مجلة الرسالة/العدد 46/أيها الشرق. .!
مجلة الرسالة/العدد 46/أيها الشرق. .!
أيها الشرق! يا وطني الكبير،
أهتف بك فتسبق إلى عيني باكية دامية ذليلة، وتتدفق على ذهني ذكريات بعضها شجي يزجي الألم حاداً عنيفا، ويذكي الدم حاراً مستعراً، وبعضها حلو يثمل النفوس بالفخر، ويهز الأعطاف بالإعجاب. .
ولكنك الآن ذليل أيها الشرق! آه لو استطاع هذا القلم الضعيف أن ينفث في نواحيك الإيمان، ويبعث في جوانبك الأمل، لكان سعيداً، أنت يا وطني مهبط الحضارة ومسقط النور، ما في ذلك شك. أنت مجال الأبطال والقوة، ومراد الحكمة والنبوة، ومخرج الدعاة والقادة، هذا حق لا تخلص إليه شبهة، ولا تنصرف إليه ريبة.
ليقل - كبلنج - إن الشرق شرق والغرب غرب ولا يلتقيان - فلسنا نتوقع من دعاة الاستعمار أقل من هذا. . ولكن الحقيقة تلطم كبلنج وتلزم المكابرين من أمثاله حدود الاقتناع
فان كانت أوربا تفخر بنابليون لأنه عبر الألب وتخطى البرانس، ونلسن لأنه كسب موقعة أو موقعتين، وولنجتن لأنه ذبح مليوناً أو يزيد، فان الشرق ليتية بزغلول لأنه قهر إنجلترا بغير السيف والرمح، وغاندي لأنه هز إنجلترا بغير الحديد والنار، ومصطفى كمال لأنه دوخ في ساح الحرب أصحاب الغازات الخانقة والطائرات المحلقة والمدافع الرشاشة. . .! وإبراهيم لأنه طرق أبواب اليونان مرات وعبث بحبل أولمب مهبط الوحي وملعب الأبطال ومستقر الآلهة!!
وإن كان للغرب أن يفخر بروسو وفولتير وشكسبير وجوت وبيرون، فإن الشرق والعالم يفخر بالأفغاني ومحمد عبده وابن خلدون والمتنبي وفيلسوف المعرة. الشرق غني برجاله قوي بأبطاله، خصب بحضاراته. . . ولكني بعد هذا ومع هذا لا أستطيع إلا الاعتراف بالحق - وليس ينكر الحق إلا الضعاف - والحق أن الشرق كان فتياً فأصابه الكبر، وكان قوياً فأخذه اليأس والخور، وكان عاملاً فجنح إلى الراحة واستراح إلى المسالمة. . . هذا هو المنطق الذي يرضي الله والعقل والناس، والحق إننا نغالي في تقدير ما ضينا ونشغل به عن حاضرنا. وهل أتاك حديث المرأة الصلعاء التي أخطأها الزواج لصلعها فكانت إذا جاءها الخاطب ثم هم بأن ينصرف استوقفته قائلة (ألم تر إلى خالتي إن لها شعراً جميلاً!!) هل لمحت وجه الشبه؟
الشرق محتل كله أو يكاد: تضرب في نواحيه الخيام الدخيلة، وترفرف على سواريه الأعلام الغريبة، وتحلق في سمائه الطائرات الأجنبية. . . وأهل الشرق نيام ضرب عليهم الغفلة وملكهم اليأس واستبد بهم الخور وانشقت بهم العصا.
يا أبناء الشرق! إن أخاف عليكم اليأس أن يدرككم فيشل عقولكم، ويغل أيديكم ويضل هداكم.
أنا أعرف وأعترف أن الغاية بعيدة، وأن السبيل قفر وعر وأن الشرق ضعيف الحول والحيلة، وهذا بعينه ما يلقى في نفسي الجزع ويردني إلى حيرة تشبه أن تكون جنوناً لأني أخاف عليك أيها الشرق أن تلقى عصا لأمل وتغمد سيف العزيمة وترفع الراية البيضاء. . .!
وأخاف عليك ظاهرة أخرى: في الشرق تنشق العصا وتتفرق الكلمة وتشت الوحدة، وتتبدد القوافل في شعاب الجبال فلا تزال كل قافلة تتهادى وحيدة فريدة في الوهاد والنجاد حتى ينال منها الجهد، وتشتبه عليها السبل وتنبت بها الأسباب في صميم الصحراء. .! والعدو على المستشرف يرقب ويغري ويبتسم، حتى إذا ضمن تصدع الشمل وتقطع الأسباب انثنى فهاجم كل قافلة في مواضع الضعف منها، فأطمع الأولى بالرغبة، وقمع الثانية بالرهبة، وأغرى الثالثة بالرابعة. . . حتى يستقيم له الأمر ويخلو له الطريق ويصفو له الجو. أفليس أجمع للكلمة وأضمن للنصر وأحزم للرأي، لو تلافت هذه القوافل كلها في السهل فضمت شتاتها ولمت شعثها ونظمت نفسها في سرب طويل قوي ثم سارت على حداء الأمل وهداية الأيمان. .؟؟
مؤلم هذا الانقسام الذي يشيع في صفوف المجاهدين في بلاد العرب وفي مصر وفي الهند، في الجزيرة ملكان مسلمان يتحاربان وفي مصر أحزاب تتطاحن. وفي الهند طوائف تجور عن السبيل والغاية. والشرقي المخلص الصادق لا يستطيع أن يشهد هذا دون أن يضيق به ويأسف له، ويتمنى على الله أن يكشف عن الشرق هذا البلاء. . .
أيها الشرق. . . أحب أن أعتقد أن سكونك تحفز الأسد قبل أن يقفز، وأحب أن أسمع أن صمتك استقرار العاصفة قبل أن تزأر وتثور وتدوي، وأحب أن لو كان سيرك تسلسل النهر قبل أن يفيض ويطغى فيجترف السدود ويكتسح الحدود ويجتاح العالم. وأحب ألا يأكل بعضك بعضاً، وألا يقضي قويك على ضعيفك، وأحب أخيراً ألا تضيق بالألم وألا يأخذك اليأس، فلا بأس بالمحن لهيب يصفي الروح وينقي الجوهر وينفي العرض، ويذكي الحفيظة ويغلي الدم ويفجر الثورات.
محمود البكري القلوصناوي