انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 46/مختار دائما. . .!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 46/مختار دائما. . .!

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 05 - 1934



للأستاذ محمود خيرت

ولماذا لا نذكره دائما، وهو الذي بعث الفن القديم من مرقده ورفع عنه غبار الماضي الطويل، ونشره بيننا في زي جديد تحده عليه آثار العصر الحاضر؟ أن هذا الشاب الراحل كان النواة الأولى لفنه. وما أنا بمبالغ إذا قلت إن فن النحت والتصوير كان معدوما من قبله هو وإخوانه (محمد حسن، ويوسف كامل، وعلي الأهواني، وراغب عياد، وعلي حسن، وغيرهم من زينة مصر الآن).

انهم جميعا كانوا من عمد النهضة الحديثة التي انشأ معبدها المرحوم باولوا فورشللا أستاذهم وأستاذي أيضاً. . . وقد كنت أذهب إلى مصنعه وأنا محام فعرفتهم وعرفوني، وكنا جميعا تلاميذه وان كانوا بالمدرسة وأنا في أوقات فراغي بهذا المصنع نجتمع عنده ونذهب منه إلى حيث المرج أو عزبة النخل أو شاطئ النيل أو بعض أحياء القاهرة القديمة نصور وأستاذنا يطوف بنا كالقائد يدلنا على مواضع أخطائنا. وكالأب يتلطف معنا ويغرس حب الفن في نفوسنا. نبغوا وكان على رأسهم تلك الشعلة المتقدة الراحلة. لا زلت أذكره وهو بمدرسة الفنون الجميلة بدرب الجماميز فتى وسيما غزير الدم، مرسل الشعر، حلو الحديث، جم الحياء، عاشقاً. . . ولكن فنه يتلذذ بذكره في كل لحظاته. . . ولازلت اذكر يوم زارني عند الغروب يطلب إلي في لهفة بعض صور لتماثيل غربية عن الحب، فعرضت عليه ما عندي منها. فلما كان اليوم التالي دق التليفون عند الساعة الخامسة صباحا. . . وكان المتكلم هو يذكر أنه لم ينم تلك الليلة كلها، وقد غمره شغفه بوضع تمثال للحب على النحو الذي فكر هو فيه. بل أنه كان يكلمني من المدرسة. . . لأنه لم يستطع صبرا فما كادت الشمس تشرق عن الأفق حتى قصد إليها ووضع فكرته فعلا. وطلب إلي ألا أتأخر عنه لأرى ما وضعه. وكان تمثاله الطيني يمثل فتاة عارية متناسبة الأعضاء جميلة الوجه لها نظرات زائغة، كأنها ترى في الفضاء شبح الحب مقبلا عليها وكأنها تخافه فتدفعه بساعديها الممتدين، وقد ستر موضع عفتها بحمامتين تتناغيان على ما في الصورة المرصودة هنا وقد عنيت بالتقاطها وقتئذ.

كان مختار لا يعرف للنوم معنى ولا لملاذ الحياة طعما، إلا ما كان منها متصلا بفنه الذي يعشقه عشقا ويهيم به هياما، وهي مواهب من تهيئهم الأقدار للنبوغ حتى أنني لما أرسلت بنسخة من تلك الصورة إلى الميسو لابلاني ناظره وأستاذه، وكان وقتئذ بفرنسا بسبب العطلة المدرسية - أرسل يطلب إلي أن افتح عيني مختار إلى الشهرة التي تنتظره وأنه سيكون في يوم قريب فخر مصر، بل فخر العالم كله (هكذا). وعند ذلك أقبلت عليه أزف إليه هذه البشرى، وسلمته ذلك الخطاب الذي يعد أول وثيقة تنبأ فيها أستاذه النافذ البصيرة بما سيكون له من الشأن.

وهكذا اصبح مختار حديث المجالس الفنية في فرنسا حتى اختارته (وهو مصري) مديراً لمتحف جريفين الشهير، وحتى ابتاعت بعض آثاره تزين به متاحفها، وحتى صور لنا آلام مصر وآمالها ونهضتها في تمثاله الخالد.

لم يكن مختار من أولئك القاعدين المقلدين فيسير على أسلوب فالكونيه وكافوفا وكلوريون، أو جيروم وكاريو وبارتولوميه ورودين، فتخرج آثاره موسومة بطوابعهم وتفني روحه الفنية في أرواحهم، وإنما كان نفسا يعز عليها ألا يكون لها شخصية مستقلة متقدة بالأمل، ظمأى إلى النهوض، وثابة إلى أبعد مراتب المجد حتى انه قبل قيامه إلى فرنسا لاستكمال علمه أشار إلى ذلك في شعر قاله ثم بعث به إلى، اثبت منه هذه الأبيات لأن أكثره غير موزون ولا مصقول وان دل على سمو هذه الروح.

وقائله ما بال شعرك مسدلا ... فقلت لها إن الفنون جنون

اعلل نفسي بالمعالي تخيلا ... فياليت آمال الخيال تكون

سأرفع يوما للفنون لواءها ... ويبقى لذكرها بمصر رنين

من ذا الذي يصهر نفسه مثل هذا الهيام الفني ويغمرها مثل هذا الأمل الحبيس في خدر الطفولة والاغتراف من العلم ولا يكون له من هالات الظفر والمجد والشخصية نصيب؟

وإذا كان وهو لا يزال بمصر طالبا لم يرض لتمثاله (الحب) إلا أن يطبعه بصورة خاصة من وحي نفسه وعصاره خياله الذي كان وليد سهره تلك الليلة الطويلة التي مر بنا ذكرها، فكيف لا نلمس هذه الشخصية الناضجة في تمثاله الذي رمز به للنهضة.

ولقد تعاقبت القرون وأبو الهول (ذلك التمثال الصخري القديم) غائر في رمال الصحراء، محدق بنظره في الفضاء، صامت صمت الحجر الصلد الذي نحت منه، حتى هيأت الأقدار لمصر ولدا من أولادها البررة الشجعان يخرجه من صمته ويحركه من سكونه. فمثل لنا مختار إلى جانبه مصرية نبيلةشامخة بنفها تنظر إلى المستقبل في عزم وإيمان كما أنهضه من رمل الأحقاب الخالية كأنه يتطلع مطمئنا إلى هذا المستقبل.

وبعد، فعد معي أيها القارئ الكريم إلى ما ذكرت من ذلك الشعر وهو قوله:

وقائلة ما بال شعرك مسدلا ... فقلت لها إن الفنون جنون

اعلل نفسي بالمعالي تخيلا ... فياليت آمال الخيال تكون

سأرفع يوما للفنون لواءها ... ويبقى لذكراها بمصر رنين

ألا ترى انه خط هذا الشعر السهل بمداد من سائل شعوره الفياض بحب الفن وحب مصر والوعد برفع لوائها خفاقا بين الويه النهضة الحديثة. وفي مكان آخر من هذه القصيدة إشارة إلى ما كان يعانيه من عشيرته في سبيل هذا الحب وهو صابر ثابت سائر في طريقه الذي رسمته له آماله، حتى حققها بعد ان كانت خيالا، وحتى بر بوعده فكان صادقا، وحتى خلدته آثاره بعد موته كما اشتهى. . .

إن مختار كان وحده كوكبا مضيئا سيارا، ولكن شاء الحظ الساخر ألا يتم إلا دورة واحدة من مداره. فهل يكتب لمصر إن يخلفه كوكب آخر يعيد سيرة هذا المدار؟

محمود خيرت بقلم قضايا المالية