مجلة الرسالة/العدد 456/بين آدم وحواء

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 456/بين آدم وحواء

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 03 - 1942


قبل أن تثور القواصف

فوق أثباج الكوثر

للدكتور زكي مبارك

ارتاح آدم إلى كيد حواء بعض الارتياح، وأدرك أن الرجل لا يعيبه أن يُفتن بالمرأة من حين إلى حين، على شرط أن يظل في الحدود التي لا تجرح كرامة الرجال

وفطِن إبليس، لعنه الله، إلى أن آدم أخذ يؤوّل كيد المرأة ويقسمه إلى أقسام فيها المكروه والمباح. . . فطن إبليس إلى هذه الثغرة فجدّد من نشاطه واستأنف الوسواس فهتف: (هل أدلكما على شجرة الخُلد؟. . . هل أدلكما على شجرة الخُلد؟. . . ألا تسمعان؟)

قالت حواء: سمعنا وسنطيع. وقال آدم: سمعنا ولن نطيع

فغضبت حواء من جواب آدم واتهمته بالزهد في الخلود، وهو زهدٌ دميم، فما يليق بالرجل أن يضيع فرصة تنجيه من الفناء، ولو ارتكب في سبيلها ما لا يليق

وغضب آدم من سفاهة حواء فقال: من أين عرف إبليس أن شجرة الخلد هي شجرة التين؟ وعلى فرض أن كلامه صدق في صدق، فكيف يجوز أن نعصي الله لنظفر بالخلود؟

اعلمي، يا حواء، أن الرزق والجاه قسمان: حرام وحلال، وأنا لا أقبل أن نُرزَق الخلد عن طريق الحرام. . . إن اللقمة المسروقة تقف في الحلق لحظة، ثم تُزدرَد برفق أو بعنف. ومع هذا تبقي لها عقابيل تحزّ في القلب إلى آماد طوال، فكيف نستجيز الظفر بنعمة الخلود عن طريق العصيان؟ وكيف نرضى أن نعيش أبد الآبدين في أسر الحرام الممقوت؟

- آدم، أنت أحمق!

- لأني أزهد في الخلد المكسوب بالعصيان؟

- لا، بل لأنك تجهل أن الخُلد أنفس وأثمن وأعز من أن تُتَقي في سبيله الشُّبُهات

- النص صريح في تحريم هذه الشجرة يا حواء

- التأويل يلحق جميع النصوص

- إذا وُجدت الغاية التي تبيح الممنوع من التأويل! - وأيُّ غاية أشرف من الخُلود؟

- اسمعي، يا حواء، إن الخُلد غاية شريفة - كما تقولين - ولكني أبغضه أشنع البغض، لأنه يوجب أن أعيش في صحبة عقلك الأجوف إلى ما لا نهاية له من الآباد. . . إني ضَجِرت، ضجرت، مع أن صحبتنا في الجنة قريبة العهد، فكيف أصنع إذا كتب الله عليَّ أن أكون من الخالدين في جوارك يا حواء؟

- تغضب مني يا آدم وأنا أدعوك إلى الخُلد؟

- هو خُلدٌ حرام لا حلال. . . وما يليق بنا أن نعامل الله في كرمه بغير الامتثال

- أَتصِفُ الله بالكرم وهو يبخل علينا بشجرة لا يساوي حطبها درهمين؟

- ألم أقل: إن الله يختبر قُوانا النفسية بتحريم تلك الشجرة؟ وإذا عجزنا عن كبح النفس في البعد عن شجرة لا يساوي حطبها درهمين، فكيف يكون المصير لو نُهينا عن شجرة مصوغة من عيون العذارى وخدود الملاح؟ المعصية بغيضة يا حواء، لأنها تضيفنا إلى أهل الكفران، وما يجوز لمن يعيش في مثل هذا النعيم أن يفكر لحظة واحدة في عصيان المنعم الوهاب

- الله منعمٌ وهاب، وهو يبخل بشجرة لا يساوي حطبها درهمين؟

- الآن عرفتُ أنك امرأةٌ سليمة الأعصاب والحواسّ إلى أبعد الحدود

- وكيف؟

- لأنك تنكرين الجميل، والمرأة لا تنكر الجميل إلا حين تكون في عنفوان الصحة والعافية

- وإذن؟

- وإذن أعصى الله من أجلك يا حواء!

- فتأكل من شجرة التين؟

- وأترك طبعات على هذه الخدود المقبوسة من جمر الوجود

- تحبني، يا آدم؟

- أحب المرأة الحلوة الجميلة التي زلزلتْ فؤادي. أحب المرأة التي نقلت قلبي من مكان إلى مكان. أحب الغادة اللعوب بالعقل والروح. أحبك يا حواء حباً أمتنَ من الصدق وأروح من اليقين. أحبك يا حواء حبًّا سيُفسِدُ ما بيني وبين ربي، إلا أن تشاء إرادته السامية أن أتقرب إليه بعبادة الجمال. . . ولعله يشاء!

- وإذا لم يشأ، فماذا تصنع؟

- آكل من شجرة الخلد، لأحمي هذا الجبين من الأفول

- بالعصيان؟

- هنا المشكلة يا حواء، فما يُسيغ ذهني أن ينهانا الله عن رعاية الجمال

- أراك اهتديت!

- وأراني ضللت!

- أفِقْ، يا نَشْوان

- إن جاز للموقوذ بسكْر الجمال أن يُفيق!

- تحبني يا آدم؟ تحبني؟

- أحب النار التي صهرت روحي، ولن أطمئن إلا يوم أنهشك يا حواء لتعودي نقطة من دمي

- ما هذه الوحشية؟

- أيّ وحشية؟ ألم تؤخَذي من ضلعي؟

- أنا من ضلعك أُخذتُ يا كذّاب؟

- اسألي الملائكة، فعندهم الخبر اليقين

- ولهذا جئت جميلة؟

- وأجمل من الأفعى الملتوية على الشجرة الزهراء!

- أراك تبغضني يا آدم!

- هو ذلك: فأنا أبغض العيون الجوارح، وأبغض الجبين الوضاح، وأمقت القد الرشيق، وأستعيذ بالله من السحر المتموج فوق الثنايا البيض

- ثم ماذا؟

- ثم أكره الصوت الذي يُشبه وسواس الحُلِيّ فوق النحور، والذي يفوق غمغمة الكأس عند فورة الرحيق

- ثم؟ - ثم أثور على التفاتة الجيد عند العتاب

- ثم؟

- ثم أبغض حواء لأنها حواء!

وبعد الأنس بقُبلتين محرقتين مضى آدم لشهود حفلة الطيران، وهي حفلة موسمية كانت تقيمها الحمائم والبلابل والعنادل في (غابة الصنوبر) لتروض أفراخها على النهوض والتحليق. ويحدثنا شيث أن حفلات الطيران هذه كانت تجتذب جميع سكان الجنة بلا استثناء. وقد نص على أن السباع كانت تراهاً عجباً من العجب، لأنها تشهد بتنوع المواهب، وإلا فكيف جاز أن يقدر الطائر الضعيف على ما يعجز عنه الأسد الصوّال؟

مضى آدم وحده لشهود حفلة الطيران، وهو مبتسم جذلان، فقد أعفى نفسه من الحيرة في قرب شجرة التين، وأسلم مصيره إلى خالق الأنوار والظلمات، فللأقدار أن تصنع به ما تشاء

أما حواء فشعرت بحزن وانقباض حين رأت آدم لا يمانع في قرب الشجرة المحرّمة، ولهذا قّلت بشاشتها لشهود حفلة الطيران، وكذلك آثرت الاعتكاف لتنظر فيما هي مقبلةٌ عليه. . . فما الذي تأذّت به حواء وقد بلغت من ختل آدم فوق ما كانت تريد؟

نظرت حواء فرأت أن الشقاق حول الشجرة المحرمة كان فرصة لشغل آدم بزوجته شغلاً غير مقطوع، والمرأة يرضيها ويسرها ويشوقها أن يعيش الزوج وهو بها مشغول، فكيف تكون الحال بعد أكل الثمرة الممنوعة حين يصبح جميع ما في الجنة حلالاً في حلال؟

ونظرت فرأت أن الجدال حول الشجرة المحرمة ألانَ لسان آدم وعلَّمه الحوار بأساليب لا تخلو من البراعة والظرف، وقد تصل إلى السحر في بعض الأحيان، فكيف المصير إذا تساوت قِيمُ الأشياء واستغنى آدم عن الجدال؟

سيكون الصمت من نصيب آدم حين تنعدم أسباب الخلاف، فكيف تعيش حواء مع رجلٍ صَمُوت؟ وهل قلّ صمت آدم برغم ذلك الخلاف؟ لقد كانت له تأملات طويلة ينسى بها ما حواليه حتى لتحسب زوجته أنه لا يشعر بأن لها من الوجود أي نصيب، فأي بلاء ينتظر حواء يوم تنقطع موجبات اللجاجة مع فارسها الجميل؟

في تلك الحومة كادت حواء تنتقل من المعصية إلى الكفران، والعياذ بالله، فقد جاز لها أن تعترض على نظام الجنة، وأن ترى أنه لا يخلو من اختلال. والثورة النفسية تحيل النعيم إلى جحيم، وذلك ما وقعت فيه حواء

نظرت فرأت أن الجنة قليلة المحرمات، فهي قليلة الطيبات، وهل يستطيب الناس غير الممنوعات؟

نظرتْ في هذا المعنى ملياً ثم صرختْ:

أرى طِيبَ الحلال عليّ خُبثاً ... وطِيبَ العيش في خُبث الحرامِ

وهمّت باقتلاع شجرة التين لتحوّل الجنة إلى خراب يباب، فما كانت الجنة في نظرها غير تلك الشجرة الممنوعة، وإذا اقتلعت تلك الشجرة فسوف يرى الله أن عنايته بخلق الجنة ذهبت أدراج الرياح!

ولكن شجرة التين التي لا يساوي حطبها درهمين أعجزت حواء فلم تستطع اقتلاعها برغم ما بذلت من الجهد (المحمود) فنكصت على عقبيها وقد نال منها الإعياء ما نال

وكان المفهوم أن تخجل من الهزيمة أمام شجرة التين، وأن يزيد حقدها على الله، ولكنها فرحت حين عرفت بالتجربة أن (شجرة الشرّ) قوية الجذور، وأن الأمل في اقتلاعها ضعيف، وتمنّت أن تصبح الجنة وفيها لهذه الشجرة أمثال وأمثال

ذلك ما كان من أمر حواء، فما أمرُ آدم وقد ذهب وحده لشهود حفلة الطيران؟

رأى جميع المتفرجين يتحدث بعضهم مع بعض، وهاله أن يرى الثعلب يناجي أنثاه بجذل وانشراح، كأنه يدرك الدقائق من طيران أفراخ العندليب، ورأى الأفعى تخاطب الأفعوان بعبارات فَهِم منها أن حفر الجُحر في أصل الشجرة لا يقل خطراً عن بناء العش في أعالي الأغصان

أراد آدم أن يتكلم، ولكن مع مَن؟

لو كانت حواء حاضرة لحدثها عن ذكائه في استكشاف ما بين الخشب والماء، فقد اهتدى إلى أن من يمتطي الخشبة لا تهوله أمواج الكوثر في كثير ولا قليل، وهل يكون امتطاء الهواء أوثق من امتطاء الماء؟

لو كانت حواء حاضرة لقال لها وقال، ولكن أين حواء؟

هنا أدرك آدم أن الحياة بلا رفيق لفظٌ بلا مدلول ألم يكن يجرّد من نفسه شخصاً يحاوره حين يعتكف؟

ألم تكن أشعاره تبدأ بعبارة (يا خليليّ) أو (يا صاحبيَّ) كأنه يرى بضوء البصيرة أنه يحتاج إلى عدد من الأصحاب والخلان؟

ألم يلاحظ أن الله حين اختصه بالنطق قد أوحى إليه أن حياته لن تكون بلا رفيق أو رفاق؟!

أين حواء ليبادلها الأحاديث؟ وأين ماضيه في الطيران بأجواء الحقائق والأباطيل؟

إلى حواء، إلى حواء، إلى حواء!!

فماذا يرى آدم، وماذا يسمع؟

يرى فتاةً خامدة بجوار شجرة التين، ويسمع أنيناً يذيب لفائف القلوب

- حواء!

-. . .

- حواء!

-. . .

- حواء!

- آدم؟

- نعم، آدم، ماذا بك يا حواء؟

- لا شيء، ولكن أين كنت؟

- كنت أشهد حفلة الطيران

- ورأيت عدل الله؟

- فيماذا؟

- في تزويد الطير بنعمة لن نظفر بها أبداً، فهو يطير عن هذه الجنة حين يشاء!

- وهل مللت الثواء بالجنة يا حواء؟

- أي جنة تريد؟ أتريد هذا العيش الرتيب، العيش الذي لا يحرَّم فيه غير طعامٍ واحد؟ العيش المملول، العيش الذي يقدَّم فيه التفاح بلا حساب؟

- وما عيب هذا العيش يا حواء؟ - عيبه أنه حلال في حلال

- وماذا تريدين؟

- أريد أن يكون لي جموح يُغضب الله

- وماذا تستفيدين من غضب الله؟

- أريد أن أشغله بنفسي

- لك الويل، يا شقية!

- لك أنت الويل، يا بليد!

- حواء، أنت حمقاء!

- الأحمق هو الذي يشهد حفلة الطيران ولا يستفيد

- وماذا يستفيد المرء من شهود حفلة الطيران؟

- ألم تر مئات الأفراخ من الحمائم والبلابل والعنادل والصقور والعقبان وهي مجرَّحة بسبب العنف في التمرين على الطيران

- نعم، رأيت، ثم رأيت!

- تقول إنك رأيت، فهل فهمت أن تلك الجراح هي سرّ القدرة على التحليق؟

- وإذن؟

- وإذن نجرَّح مرة أو مرتين أو مرات. . .

- لماذا؟

- لنطير في أجواء الرشد والغيّ والهدى والضلال

- إن كنت تريدين شجرة التين فلن أقرب شجرة التين

- حدثني أحد الملائكة. . .

- وتحدثك الملائكة يا حواء؟

- وتحدثك أيضاً ولكنك لا تسمع!

- وماذا قالت الملائكة؟

- قالت إن الله أخبرهم أنه سيجعل في الأرض خليفة، وأنهم كرهوا أن يجعل في الأرض من يُفسد فيها ويسفك الدماء - وبماذا أجاب الله؟

- قال: إني أعلم ما لا تعلمون

- ومعنى ذلك؟

- معناه أننا سنصير إلى الأرض

- بعد هذا النعيم؟

- وهل نحن في نعيم؟

- اتقي الله يا حواء

- اتق الله أنت

- الأرض، الأرض، الأرض!!!

- الأرض، الأرض، الأرض!!!

كذلك دار ذهن آدم وحواء بهذه الكلمات، واشتهى آدم واشتهت حواء رؤية ذلك العالم المجهول

- إلى شجرة التين، يا آدم

- إلى شجرة التين، يا حواء

- ولكن أحذر من أن تقول إني أغريتك!

- لم يغرني غير العينين النجلاوين، والخدين الأسيلين، والثغر المعطَّر بأنفاس الرحيق

- اعترف صراحة بأني ما أغويتك ولا أضللتك ولا زينت لك العصيان

- أعترف بأن حواء لا تُسأل عما يجني قدها الرشيق

- ولا خصرها الأهيف؟

- ولا جيدها الأغيد!

- ولا ثغرها الرَّشوف؟

- ولا طرفها الكحيل!

- ولا تثنيها وهي تتخطر فوق شط الكوثر؟

- ولا سحر اللون الذي يتموج بساقَيْها حين نتمدد فوق الأعشاب!

- ولا بلؤمها حين تثور؟ - ولا بكرمها حين تطيع!

- آدم، آدم، أنت مخلوقٌ نبيل

- معاذ الله أن أكون كذلك، فما يوصف الرجل بالنبل إلا حين يملك ما يأتي وما يَدَع. وقد قلّت حيلتي في رياضتك يا حواء، فأنا بفضل هواك من الهالكين

- لن تهلك وأنا معك

- ولن أهلك إلا لأنك معي، فالرفيق الفاسد يجرّ صاحبه إلى الهلاك

- اللهُ قدَّر أن يكون مصيرنا إلى الأرض، فما خوفُك وتلك إرادته السامية؟

- للجنة أسوار وحدود، وأنا أخشى أن تكون الأرض بلا أسوار ولا حدود

- عند ذلك تستطيع أن تفر مني حين تشاء

- أنا في الجنة مقهور على صحبتك بفضل الأسوار، وسأكون في الأرض مقهوراً على صحبتك بفضل الأهواء، والفرق بين الحالتين بعيد

- لك أن تتحرر من هواي

- لو أصبحتِ تراباً يا شقية لكان من واجبي أن أستاف ذلك التراب

- تحبني يا آدم؟

- أحب اللسان الذي يتلجلج بفم الحية النضناض

- أنت وقح!

- الوقاحة لن تكون إلا من نصيب الجمال النشوان!

- النشوة العارمة لم تعرف إهاباً غير إهابك

- ولهذا أخضع للشهوة وأطيع

- إذن تأكل من شجرة التين

- وأستبيح المعصية في سبيل الجمال

- خذ هذه التينة يا آدم

- ابدئي بنفسك

- هذه واحدة وثانية وثالثة ورابعة وخامسة، فهل وقع شيء؟

- لم يقع شيء! - وإذن يكون التين من الثمر المباح

عند ذلك مدّ آدم يده فالتهم ثمرة التين وهو يرجو أن يكون مصيره مصير حواء، ولكن الجنة زُلزلت من جميع الجوانب فأدرك أن الله لا يقيم وزناً لغير هفوات الرجال.

(للحديث شجون وشجون)

زكي مبارك