مجلة الرسالة/العدد 46/الفاشستية ومبادئها القومية والاقتصادية
مجلة الرسالة/العدد 46/الفاشستية ومبادئها القومية والاقتصادية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كانت مبادئ الثورة الفرنسية روح الحركات الدستورية والديمقراطية التي جاشت بها معظم الأمم الأوربية خلال القرن التاسع عشر، وكانت الحريات الدستورية والديمقراطية إلى ما قبل الحرب هي المثل القومية والشعبية العليا. ولكن الحرب صدعت من صرح المبادئ الحرة والإنسانية، ويثبت إلى الأمم والجماعات الأوربية كثيرا من النزعات الرجعية، فاستردت القومية المتعصبة سابق قوتها وعادت الأحقاد القومية إلى سابق اضطرامها، وشغلت الديمقراطية بخلافاتها ومعاركها الداخلية عن مواجهة الخطر الذي يهددها ولم تلبث الحركة الرجعية حتى أحرزت فوزها الأول بقيام الفاشستية الإيطالية، ثم بقيام حكومات طغيان أخرى في أسبانيا وبولونيا ويوجوسلافيا تحتقر الحقوق والحريات الدستورية وتعمل لسحقها، وان كانت مع ذلك لا ترى بأسا من أن تستتر وراءها وتعمل باسمها في أحيان كثيرة. ولم تكن الفاشستية الإيطالية حين قيامها واستئثارها بمقاليد الحكم والسلطان في إيطاليا، سوى حركة محلية قامت في ظروف خاصة، ولم يكن يقدر لها يومئذ إنها ستغدو ذات يوم فكرة قومية تهب ريحها على كثيرا من الأمم الأوربية الأخرى، وإنها ستغدو نظاما عاما للدولة يطبق اليوم في دولة عظيمة أخرى هي ألمانيا مع خلاف يسير في الوسائل والغايات، وتقتبس منه اليوم دول أوربية أخرى كالنمسا التي أصدرت دستورها الجديد على أساس المبادئ الفاشستية، بل تذاع اليوم دعوته في بلاد ديمقراطية عريقة كإنكلترا يقوم بها حزب يدعوا إلى النظام الفاشستي.
وظفر الفاشستية على هذا النحو يدعوا إلى استعراض المبادئ الجوهرية التي تقوم عليها، والظواهر الخاصة التي تتميز بها. ويجب أولا ألا ننسى إن الفاشستية تشترك مع البلشسفية في الاستئثار بجميع السلطات والسيطرة على جميع موارد الدولة، وان الفاشستية من حيث هي نظام طغيان مطلق تشبه البلشفية كل الشبه. بيد إن هنالك فروقا جوهرية بينهما في الوسائل والغايات سنأتي عليها فيما بعد. ودعامة الفاشستية الأولى هي الفكرة القومية، وعليها تقوم جميع مبادئ هذا النظام، واليها ترجع غاياته؛ فالفاشستية ترى أن (الأمة) هي حقيقة طبيعية تاريخية، مثلها الأعلى هو إن أبناء البلد الواحد اخوة تجمعهم رابط العامة، ولا تحقق سعادة الأمة بقيام فريق منها ضد فريق آخر ولا طبقة منها ضد طبقة أخرى، بل يجب أن تنظم جميع الطوائف والطبقات والقوى لصالح الأمة المشترك، وباسم الوطن الواحد. وترى الفاشستية إنها جديدة طريفة في جوهرها فهي لا تريد أن تصلح أو تحي نظما قائمة، ولكنها تدعي إنها تقيم حضارة مكان حضارة وتنشيء نظما جديدة لبناء الدولة والمجتمع مكان نظم ذاهبة؛ وعندها إن جميع المبادئ والنظم القديمة قد عفت ولا تصلح بعد للعمل على إحياء الحضارة أو المجتمع، ولا بد أن تقلب من أساسها، وان تبدأ الحضارة والمجتمع حياة فتية جديدة على ضوء المبادئ والنظم الجديدة. والدولة الفاشستية لا تقوم على النظام الرأسمالي، ثم هي لا تقوم أيضا على النظام الاشتراكي؛ فالإنسان لم يخلق في نظرها لكسب المال فقط، ولم يخلق أيضا ليقاتل المحظوظين والمنعمين من بني وطنه، ولكنه خلق ليؤدي واجبا اعظم من ذلك وأسمى هو الواجب القومي.
وإذا كانت الجامعة القومية هي دعامة النظام الفاشستي، فان الفكرة التعاونية هي روح هذا الاتجاه القومي؛ وهي أهم ظاهرة في تكوين الدولة الفاشستية: فالدولة الفاشستية لا تقوم كما تقوم الدولة الديمقراطية على فكرة التنافس الحزبي والطائفي في سبيل السلطة، ولكنها تقوم على تعاون جميع الطبقات والقوى القومية. وقد عرف السنيور موسوليني في إحدى خطبه الأخيرة هذه الفكرة التعاونية في ما يأتي: (إنها هي الأداة التي تسترشد بها الدولة في وضع النظام الأساسي الشامل الموحد لجميع القوى المنتجة بالأمة للعمل على تنمية موارد الشعب الإيطالي وقوته السياسية ورفاهه) وفي قوله (قد أعطى النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي كل ما يمكن أن يعطياه، ونحن نرث من كل منهما كل ما فيه من العناصر الحيوية). ويلاحظ إن الفاشستية لبثت بعد قيامها مدى أعوام قبل أن تضع الفكرة التعاونية موضع التطبيق وتتخذها أساسا لتنظيم الدولة الاجتماعي والسياسي، ففي أبريل سنة 1927 أصدرت حكومة رومة (لائحة العمل) وهي القانون الاجتماعي الأساسي للدولة الفاشستية؛ وفيه تعرف الدولة التعاونية وتشرح نظمها ويشرح قانون العمل المشترك وضماناته والأعمال التعاونية وتربية العمال. وترى الدولة الفاشستية إن العمل ليس مجهود يبذله العامل لكسب قوته، وينتفع به صاحب المال، وليس هو الذكاء أو الجرأة أو الأثرة التي تحرك النظام الرأسمالي، ولكن العمل طبق النظرية الجديدة هو مجموعة صنوف النشاط التي ترمي إلى تنمية موارد الأمة المعنوية والمادية؛ والنظرية الفاشستية تبعد هنا كل البعد عند مبدأ الحرية الاقتصادية وقانون العرض والطلب؛ وتقدم الفكرة المعنوية على كل هذه الاعتبارات، فكل عضو في جماعة عاملة عقلية أو فنية أو مادية إنما هو قبل كل شيء من أبناء الدولة، وهو يدخل بذلك الاعتبار في دائرة القانون الخاص، والقانون العام، بل يدخل في دائرة القانون الدستوري. ولم تقف الفاشستية في تطبيق الفكرة التعاونية عند الناحية الاجتماعية ولكنها خطت في سنة 1929 خطوة أساسية أخرى، فطبقتها من الوجهة الدستورية، وقررت تحويل التمثيل السياسي إلى تمثيل تعاوني؛ وأجريت الانتخابات البرلمانية لمجلس يتألف أعضاؤه من ممثلي النقابات والجماعات التعاونية. وأخيرا منذ أيام قلائل فقط أصدرت الفاشستية كلمتها الفاصلة في النظام البرلماني فقررت إلغاءه وبذلك قضت الدولة الفاشستية على آخر المبادئ والآثار الراسخة التي تقوم عليها الديمقراطية، وأضحت تقوم على مبادئها الخالصة الاجتماعية والسياسية.
وتشترك البلشفية مع الفاشستية كما قدمنا من حيث هي نظام طغيان مطلق، ولكن البلشفية تقف في الطرف الآخر معارضة للفاشستية كل المعارضة في الفكرة القومية. فالبلشفية قبل كل شيء على مبدأ نضال الطوائف والطبقات الاجتماعية، وعلى مبدأ سيادة الكتلة العاملة؛ وترى البلشفية إن التاريخ لم يكن في جميع عصوره سوى نضال بين الطوائف، وإن قوى الأمة الحقيقة ومواردها تتكون قبل كل شيء من العمل أو جهود الكتلة العاملة؛ وشعارها هو سيادة الكتلة العاملة، ولا تتحقق هذه السيادة إلا بسحق الطبقة الرأسمالية؛ وهذا هو الفارق الجوهري بين البلشفية والفاشستية. فالأولى تقوم مهمتها الاجتماعية والاقتصادية على نضال الطوائف، وتقوم مهمة الثانية على الفكرة التعاونية، ولكن البلاشفة يسخرون من هذه الفكرة ويقولون إن تعاون الطبقات ذات المصالح المختلفة مستحيل بطبيعته، وان الطغيان الفاشستي يتخذ من التعاون حيلة لإخضاع الطبقات العاملة، وان هذا التعاون إنما هو تعاون الذئاب مع الأغنام. هذا وثمة فارق جوهري آخر بين النظامين هو أن البلشفية تذهب في برنامجها الهدام إلى حدود بعيدة، فترى إن تحقيق مثلها لا يكون إلا بهدم كل المبادئ والنظم القائمة، واستبدالها بمبادئ ونظم أخرى من تفكيرها وصنعها. ولكن الفاشستية لا تذهب في قصد الهدم إلى هذا الحد، فهي ترى أن تأخذ من النظم القائمة ما يلائم غاياتها، ولا ترى باسا من أن تقتبس من الاشتراكية كما تقتبس من الرأسمالية.
وتستطيع الفاشستية أن تدعي اليوم إنها قد أصبحت حركة عالمية بعد أن لبثت إلى ما قبل عامين حركة إيطالية محلية، فمبادؤها ومثلها السياسية والاجتماعية تسيطر اليوم على أمة عظيمة أخرى هي ألمانيا. وطغيان (الوطنية الاشتراكية) الذي يفرضه الهتلريون اليوم على الشعب الألماني يقوم على نفس الوسائل التي شقت بها الفاشستية طريقها إلى السلطان والحكم منذ اثنتي عشرة عاما. بيد أن الفاشستية الألمانية تنقصها الطرافة، ويغلب فيها التقليد على الابتكار، وتنقصها بالأخص الزعامة الممتازة، وتقدمها بهذه السرعة يرجع إلى وسائل العنف والإرهاب اكثر مما يرجع إلى وسائل الإقناع والتأثير. وهي في جوهرها كالفاشستية الإيطالية تقوم على الفكرة القومية، وحشد أبناء الوطن الواحد تحت لواء واحد؛ ولكنها تذهب في فهم الفكرة القومية إلى حد التعصب الجنسي والديني الواضح، وهو حد لم تبلغه الفاشستية الإيطالية قط، فزعماء الوطنية الاشتراكية الألمانية: اعنيهتلر وزملاءه يمزجون الفكرة القومية بفكرة الجنس والسلالة ويفرقون بين الجنس الآري والأجناس الأخرى، ويقولون إن الشعب الألماني هو شعب آري أشقر يتفوق بالدم والمزايا الجنسية والفكرية على جميع شعوب الأرض، ويشهرون العداء على غير الآريين؛ ومن ثم كانت ثورة الخصومة السامية وطاردة اليهود الألمانيين بحجة أنهم غير آريين وان وجودهم خطر جنسي واجتماعي على الشعب الألماني، وهي حركة تعصب شائن لم تضم الفاشستية الإيطالية في أي طور من أطوارهاوكانت ذريعة سياسية في الواقع رأى الهتلريون في اتخاذها تحقيقا لبعض خططهم السياسية والاقتصادية؛ وتذهب الفاشستية الألمانية إلى ابعد من ذلك فتعتبر جميع الأجناس السامية والشرقية أجناسا منحطة هدامة للحضارة يجب أن يسودها الجنس الآري.
وأما من الوجهة الاقتصادية فأن الفاشستية الألمانية غامضة في وسائلها وغاياتها. فهي تزعم إنها اشتراكية على حين إنها ابعد الأشياء عن الاشتراكية. وهي تعتمد في خططها الاقتصادية على التقليد والاقتباس من الفاشستية الإيطالية؛ فقد أصدرت مثلا قانونا (لتنظيم العمل القومي) على مثل لائحة العمل الإيطالية؛ وجمعت نواحي الإنتاج المادي والفكري في دوائر معينة مقتبسة نظام النقابات الإيطالي. ويعرف الدكتور فدر أحد علماء الوطنية الاشتراكية الاقتصاديين مهمة الحكومة النازية في الميدان الاقتصادي بما يأتي: (إن الوطنية الاشتراكية تعارض فكرة جعل الاقتصاد القومي قوميا. والواقع انهإذا كان من واجب الدولة أن تدير شؤون البلاد الاقتصادية فيجب أن يكون شعارها عدم التدخل في الإنتاج، ومهمة الحكومة الجوهرية هي (التنظيم) فعلى الدولة أن تدير شؤون البلاد دون أن تشترك فيها. وهذا هو الباعث الذي يوجه الاقتصاد الوطني الاشتراكي).
وقد حققت الفاشستية في إيطاليا دولة قوية ومجتمعا جديدا قويا، وبذلت جهودا خليقة بالإعجاب لتنمية الموارد القومية وتنظيم الإنتاج القومي، وبثت إلى الشعب الإيطالي قوى معنوية جديدة، ورفعت هيبة إيطاليا الخارجية. ولكنا لا نستطيع حتى إزاء هذه النتائج البديعة أن ننسى الوسائل العنيفة التي حققت بها الفاشستية سيادتها وسلطانها، ولا نستطيع أن ننسىأنها مازالت تحقق ظفرها على حساب الحريات الدستورية والشعبية. وإذا كانت الفاشستية قد استطاعت أن تسير حتى اليوم في طريق التقدم والظفر، فلسنا نستطيع مع ذلك أن نؤمن بما يقوله زعماؤها ودعاتها من إنها أصبحت تتبوأ مكانتها المستقرة الراسخة بين الأنظمة السياسية والاجتماعية العريقة، وإنها أصبحت نظام المستقبل، ذلك إنها تقوم على كثير من العنف وتغليب الإرادة الفردية والوسائل المصطنعة، ولا تتفق في كثير من مبادئها وغاياتها مع المبادئ والغايات الإنسانية المثلى، وليست من جهة أخرى تتفق مع النزعات الحرة الراسخة التي يمتاز بها التطور السياسي والاجتماعي في عصرنا؛ ومن المحقق انه يوم تبرأ أوربا القديمة من الجراح التي أصابتها من جراء الحرب الكبرى، ومن الفوضى السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي هزت أسس المجتمع الأوربي القديم، فان صرح الفاشستية سيأخذ عندئذ في الانهيار والتطور، وستعود المثل الحرة والدستورية القديمة إلى تبوئ زعامتها وسيادتها في الدولة والمجتمع.
محمد عبد الله عنان المحامي