مجلة الرسالة/العدد 460/خسرو وشيرين

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 460/خسرو وشيرين

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 04 - 1942



في التصوير الإسلامي

للدكتور محمد مصطفى

- 2 -

استطاع القائد بهرام جوبين أن يوقع بين الملك هرمزد وولده الأمير خسرو برويز ويغّير رأيه عليه، فاستحضر هرمزد صاحب سره وسأله أن يدبر الاحتيال لاغتيال خسرو، فخدعوا بعض خواصه بمال وواضعوه على أن يسقيه سّماً يقتله. ولمَّا علم خسرو بذلك أشار عليه معلمه بزرجميد الحكيم، فركب تحت جناح الليل وخرج من المدائن يسوق طرداً وركضاً في طريق أذربيجان - أو كما يقول الشاعر نظامي الكنجوي - في الطريق إلى أرمينية. وكان أن التقى بحبيبته شيرين وهي تستحم في بركة الماء دون أن يعرف أحدهما الآخر، وافترقا وقلب كل منهما يحدثه أنه رأى حبيبه، فواصل هو طريقه إلى أرمينية ليحظى برؤيتها، وتابعت هي طريقها إلى المدائن لتبحث عنه. . . وكان خسرو - قبل أن يغادر قصره في المدائن حيث كان في انتظار نتيجة مساعي سفيره شابور - قد أخبر رؤساء خدمه وجواريه باحتمال مجيء سيدة جميلة، ذات مقام رفيع، ونزولها ضيفاً عليه، وأمرهم بحسن استقبالها بما يليق بمقامها من الاحترام والإجلال، وشدد عليهم في إجابة جميع رغباتها

وصلت شيرين المدائن، وتوجهت إلى قصر خسرو، كما أوصاها شابور، حيث أظهرت الخاتم الذي أرسله خسرو إليها، فقوبلت بالترحاب، ونزلت هنالك معززة مكرمة مطاعة من الجميع؛ ولكنها لما علمت بغياب خسرو عن القصر، شعرت بالسأم يدب حولها فيه، ورغبت في السكنى بعيداً عنه، فأجيبت إلى هذه الرغبة، وبني لها قصر عظيم بين الهضاب المرتفعة، لعلها تجد فيه من ضروب اللهو والتسلية ما يجلب السرور إلى قلبها، وعرف القصر باسمها، فقيل (قصر شيرين)

وفي (شكل 1) تخطيط لقصر شيرين فيه محاولة لإرجاعه إلى حالته الأصلية نرى فيه ما كان عليه القصر من العظمة واتساع الأرجاء. وتوجد آثار هذا القصر بين الهضاب ف إيران على بعد حوالي عشرين ميلاً من الحدود العراقية في الطريق إلى كرمانشاه. ويقول ابن الفقيه إن (السبب في بناء قصر شيرين أن الملك أمر أن يبني له باغ يكون فرسخين في فرسخين وأن يصّير فيه من كل صيد حتى يتناسل، ووكل به ألف رجل، وأجرى على كل رجل منهم خمسة أرغفة ورطلين لحماً ودورق خمر، فأقاموا فيه سبع سنين حتى فرغوا منه. . . وسماه باغ نخجيران أي باغ الصيد) ويروي ابن الفقيه عن قصر شيرين أبياتاً منها:

يا ذا الذي غره الدنيا وبهجتها ... وحسن زهرة أنوار البساتين

والدور تخربها طوراً وتعمرها ... باللبن والجص والآجر والطين

أما رأيت صر وف الدهر ما صنعت ... بالقصر قصر أبَرْويزٍ وشيرين

قد صار قفراً خلاء ما به أحد ... إلا النعام مع الوحشية العين

سبحان من خلق الدنيا ودبرها ... وأنشأ الخلق من ماء ومن طين

وصل خسرو إلى أرمينية ونزل ضيفاً على ملكتها مهين بانو، فأخبرته عن اختفاء ابنة أخيها شيرين، ودَعَتْه لأن يمكث في أرمينيا طول مدة الشتاء، فقبل الدعوة. وجاءه شابور بعد ذلك بأيام قلائل، وأخبره بكل ما فعل. فأبلغ خسرو الملكة بوصوله وبما جاء به من الأخبار عن شيرين، واتفقا أن يرجع إلى المدائن ليعود بها إلى أرمينية. وهكذا أمرت الملكة مهين بانو أن يركب شابور على الفرس (جُلْجون) وهو فرس آخر في حوزتها، كان يضارع الفرس (شَبْديز) في شهرته. ووصل شابور إلى المدائن حيث وجد شيرين قد تركتها إلى قصرها بين الهضاب، فتبعها إلى هناك وأبلغها رغبة عمتها، وأقنعها بالعودة إلى أرمينية حيث ينتظرها خسرو، فركبت شيرين الفرس (جُلْجون) - إذ كانت قد تركت شَبْديز في المدائن - ورحلت إلى أرمينية في صحبة شابور

وفي ذات الوقت جاء رسول من المدائن وأخبر خسرو بثورة القائد بهرام جوبين، وأن الثوار قد قبضوا على أبيه الملك هرمزد وسملوا عينيه أرغموه أن ينزل له عن العرش، بعد أن أعلن بهرام جوبين طاعته لخسرو إذا هو تولى الملك. فأسرع خسرو إلى المدائن، حيث توج ملكاً على إيران. وهناك علم أن شيرين قد رحلت مع شابور إلى أرمينية، وأنها قد تركت له الفرس شبديز هدية منها. ولكن سرعان ما ظهرت نيات القائد بهرام جوبين الحقيقية، وأنه قصد بهذه الثورة أن يغتصب عرش إيران لنفسه. وهكذا اضطر خسرو - وقد تبين قوة خصمه - أن يعمل بنصيحة معلمه بزرمجيد الحكيم، ويغادر البلاد بعض الوقت، إلى أن يبدأ نجمه في الارتفاع، فتحين الفرصة لاسترداد حقوقه.

, أخيراً تقابل الحبيبان، إذ جاء خسرو إلى أرمينية بعد وصول شيرين وشابور بوقت قصير. وصادف مجيئه خروج شيرين وصويحباتها للصيد، فقابلته في الطريق وعرف كل منهما الآخر، وكاد يطير سروراً بهذا اللقاء، وصحبته إلى عمتها مهين بانو، فاستقبلتهما بما جبلت عليه من لطف وطيبة قلب. وانتهزت هذه العمة الطيبة فرصة انفرادها مرة بابنة أخيها شيرين، وتوسلت إليها أن تحتفظ بوقارها في جميع المناسبات، وأن تناضل في سبيل الدفاع عن شرفها، والمحافظة على طهرها وعفتها، فوعدتها شيرين بذلك. فسمحت لها العمة بالخروج مع خسرو في رحلة إلى الريف، حيث قضيا شهراً وهما يستمتعان بالصيد وضروب التسلية الأخرى.

وفي (شكل 2) خسرو وشيرين وهما يدخلان أحد القصور في أرمينية عند رجوعهما من الصيد، وقد وقف في استقبالهما بعض أكابر الدولة من أفراد الحاشية ومعهم الخدم والجواري. وهذه الصورة في مخطوط للمنظومات الخمس للشاعر خسرو الدهلوي، كتبه محمد ابن الأزهر في هرات سنة 890 هجرية (1485م). وكان مؤرخو الفن الإسلامي ينسبون الصور التوضيحية التي في هذا المخطوط للمصور بهزاد، وذلك لما امتازت به من الدقة في رسم المباني والأشخاص. والظاهر أن بهزاد كان له في ذلك الوقت بمدينة هرات تلاميذ صوروا هذه الصور، وأسبغوا عليها الكثير من روح أستاذهم. وهذا المخطوط محفوظ في مجموعة شستر بيتي بلندن

قضى الحبيبان شهراً وهما يتسليان بالصيد ولعب الكرة وغير ذلك من أنواع التسلية، إلى أن دعا خسرو شيرين لمأدبة أقامها لها في مضرب خيامه. وكانت مأدبة فاخرة استمعا فيها إلى لأغاني (باربُد) مطرب خسرو و (نيكيسا) مطربة شيرين، ومن بين شفاه هذين المطربين كان فيض الهوى يتردد، وكانا يتجاوبان بما يكنه قلب كل من العاشقين للآخر

وفي (شكل 3) جلس خسرو على سجادة في منظرة بحديقة غناء، يستمع لموسيقى مطربه باربد الجالس أمامه إلى جوار الفسقية وبين يديه (عود) كبير يحرك أوتاره، بينما جلس بعض أكابر الدولة يستمعون لباربد ويتسامرون وهم يتناولون الطعام والشراب ووقف في خدمتهم الغلمان والسقاة والخدم، وقد ظهر على وجه كل منهم مبلغ اهتمامه بما يعمل. ونلاحظ في هذه الصورة الدقة في تصوير المباني والأشجار والزهور، وفي رسم الحيوانات على الحائط خلف خسرو، وكذا صورة التنينين في أعلى القبة إلى جانبيها. وهذه الصورة من تصوير (ميرزا على). وترى إمضاؤه في اسفل الصورة إلى اليسار. وهي في مخطوط نظامي المؤرخ بين سنتي 946 و 950 هجرية (1539 - 43م) المكتوب للشاه طهماسب

واشتهر بَارُبد بجمال الصوت وحسن التوقيع والمقدرة على وضع القطع الموسيقية وتأليف الألحان، وصارت ألحانه حجة أساتذة الموسيقى، وكان بارعاً في الضرب على العود. ويروي أبو الفرج الأصفهاني أنه (ضرب يوماً بين يدي كسرى فأحسن فحسده رجل من حذّاق أهل صنعته، فترقبه حتى قام لبعض شأنه ثم خالفه إلى عوده فشوّش بعض أوتاره، فرجع وضرب وهو لا يدري، والملوك لا تصلح في مجالسها العيدان، فلم يزل يضرب بذلك العود الفاسد إلى أن فرغ، ثم قام على رجله فأخبره الملك بالقصة، فامتحن العود فعرف ما فيه)

وكان بَاربُد محبباً لخسرو برويز ومقرباً إليه، فكان يقصده أصحاب الأمور لعرضها على خسرو إذا خافوا أن يبطش بهم. ويروي ياقوت الحموي انه لنا عرف خسرو برويز بمرض الفرس شَبديز - وكان عزيزاً عليه - قال: (لئن أخبرني أحد بموته لأقتلنه. فلما مات شبديز خاف صاحب خيله أن يسأل عنه فلا يجد بداً من أخباره بموته فيقتله. فجاء إلى البَهلَبَذ مغنيه، ولم يكن فيما تقدم من الأزمان ولا تأخر أحذق منه بالضرب على العود والغناء. قالوا كان لأبرويز ثلاث خصائص لم تكن لأحد من قبله: فرسه شبديز قد نفق ومات وقد عرفت ما أوعد به الملك من أخبره بموته فاحتل لي حيلة. فلما حضر بين يدي الملك غناه غناء روي فيه القصة إلى أن فطن الملك وقال له: ويحك! مات شبديز. فقال: الملك يقوله. فقال زه! ما أحسن ما تخلّصت وخلصت غيرك!. . .) وقد ذكر هذه القصة خالد الفياض في شعره قاله وهو:

والملك كسرى شهنشاه تقنَّصه ... سهم بريش جناح الموت مقطوب إذ كان لذّته شبديز يركبه ... وغُنج شيرين والديباج والطيب

بالنار آلى يميناً شدَّ ما غلظَتْ ... أن من بدا فنعى الشبديز مصلوب

حتى إذا أصبح الشبديز منجدلاً ... وكان ما مثله في الناس مركوب

ناحت عليه من الأوتار أربعة ... بالفارسية نوحاً فيه تطريب

ورنم البَهلبَذُ الأوتار فالتهبت ... من سحر راحته اليسرى شآيب

فقال مات فقالوا أنت فُهْت به ... فأصبح الحنث عنه وهو مجذوب

لولا البَهلبَذ والأوتار تندبه ... لم يستطع نعي شبديز المرازيب

(له بقية)

محمد مصطفى

أمين مساعد دار الآثار العربي