مجلة الرسالة/العدد 455/ابن خرداذبه
ابن خُرْدَاذبَه «مجلة الرسالة/العدد 455/ابن خرداذبه» للأستاذ كوركيس عواد 1 - تصدير كانت مجموعة التصانيف الثمينة، التي طبعها دي غويه المستشرق الهولندي الذائع الصيت، بعنوان (الخزانة الجغرافية العربية)، قد نالت استحسان جمهرة الباحثين، وتقدير كبار العلماء، ولا مراء أن تلك المؤلفات، سطرت لأصحابها اسماً ذهبياً على جبين الدهر وأبقت لهم ذكراً خالداً. وقد كان اهتمام ناشرها العلامة بتصحيحها ومقابلة روايات نسخها، مدعاةً لإعجاب كل من وقف عليها ومجلبةً لإكبار ما عاناه في تحريرها، ودليلاً على ما اتصف به من علم واسع وصبر جميل والذي يؤسف له أشد الأسف، أن أكثر مؤلفي هذه (الخزانة) هم من صنف العلماء المغمورين الذين نجهل الشيء الكثير من أمرهم. وحسبك أن تعلم أن أغلب كتب التراجم لم تتعرض لذكرهم، وإن فعلت فبالشح والتقتير! وكان المستشرق المذكور، وقد صرف جانباً من عنايته في التعريف بكل واحد منهم فدوَّن ما وسعه تدوينه؛ ومع ذلك ظلت هاتيك التراجم بحاجة إلى من يتبسط فيها، ويزيل عنها ما هو عالق بها من الاقتضاب. وقام بعد دي غويه من اهتم بهذا الشأن أيضاً، فنشر الأب لامنس ترجمة حسنة للبشاري المقدسي، وتلاه الأستاذ أحمد أمين بك فكتب ترجمة ثانية له. ودوَّن أخي ميخائيل عواد ترجمة وافية لابن حوقل. وهانحن أولاء نعرض على القراء ترجمة (ابن خرداذبه) مستقاة من المراجع الموثوق بصحتها. ومن الله التوفيق 2 - لفظة خرداذبه اختلفت المراجع القديمة في ضبط لفظة (خرداذبة) أيما اختلاف: فبعضها ضبطها بإسكان الراء، وبعضها بفتحها مع التشديد. ومنها من كتبها بذالين معجمتين بينهما ألف، أو بدالين مهملتين بينهما ألف؛ في حين أن فريقاً آخر جعل من الدال الثانية ذالاً معجمة، وهي الأوفق. فإن الكلمة فارسية على ما تجيء بنا، والدال الواقعة بعد حرف علة تُعْجَم على القاعدة المشهورة. وهناك من أورد الباء مكسورة، أو من أوردها مفتوحة، أو من جعلها ياء، فقد قال السيد مرتضى الزبيدي: (خرداذيه: بضم الخاء وسكون الراء وفتح الدال بعدها ألف وكسر الذال وسكون الياء التحتية وآخره هاء) وهنالك اختلافات عديدة غير ما ذكرنا، حصلت من جراء التلاعب بأحرف لفظة (خرداذبه). ونحن على يقين من أن أغلب ذلك إنما جاء على أيدي جهلة النساخ. ومما وقفنا عليه من الصور الممسوخة لهذه اللفظة: جرداذه، وجرداذبه، وجرداويه، وحرادو، وحراذيه، وحرداديه، وخرداذبه، وحردازبه، وخراداذبة، وخرداد، وخردادة، وخردادية، وخرداذه، وخرزاد، ودارية! فهذه اثنتان وعشرون صورة مضطربة مشوشة، جرت على أسل الكتبة والنساخ، وإنما أوردناها بهذا الوجه من التفصيل ليكون القارئ على بينة من أمرها حين مراجعته المصنفات التي نوهنا بها في الحواشي وفي عجم ريشاردسن الفارسي - العربي - الإنكليزي تفسير لمعنى لفظة خرداذبة. قال: أن معنى (خرداذ) بالفارسية مَلاَك، و (بًه)، والباء موحدة مفتوحة: جيد أو صالح. فيكون مدلول اللفظة: الملاك الصالح نخرج بالقارئ مما ذكرنا آنفاً، أن أحسن الوجوه وأصحها في كتابة هذه التسمية الأعجمية هو (خرداذبه) بالضبط الذي نقلناه عن صاحب التاج مع مراعاة تصحيح الياء المثناة باء موحدة مفتوحة 3 - من عرف باسم خرداذبة ويحدثنا التاريخ، أنه نشأ غير واحد ممن عرف بهذه التسمية هدانا البحث إلى أسماء خمسة منهم، ودونك شيئاً عنهم: الأول - خرداذبة الرازي الراوي: ذكره الطبري في حوادث سنة 31 للهجرة. وهذا لا يمت بصلة ما إلى الأربعة الآخرين الآتي ذكرهم. الثاني - خرداذبة: جد أسرته الأعلى. وهو رجل فارسي من بلاد خراسان، كان في أول عهده مجوسياً، ثم أسلم على يد البرامكة. وهو أول من أسلم من أفراد أسرته. الثالث - أبو عبد الله ابن خرداذبة: وهو ابن لخرداذبة المتقدم ذكره. لم نقف على ما يستحق التدوين من أخباره. الرابع - عبد الله ابن خرداذبة ابن السابق ذكره. وهذا قام بفتوحات مهمة، وأسند إليه منصب كبير في عهد العباسيين، أعني به ولاية طبرستان. فقد روي الطبري، وتابعه في ذلك ابن الأثير، وأبو الفداء، في حوادث سنة 201 للهجرة، أن (في هذه السنة، افتتح عبد الله بن خرداذبة، وهو وآلي طبرستان، اللارز والشرز من بلاد الديلم، وزاهدما في بلاد الإسلام. وافتتح جبال طبرستان، وأنزل شهريار بن شروين عنها، فقال سلام الخاسر: إنما لنأمل فتح الروم والصين ... بمن أذل لنا من مُلك شروين فاشدد يديك لعبد الله إن له ... مع الأمانة رأيا غير موهون وأشخص مازيار بن قارن إلى المأمون، وأسر أبا ليلى ملك الديلم في غير عهد في هذه السنة). انتهى كلام الطبري وقد تعرض ابن كثير لهذه الحادثة دون أن يذكر ابن خرداذبه وهذا نص كلامه: (وفيها (سنة 201هـ) افتتح نائب طبرستان جبالها وبلاد اللارز والشيرز (كذا). وذكر ابن حزم أن سلماً الخاسر قال في ذلك شعراً. وقد ذكر ابن الجوزي وغيره أن سلماً توفي قبل ذلك بسنين. فالله أعلم) أهـ وقد أشار إليه الشابشتي بقوله: (فذكر عبد الله ابن خرداذبه، أنه حضر مجلس المأمون يوماً، وقد عرض عليه أحمد بن أبى خالد رقاعاً. . .) وذكره أبو الفرج الأصفهاني بما يلي: (أخبرني الحرمي قال: حدثنا الديناري قال: حدثنا إسحاق قال: قالت لي زهراء الكلابية: ما فعل عبد الله بن خرداذبه؟ فقلت: مات! فقالت: غير ذميم ولا لئيم. غفر الله لصداه لقد كان يحبك ويعجبه ما سرك. . .) الخامس - أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله بن خرداذبه. وهو الذي عليه مدار كلامنا في هذا البحث 4 - عبيد الله بن خرداذبه وهذا أشهر من ذكرنا من هؤلاء القوم، وأعظمهم مكانة، وأبقاهم اسماً. كان قد أنيط به منصب (صاحب البريد والخبر) بناحية الجبل بفارس. على أن ما زاد في شهرته وتخليد اسمه في التاريخ، هو المؤلفات التي صنفها، وسيأتي الكلام عليها في موطن آخر من هذا المقال وكان ابن خرداذبه قد نادم (المعتمد) خامس عشر الخلفاء العباسيين وخص به. وقد ساق المسعودي (المقالة الموسيقية) لابن خرداذبه، ومما جاء في ثناياها قوله: (وذكر عبيد الله بن خرداذبه أنه دخل عليه (على المعتمد) ذات يوم وفي المجلس عدة من ندمائه من ذوي العقول والمعرفة والحجى؟ فقال له: اخبرني من أول من اتخذ العود؟ قال ابن خرداذبه: قد قيل في ذلك يا أمير المؤمنين أقاويل كثيرة. الخ) إلى أن يقول: (قال المعتمد: قد قلت يخاطب (ابن خرداذبه) فاحسنت، ووصفت فأطنبت، وأقمت في هذا اليوم سوقا للغناء وعيدا لأنواع الملاهي. وإن كلامك لمثل الثوب الوشي، يجتمع فيه الأحمر والأصفر والأخضر وسائر الألوان. فما صفة المغني الحاذق؟ قال ابن خرداذبه: المغني الحاذق يا أمير المؤمنين. . . الخ) ويختم المسعودي الحكاية بقوله: (فهذه - يا أمير المؤمنين - جوامع في صفة الإيقاع ومنتهى حدوده. ففرح المعتمد في هذا اليوم وخلع على ابن خرداذبه وعلى من حضره من ندمائه، وفضله عليهم، وكان يوم لهو وسرور) (يتبع - بغداد) كوركيس عواد