مجلة الرسالة/العدد 454/حاجتنا إلى معهد أثنولوجي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 454/حاجتنا إلى معهد أثنولوجي

مجلة الرسالة - العدد 454
حاجتنا إلى معهد أثنولوجي
ملاحظات: بتاريخ: 16 - 03 - 1942



بجامعة فؤاد الأول

للأستاذ محمد جلال عبد الحميد

نعرض في هذه الكلمة الموجزة لضرورة العمل على إنشاء معهد ومتحف بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول يكون الغرض منهما دراسة الإنسان وجميع عناصر نشاطه المادي والروحي في المجتمعات البشرية المحدودة المدنية. وفي هذا المعهد يعني بوجه خاص بدراسة سكان حوض النيل واثر البيئة الجغرافية في حياتهم

وسنتكلم أولاً عن المقدمات والأسباب التي نشأت عنها فكرة وجود معهد الأثنولوجية وملحقاته، ثم ننتقل بعد ذلك للحديث عن الطرق والوسائل والخطوات التي يمكن اتباعها للوصول إلى تحقيق فكرة وجود هذا المعهد، مراعين في ذلك الحالات المادية والمستوى العلمي بمصر في الوقت الحاضر. وفي النهاية نعرض لبرنامج الدراسة فيه وجمع الأشياء وترتيبها بالمتحف

كيف بدأت البحوث الأتنولوجية بمصر

المؤسسات العلمية بمصر

إذا استثنينا بحوث (جيرارد) أحد أعضاء الحملة الفرنسية ووصفه الشامل لبعض نواحي الحياة المصرية، وألقينا نظرة عامة على تاريخ المؤسسات العلمية بمصر، ثم تصفحنا بحوثها الأتنوجرافية وقسنا مجهوداتها لنلمس ما قدمته من فوائد لعلم الاجتماع بوجه عام، ولإتنوجرافية حوض النيل بوجه خاص، وجدنا أن الجمعية الجغرافية الملكية هي أسبق لك المؤسسات إلى تحديد غايتها من حيث العمل على دراسة البيئة الجغرافية والاجتماعية بحوض النيل، إذ نقرأ في منهجها الموضوع عام 1918: أن (الجمعية ترغب بوجه خاص في توسيع وتهذيب البحوث الأتنولوجية):

وجاء في موضع آخر من هذا المنهج أن (البيئة الجغرافية لا تدرس إلا في الحالات التي تتأثر بها طرق حياة الإنسان): ' ' '

ولتحقيق تلك الغاية اتبعت الجمعية الجغرافية عدة طرق، منها القيام بعمل بحوث علمية على البيئات الجغرافية بحوض النيل والأمم والقبائل المنتشرة فوقه لتحديد مميزات تلك البيئات ومعرفة اختلاف تلك القبائل والأمم من حيث الجنس والعادات والتقاليد ونوع نشاطها المادي، وأن تتعهد الجمعية بنشر تلك البحوث وإلقاء المحاضرات التي تعالجها. يضاف إلى هذا أنها أنشأت متحفاً بدارها يضم كثيراً من أنواع الحرف والصناعات التي يمكن اعتبارها إلى حد ما من مميزات البيئة المصرية ممثلة في مدينة القاهرة. ولها أيضاً مكتبة غنية بما فيها من كتب ومراجع تاريخية وجغرافية عامة

ولو حاولنا أن نحصي نتائج البحوث العلمية التي قامت بها الجمعية منذ نشأتها إلى اليوم لظهر لنا أن قيمة هذه النتائج محدودة، وخصوصا إذا قيست هذه النتائج بما استنفد فيها من مجهودات في مدة خمس وسبعين تقريباً. إذ أننا لم نر لها بحثاً علمياً كاملاً في أية ناحية من نواحي الحياة المصرية، أو بما له اتصال مباشر بحوض النيل. هذا إذا استثنينا بعض المقالات والفصول التي تظهر بين وقت وآخر في مطبوعاتها؛ فهي أقرب إلى أن تكون إعلانات عن موضوعات يتناولها فيما بعد علماء مختصون يعنون بدراستها دراسة علمية منظمة. ولا تزال تجهل كثيراً من الظواهر الاجتماعية والدينية واللغوية بحوض النيل. ولا تزال تجهل أيضاً كيفية تعليل تلك الظواهر أوضاعها

وأما قسم المحاضرات بالجمعية الجغرافية فإنه لم ينهض لتحقيق الغرض الذي أنشئ من أجله، إذا لم يعمل على تنظيم إلقاء المحاضرات العلمية التي تتناول في مجملها دراسة أحد الموضوعات والمشكلات التي هي وليدة البيئة المصرية وغيرها

ولعل سبب هذا الجمود الملحوظ من جانب الجمعية الجغرافية الملكية يرجع إلى أنها هيئة لم تشرف عليها الحكومة إشرافاً فعلياً لتخصص لها العلماء وتنفق عليها الأموال اللازمة لتحقيق غرضها العلمي كما جاء في برنامجها السالف الذكر. وما دام هذا هو شان هذه الجمعية فلا يحق لنا أن نعول عليها كثيرا وأن نحملها ما لا طاقة لها به من العمل على درس وتحليل البيئات الجغرافية والاجتماعية المختلفة الموجودة بحوض النيل، مع بدل الجهود في جمع وترتيب ما اشتملت عليه العناصر المادية لتلك البيئات. فضلاً عما يطلب إليها من العمل على المساهمة في بناء علم الأتتولوجيا مع المؤسسات العلمية في البلاد الأجنبية

ثروة حوض النيل العلمية

حين يتجول المرء بحوض النيل من منبعه إلى مصبه، ومن شرقه إلى غربه، لا يكاد ينتقل من مكان إلى آخر دون أن يلحظ كثيراً من التشابه تارة، ومن التباين تارة أخرى، بين البيئات الجغرافية والاجتماعية المختلفة. فمن منطقة جبال وغابات وبحيرات في الجنوب، إلى منطقة تلال وصحار في الشمال. وكذلك نشاهد على ضفاف النيل وعلى روافده كثيراً من القبائل الزنجية عراة الأجسام مثل الأشولي والمادي والباري والشلوك والدنكا وغيرهم؛ وفي مناطق أخرى نجد قبائل أفرادها نصف عراة مثل الانجستا والبرتا والتعايشة وما إليهم؛ وفي شمال السودان ومصر نجد العرب والفلاحين وهم خليط من الدم السامي والزنجي وقليل من الدم الآري. ونلاحظ أن كل تلك الجماعات البشرية تختلف كثيراً فيما بينها من حيث التكوين الاجتماعي وعناصر التفكير والشعور واللغة وطرق الحياة؛ وأن من تلك الظواهر ما هو بسيط في تكوينه، ومنها ما هو كثير التعقد والتنوع؛ ولكل من هذه الأمم تاريخ قد يكون حديثاً فيرجع إلى مائة عام أو أقل، وقد يكون قديماً فيرجع إلى آلاف السنين

هذه هي حال الأمم والقبائل التي تسكن الآن حوض النيل. أما رجل ما قبل التاريخ والجماعات التي كونها والآثار التي خلفها فوق هذا الوادي فلا زلنا نجهل حقيقة أمرها. وإن بحوث جاك دي مرجان وهنري دي مرجان وفلندرز بتري وغيرهم تدلنا على أن من الممكن عمل دراسة وافية مقارنة لآثار ما قبل التاريخ بحوض النيل إذا تعددت البحوث وتوفرت الوثائق

من هنا يظهر جلياً ميزة الثروة العلمية الموجودة بحوض النيل، وأنها تفوق بكثير ما عداها من ثروات أوربا وآسيا واستراليا. فنرى مثلاً في أوربا نوعاً واحداً من المدنية هي المدنية الغربية الحالية، وفي استراليا نوعاً واحداً من المدنية كذلك وهي (المدنية المحدودة) وهكذا؛ ولكننا نشاهد بحوض النيل (مدنيات محدودة) عند الأشولي والمادي والأدك وغيرهم، ومدنيات متوسطة مثل مدنية شمال السودان وريف مصر، ومدنيات راقية مثل المدنية المصرية القديمة. ونشاهد أيضاً أن كثيراً من معالم تلك المدنيات لم تزل باقية على حالتها الأولى برغم ما طرأ عليها من عناصر مدنيات أجنبية مختلفة

وإذا عنينا بدراسة تلك المدنيات وأسرعنا في جمع معالمها وتحديد أوضاعها مناطقها تهيأت فرصة طيبة لعلم الاجتماع وعلم تاريخ الأديان والجغرافيا البشرية واللغات وغيرها من العلوم الاجتماعية الأخرى للاستفادة والاستزادة من الأدلة والبراهين في توضيح نظرياتها وتنميتها

تلك هي الفائدة العامة المرجوة من البحوث الأتنولوجية بحوض النيل؛ أما فائدتها لمصر والسودان فإنه يكون من السهل استخلاص العناصر الرئيسية لمدنية كل منهما مع معرفة اتصال تلك المدنيات ببعضها وأثر المدنيات الأخرى فيها، فضلاً عما يكون لتلك البحوث من أثر واضح في توجيه المصلحين الاجتماعيين والدينيين وغيرهم نحو الغاية المنشودة في جهادهم ونضالهم لرفع مستوى الشعب المادي والأدبي. وإذا تعينت أوضاع كل مدنية وحدودها بحوض النيل سهل على أبناء هذا الوادي أن يؤمنوا بحقيقة قوميتهم

(البقية في العدد القادم)

محمد جلال عبد الحميد