفعل مثل ذلك (ارنولد بنيت) عندما أشاد بقصة (الدس هاكسلي) بقوله: (هذا كاتب يلحق مباشرة بقصاصي روسيا العظام!) أو لم يصنع هذا (أناتول فرانس) بمذكرات ماري باسكرشيف) عندما أعلن أنها أثر خالد للإنسانية! فإذا هذه الأعمال قد ظهرت ومؤلفوها قد برزوا للعالم بين يوم وليلة. هل أستلزم ذلك التحميل بأثقال الديون والتكبيل بحبال الجميل نحو أشخاص النقاد؟ أو أن الأمر لا يعدو في تلك البلاد أن ناقداً أدى واجبه بأمانة وإخلاص، لا نحو شخص من الأشخاص ولكن نحو آداب وطنه وفن بلاده؟ لم نسمع في غير مصر أن الناقد إذا أثنى على كتاب حسب أنه تفضل على مؤلفه ورفع شأنه من الحضيض. وأن على المؤلف واجباً مقدساً هو أن يشتري من فوره سبحة كيلا ينسى أن يسبح محمداً الناقد أناء الليل وأطراف النهار. شأنه شأن القاضي الذي يصدر حكماً ينقل أحد المتقاضين من الفقر إلى الغنى. فيظل طول يقول في مجالسه. . . أنا الذي أغنيت فلاناً ونقلته من حال إلى حال وخلقته هذا الخلق الجديد. وينسى أنه كان مظهراً لحق هذا الفلان لا أكثر ولا أقل. اللهم أن في هذا لإهداراً لكرامة العدالة وكرامة الفن!

ولكن من الأنصاف أن أقول: أني لا اشك في أن طه حسين كان يصدر حقاً عن عقيدة الناقد الذي يؤدي واجب النقد والفن وحدهما، فلم يكن قد رآني وما كنت قد رأيته، وما كان تصادم الطباع والخصال قد لعب دوراً في تقدير الأمور، وسواء كان طه مخطئاً أو مصيباً في رأيه الذي أبداه، فهذا ليس من شأني ولا من شأن الأشخاص، إنما هو من شئن النقاد ورجال الجامعة والباحثين من هذا العصر ما بعده ممن يعنون بتمحيص مذهب أستاذ من أساتذة النقد والأدب.

على أني إذا تفرغت للنقد يوماً، فإني أرجو أن أؤدي واجبي بمثل هذه الحرارة والأمانة والقوة نحو آثار طه وغيره من الأدباء؛ وإذا تحقق أملي وأقمت في أوربا بعد الحرب، فسوف يكون من شأني القيام بهذا العمل نحو هذه الآثار في تلك البلاد.

إلى هنا ينتهي ما بيني وبين طه حسين، إذا كانت شؤون الآداب والفن هي حقاً ملك البحث والدرس والزمن والوطن لا ملك الأشخاص.

أما مشاعري الخاصة كإنسان نحو الدكتور طه، فليس الظرف اليوم مواتياً للإطناب في وصفها، وسأختار الزمان والمكان الملائمين للإفاضة بها دون أن يحمل فعلي على غير محمله وأخيراً، أوجه خطابي إلى الأستاذ العقاد قائلاً: (أنك للمرة الأولى تخاطبني بهذه اللهجة التي كنت تخاطب بها (الرافعي) رحمه الله!)

أبهذه السرعة تضع الناس في صف أعدائك؟ لعلك لفرط ما قاسيت من شر الناس، ولقلة ما وجدت من خيرهم، أصبحت مثل (هملت): تستل سيفك لتضرب من خلف الأستار دون الوجوه. فطعنت صديقاً وأنت لا يدري.

توفيق الحكيم