مجلة الرسالة/العدد 452/للحقيقة والتاريخ
مجلة الرسالة/العدد 452/للحقيقة والتاريخ
2 - بين آدم وحواء
للدكتور زكي مبارك
أرجع ثانيةً إلى الغرض من هذه الأحاديث فأقول:
كتاب شيث بن عربانوس يؤرخ عهد آدم في الجنة وعهده في الأرض، وكان ذلك لأن المؤلف قريب الزمن نسبياً من هذين العهدين؛ فقد ولد في العام الثاني بعد انحسار الطوفان، وإذا فهو أقدم نسلٍ حفظته الأرض بعد نجاة من نجا من قوم نوح، وأول عقلية علمية في ذلك العهد البعيد، إن صح إنه شخصية حقيقية من شخصيات التاريخ
ولكن ما قيمة هذا الكتاب؟ وما وزن حديثه عن آدم وحواء؟
عرضته على دار الكتب المصرية وعلى مكتبة وزارة المعارف وعلى مكتبة الجامعة المصرية فلم أجد من يعترف بقيمته التاريخية، وإن كان مكتوبا بالخط الكوفي. . . وهل كنت أجهل أن الطعن في صحته من الممكنات؟ إنما كان همي أن أنتفع بثمنه، وأن أمكن الجمهور من الاطلاع على ما فيه من مقاصد وأغراض، ولكن الأمل في الانتفاع بثمنه أمسى خيالاً في خيال، ولو ثبت إنه نسخة قديمة من نسخ الإنجيل، وهل زكتني سفارة غربية أو شرقية حتى أبيع من المخطوطات ما أشاء. . .؟ أنا مصري وآبائي مصريون، فكيف أنتفع من مصر باسم العلم والأدب والتاريخ؟
ألم تسمعوا حديث الأجنبي الذي استمصر في سنة 1937؟
كان أحد الأجانب يدرس إحدى اللغات الحية بالمدارس الأميرية وبالمرتب الذي يتقاضاه الأجانب من المدرسين، ثم لاحت له فرصة للتجنس بالجنسية المصرية، فأسرعت وزارة المعارف وردته إلى (الكادر) الذي تعامل به المدرسين من المصريين، كأنه انتقل من الهدى إلى الضلال؛ وكان الظن أن تراه انتقل من الخوف إلى الأمان!
وإذا كانت المتاعب تلاحق من يستمصر من الأجانب، فكيف تصنع بالمصري الأصيل؟!
إلى الله يشكو المصريون شقاءهم وعناءهم من التغاضي عن حقهم في الانتفاع بثمرات البلاد!
إلى الله نشكو الغربة في الوطن الغالي، ومنه نستمد العون على مكاره الزمان! ما لي ولهذه الخواطر المزعجات؟ وهل قلت المتاعب الجديدة حتى نؤزرها بمتاعب قديمة تأخذ وقودها من الذكريات؟
أرجع إلى الغرض مرة ثالثة فأقول:
قبل الشروع في تلخيص كتاب شيث بن عربانوس أسجل أني غير مطمئن إلى إنه ألف في العصر الذي تلا الطوفان - وما أقول بأن ذلك مستحيل - فقد يكون من الممكن أن ننظر إلى الطوفان من وجهة معنوية، فنعده مرحلة من مراحل الغفوات الروحية في الحياة الإنسانية، ونعد العصر الذي تلاه عصر يقظة ونهضة وإحياء، وعندئذ يصبح من السهل أن نفترض أن ذلك العصر يصلح لما صدر عن شيث بن عربانوس من أفكار وآراء
ولكن هنالك عقبة تمنع من ذلك الافتراض، وهي إجماع الكتب الدينية على أن الطوفان وقع بالفعل، وأنه لم يبق من السلالة الإنسانية إلا ما حفظته سفينة نوح. . . ومن الواضح أن تلك البقايا كانت في شغل بتدبير حياتها المعاشية؛ فمن العسير أن نتصور أنها عرفت التأليف والمؤلفين إلا أن توغلنا في شعاب الفروض!؟
يضاف إلى ذلك أن المصادر التي تحت أيدينا لم تتحدث عن شيث بن عربانوس؛ ولم نسمع أن اسمه ورد في كتب المستشرقين - وهم حجة فيما يتصل بمجاهل التاريخ في الشرق - وقد يعرفون منه ما يجهل الشرقيون!
فأين وجد زكي باشا ذلك الكتاب؟
كان في النية أن أوجه إليه هذا السؤال، ولكن المنية عاجلته فقضت بأن تطول الحيرة في مصدر ذلك السفر الغريب
وفي الحق أني غير مصدق لكتابٍ لغته العربية مع إنه ألف بعيد الطوفان
وهنا أذكر حادثةً في نهاية من الغرابة، ولكنها وقعت على مسمع من جمهور كبير في أروقة السوربون يوم أديت امتحان الدكتوراه في الخامس والعشرين من أبريل سنة 1931؛ فقد حاجني المسيو ماسينيون حجاجاً عنيفاً حين رآني أنكر أن تنشأ اللغات بالتوقيف. . . وإن عادت الدنيا إلى ما كانت عليه ورايت المسيو ماسينيون بعافية فسأراجعه في هذا الحجاج؛ فما يستطيع ذهني أن يبغ فكرة التوقيف؛ وإنما أعتقد أن اللغات ظاهرة إنسانية يصنع بها التطور ما يصنع على اختلاف الأجيال المهم أن أسجل أني مرتاب في كتاب شيث بن عربانوس، ولن أقبل نسبته إلى ذلك العهد البعيد، العهد الذي تلا الطوفان. وأين نحن من الطوفان وهو صورة حائرة لم يبق من ملامحها غير أطياف؟
فمتى ألف هذا الكتاب، إن صح ذلك الارتياب؟
إن لغته مزيج من القرشية والحميرية، فهل ألف قبل أن تصير لغة قريش لغة التخاطب والتأليف في أشتات الجزيرة العربية وفيما خضع لسلطانها الأدبي من الممالك الإسلامية؟
ألا يكون مؤلفه صنع ذلك عمداً على سبيل التضليل؟
الله وحده هو الذي يعلم ما مر بهذه الوثيقة التاريخية من تمحل واحتيال
المشكلة الأساسية
أترك الكلام عن صحة كتاب شيث، وأنتقل إلى تشريح ما فيه من معاني وأغراض فأقول:
يقع الفصل الأول في صفحات تصل إلى الخمسين، وفي هذا الفصل نقض للنظرية التي تقرر أن آدم استكان لحواء، فتركها تعصي الله كيف تشاء، فالمؤلف يقر أن آدم كان تعب من الإقامة في الجنة، وكان يتمنى لو استطاع أن يخرج منها بأي حال وعلى أي أسلوب ليتنسم روح الوجود، لا روح الخلود، فقد كان يعرف بفطرته أن الخلود إنما يأخذ صورته من الوجود
وثورة آدم على الجنة لها أصل: فقد كان يرى إنه لا يليق بالإنسان أن يأكل طعامه بلا جهاد. وكان يرى من الضمة والمهانة أن يترك المرء بلا متاعب ولا تجارب، وهو لم يخلق إلا للكفاح والنضال
وزاد في هم آدم أن حواء كانت في الجنة بلا ضرة، فلم تقهرها الغيرة على التسابق إلى مواقع هواه! بدليل إنها كانت تنساه أو تتناساه عاماً أو عامين، بلا تلهف ولا تشوف، لأنها تعلم إنه لن يكون لسواها من النساء، ولو أضمر من ضروب الخيانة ما يريد خياله الحبيس، وإلا فكيف جاز أن تقضي في الجنة أعواماً بلا تبرح ولا اختيال؟
وفي هذا المقام نقل شيث أبياتاً عزاها إلى آدم عليه السلام، وهي من النظم الركيك، فلا موجب لإثباتها في هذا التلخيص، ويكفي أن نشير إلى معناه لجودته وصدق مغزاه، وهو يقول بعبارة صريحة إن حواء لم تكن تفرق بين البلادة والعقل، ولم تكن تعرف أن التودد إلى الرجل والترامي عليه في رقة ودلال لا ينافي الأدب والحياء
كذلك قال آدم في رواية شيث. وعلى فرض أن الرواية صحيحة فآدم مخطئ - وأنا أريد آدم الرجل لا آدم الرسول - وإنما أخطأ لأنه تصور أن التلطف يجب أن يصدر أولاً عن المرأة والتلطف، هنا معناه الفتك وهو من جانب المرأة دلال، ومن جانب الرجل صيال
إذا كانت حواء أجرمت في ترك آدم عاماً أو عامين فآدم أجرم أيضاً بسكوته عن شكل تلك الظبية النفور بشكل من الحب العارم والوجد العصوف
وهنا تظهر مفاجأة من أغرب المفاجئآت، فشيث ينقل عن تأملات آدم خطوات تبدد ما وجهنا إليه من اعتراض
وسأنقل تلك الخطوات بعبارة سهلة تقربها من أذهان القراء بعض التقريب (لأنها في لغة شيث لا تخلو من غموض والتواء) ثم أنقدها برفق رعاية لمكان ذلك الجد الجليل
كان جلوس آدم على شط الكوثر من وقت إلى وقت يوحي إليه أفكاراً في غاية من الطرافة النسبية، لأنه أول إنسان شهد الوجود، على أرجح الفروض
كان يعرف أن الجنة في غاية من العرض والطول، بحيث تتسع لسكان الأرض والسموات فكيف جاز أن لا يكون فيها غير نهر واحد؟
كذلك قال آدم في رواية شيث، وهو قول خاطئ، فوحدة النهر في الجنة لها مغزًى جميل، لأنها ترد أهل الجنة إلى مزاجٍ متقارب في فهم الأشياء. وهل يختلف سكان الأرض إلا باختلاف الطعوم فيما يأكلون وما يشربون؟ لو اتحد مذاق الطعام والشراب بين جميع سكان الأرض لقل بينهم الخلاف. ألم تروا كيف تختلف الطبائع بين الحيوانات اللحمية والحيوانات النباتية؟
إن القط في صورة الأسد، ولكنه ليس في صولة الأسد، لأن معدته لا تأخذ من اللحم إلا عشر معشار ما تأخذه معدة الأسد؛ وهو يروع الكلب الضخم بأقل إشارة، لأن الكلب لغفلته قد يكتفي بالأطعمة المكونة من عناصر نباتية!
وما أقول بأن اللحم أفضل من النبات في جميع الأحوال، وإنما أقرر أن اختلاف الأغذية هو السبب في اختلاف الطبائع. وكذلك أقول في اختلاف الفصول، وهل كان اطراد الجو في الجنة على نسق واحد إلا بشيراً بما سيكون بين أهل الجنة من وفاق وصفاء؟ وكانت غيبة حواء عن آدم توحي إليه التفكير في منافع الأعضاء
كان يتأمل فيرى أن الله خلق للإنسان عينين وأذنين ولساناً واحداً فما سر ذلك؟
يجيب آدم - فيما روى عنه شيث - بأن الله أراد أن يكثر زاد الإنسان من المرئيات والمسموعات، ولا بأس بأن يقل نصيبه من المنطوقات، لأن الرؤية والسماع من ضروب الانتهاب، أما النطق فمن صنوف الإعطاء، والانتهاب هو الشاهد الأول والأخير على قوة الحيوية، أما الإعطاء فهو تسليم وانسحاب
وقد ابتسمت حين قرأت هذا الكلام، فعنه أخذ الشاعر الذي سجل أن المرء يقبض يده عند الولادة ويبسطها عند الموت، وإن جهل التعليل على وجهه الصحيح
وتحرير هذا المعنى أن المرء عند الولادة مقبل على الحياة، فهو يقبض يده ليشير إلى أن وظيفته هي الأخذ والنهب، وهو يبسط يده عند الموت ليشير إلى أن التبذير من صور الفناء
ثم يمضي آدم في تأملاته فيقول: كيف يقنع من رزق عينين باصرتين بوجهٍ واحد: هو وجه حواء؟ وكيف يقنع من رزق أذنين واعيتين بصوتٍ واحد: هو صوت حواء؟
ومن هذا التأمل العارم كان ضجر آدم من وحدته في الفردوس
ويظهر أن آدم كان وهب فكرة الاعتراض والجواب، فقد خطر له أن حواء لها أيضاً عينان وأذنان، وأن من حقها أن تفكر في مثل ما فكر فيه، إن أقيم للعدل ميزان
ثم يجيب آدم بأن تساوى الجوارح بين الرجل والمرأة ليس دليلاً على التساوي في المواهب ولا دليلاً على التساوي في الإحساس. ويبلغ غاية الشوط فيقرر أن المرأة كانت بعينين وأذنين لأنها أخذت من ضلع الرجل فهي من صوره الوجودية، أو هي الشكل الذي يرضيه أن تكون عليه ليتم بينهما الانسجام في حدود الإمكان
وأقول إن هذا الكلام هداني إلى كثير من المعاني:
فالحول يكثر في النساء ويقل في الرجال، ومعنى ذلك أن للذكر مثل حظ الأنثيين، حتى في القوة البصرية
وإذا وجد العور في إحدى السلالات فالطفلة ترثه قبل الطفل
وإذا كان أحد الأبوين غبياً دميماً وثانيهما ذكياً جميلاً فالغالب أن يرث المولود الذكر ما عند أبويه من الذكاء والجمال ويؤيد هذا أن الديك أجمل من الدجاجة، وأن الجواد أجمل من الفرس، وهذا الحكم مطرد في أكثر المخلوقات، وهو يظهر واضحاً في أشجار التوت، بغض النظر عن ظهوره في سائر الأشياء
وإذا صدقنا رؤية شيث عما كان بين آدم وحواء فلن يفوتنا أن نسجل أن آدم هو الذي نطق قبل أن تنطق حواء، وهل كان لتلك المرأة تاريخ في الجنة غير انصياعها لدسيسة الحية، وعن الأنثى تنقل الأنثى أصول الفساد؟
الظاهر أن للذكورة خصائص لا تصل إليها الأنوثة بأي حال. والظاهر أيضاً أن الرجال لن يزالوا بخير ما فطنوا لمكر النساء. وهل انخدع آدم بحيلة حواء أو حيلة الحية إلا في لحظة من لحظات الضعف؟!
وأستطرد قليلا فأقول:
وقع في هذه الأيام حادث فظيع، هو اصطدام أحد كبار الموظفين بسيارة يقودها أجنبي سكران، وعلق الموظف بمقدم السيارة، ومضى السائق ينهب الأرض لينجو من العقاب. وتنبهت لخطر الفادحة سيدة مثقفة، فمضت بسيارتها في ملاحقة ذلك الجاني الأثيم، ولكنها فوجئت بإشارة المرور فوقفت!!
وهنا الشاهد الذي أريد: فلو كان في سيارتها رجل لداس إشارة المرور في سبيل الواجب؛ ولم يترك ذلك الجاني الهارب بلا اقتناص أو افتراس
هي امرأة وإن نالت إجازة الحقوق، وطاعة إشارة المرور هي في نفسها الصورة الحرفية لطاعة الواجب، أما تشريح هذه الدقائق فهو من خصائص الرجال، والرجل هو الذي يدوس جميع الأنظمة في سبيل الإعزاز لما يؤمن بأنه حق
وجملة القول أن سخرية آدم من مواهب حواء لم تكن طغياناً في طغيان، وإنما اعتمدت على قواعد وأصول. ولم تقع من آدم إلا لأنه كان يستوحي الفطرة والطبع، ولو أن الجنة لعهده كان فيها مدارس وكليات لكان من المرجح أن يكون حديثه عن حواء مغلفا بالرياء!
ثم تجيء عقدة أغرب وأعجب، وهي تفكير آدم في مسألة النسل، وهي مسألة لم يفكر فيها آدم إلا بعد تأمله لما في الجنة من فصائل الطير والحيوان، ولم يكن فطن إلى إنها مسألة تلحق عالم النبات، وقد تمس عالم الجماد ومن كلام شيث نفهم أن تفكير آدم في مسألة النسل لم يصر من المعضلات النفسية، وإنما كان يعتاده من حين إلى حين، ثم ينصرف عنه بالاشتغال بمداعبة حواء، كأن يرميها بنواة من نوى الجوز، أو يقذف بها في (الكوثر) على حين غفلة، أو يدوس شعرها الذيال
والحق أن عقم آدم وحواء في الجنة يحتاج إلى تأويل
أليس من العجب أن يكون ما في الجنة خصباً في خصب ونماء في نماء، إلا فيما يتصل بآدم وحواء؟
كان الشجر والزهر والنبات والطير والحيوان، كان كل أولئك في حيوية مخصبة لا يعتريها ضعف ولا خمود؟ وكان ثرى الجنة ينبت الأفانين من الألوان في كل يوم: وكان هواؤها يتجدد في كل لحظة بأسلوب يدل على أن الهواء مخلوق له روح، وكانت أسماك الكوثر تجتمع وتفترق بأريحية ودلال. . . كان كل ما في الجنة على جانب من الذاتية، ولو كان من صغار الدواب والحشرات، أو ضعاف الذباب والبعوض، ولجميع الخلائق في الجنة مكان.
ازدهرت الجنة في أغلب مناحيها وأثمرت، وخص بالعقم آدم وحواء، فما هي الأسباب؟
لم يفكر شيث في عربانوس في تعليل هذه الظاهرة الغريبة. ونحاول تعليلها فنقول:
كان سبب ذلك العقم فيما نفترض أن حياة آدم وحواء في الجنة كانت حياة دعة وهدوء واطمئنان وأمان، وهذا اللون من الحياة يخمد الحيوية الجنسية والمعنوية، ويحول الرجل والمرأة إلى حيوانين جامدين لا يفكران في التسلح لدفع عوادي الوجود
والذي يقرأ ما أثر من الآداب الفطرية يلاحظ أن النسل لم يكن يبتغى للزينة، وإنما يبتغى للدفاع والحفاظ؛ ومن هنا كانت قلة النسل من خصائص الأمم التي يقل خوفها من العدوان أو تقل رغبتها في السيطرة والاستعلاء؛ ومن هنا أيضاً كان الناس يفضلون البنين على البنات، لأنهم لا يبتغون من الذرية غير القدرة على مكافحة الباغين والعادين من الخصوم والنظراء.
ولم يكن لآدم في الجنة نصيب من الخوف، فقد كان ينام حيث يريد بكل اطمئنان، وكان يتفق له أن يجعل صدر الأسد الرابض وسادة الرفيق، وقد طاب له مرة أن يطوق (حواء) بعقد مؤلف من أفراخ الثعابين.
ومع هذا لم يكن (آدم) يدرك ما في هذه المظاهر من غرابة وشذوذ، فما كان سمع ولا عرف أن في الوجود أشياء فيها إيذاء.
وأقول: إن ذلك الأمان الموصول هو الذي أخمد عواطف (آدم) وأغناه عن التسلح بالنسل، وحبب إليه طعم القرار والهدوء والخمود. وكذلك صنع الأمان (بحواء)، فغفت عواطفها الجنسية، واستنامت إلى العقم، وهو مرض لم تلتفت إليه إلا حين رأت إحدى الظبيات تباغم رشأها الوليد في بعض غياض الفردوس.
ويؤيد هذه النظرية أن (آدم) لم ينجب إلا حين هبط الأرض، فقد شعر بالخوف، وأدرك أن لابد له من أنصار وأعوان من الأبناء.
ومعنى ذلك أن الذرية ضرب من الفاعلية الحيوانية، وهي تصدر عن الرجل كما يصدر السم عن ناب الثعبان.
وفي هذا المقام نشرح ظاهرةً لم تشرح من قبل، وهي ما يلاحظ من قلة النسل عند العبقريين، فما التعليل الصحيح؟
يرجع السر إلى أن السلاح الماضي في يد الرجل العبقري هو مواهبه الذاتية، فهو يحارب بالفكر قبل أن يحارب بالنسل، وهواه لا يقف عند إخضاع الخصوم من الأهل والجيران، وإنما يمتد إلى إخضاع الألوف والملايين من سكان الشرق والغرب والشمال والجنوب.
والنسل الحسي عند الجاهل سلاح موقوت يخلقه الخوف؛ أما النسل المعنوي عند العالم، فهو سلاح موصول تخلقه الرغبة في السيطرة الدائمة على الأفكار والعقول.
ولهذا السبب كانت ذخائر الأمم من الذرية لا تصل عن طريق العبقريين، لأن هؤلاء لا يشعرون بالانفعال الحيواني شعوراً يكفي لأن تصدر عنهم الأنسال الكثيرة، وإنما يتجه انفعالهم إلى جانبٍ آخر هو الرغبة العاتية في غزو العالم عن طريق الفكر والبيان.
وهل فطن أحد إلى المعنى المطوي في قول كثير:
يُغاثُ الطير أكثرها فراخاً ... وأمّ الصقر مِقلاتٌ نَزُورُ
فما معنى ذلك؟ معناه أن أم الصقر لا تحتاج إلى حماية، فهي لا تكثر من الذرية. ومعناه أن ضعف البغاث يوحي إليها بالإكثار من الأفراخ لتقاوم خصومها بالقوة العددية في حدود ما تطيق.
والمشاهد أن المرأة الدميمة هي في الأغلب ولود، كما أن المرأة الجميلة هي في الأغلب عقيم، وكان ذلك لأن الدمامة تحتاج إلى حماية من الذرية؛ أما الجمال فهو في ذاته قوة وسلطان
وللملائكة في أذهان الناس صور مجردة من النسل، لأن الملائكة مؤيدون بقوة ربانية تغنيهم عن الاعتزاز بالأبناء
والله عز شأنه (لم يلد ولم يولد) لأنه منزه عن الضعف تنزيهاً خالياً من الشوائب، وهذا لا يمنع من أبوته الروحية لجميع ما في الوجود، إن صح التعبير بالأبوة في الدلالة على رفق الخالق بالمخلوق
وصفوة القول أن عقم آدم في الجنة له أصل، فقد كان أكرم من في الجنة، وكان المنطق يوجب أن يعيش بلا أسندة من الذرية بفضل غناه عن الكفاح والنضال
ولكن. . . ولكن الأقدار أرادت غير ما يريد، فنقلته من الجنة إلى الأرض، ليشعر بالخوف، وليحتاج إلى معاصم من الأبناء، وليذوق طعوماً من الأفراح والأحزان لم تكن تخطر له في بال
والواقع أن الله كان أراد بآدم أشياء، حين خلق له حواء، فقد شغلته عن التكبير والتسبيح والتهليل، وزينت له الثورة على ما في الجنة من أنظمة وقوانين
وشيث يحدثنا أن آدم كان صدره ضاق بالجنة بسبب ما لها من أسوار وجدران تجعل من المستحيل أن يسلم من تعقب حواء، وتفرض عليه التفكير في طلب النجاة ولو بالارتماء في أحضان الأرض، مع أن بين الجنة والأرض فراغاً لا يعبره الهابط إلا في أعوام أطول من أعمار الأشجان. وسنرى فيما بعد إنه لم يفق عند هبوط الأرض إلا بعد أزمان وأزمان
هل كان آدم سعيداً في الجنة؟
الظاهر إنه كان من السعداء، ولكن شيث بن عربانوس يحدثنا إنه طفح الدم في الجنة بسبب صحبة حواء. فكيف وقع ذلك البلاء؟!
وقع من عدم التكافؤ الروحي بين الرجل والمرأة، فهما مخلوقان مختلفان إلى أبعد حدود الاختلاف. وزاد في النفرة أن آدم كان يميل إلى طاعة الله. وأن حواء كانت تشتهي الخروج على طاعة الله. وتعليل ذلك سهل: فأسرع الناس إلى المخالفة عن أمر الحق هم الضعفاء
صبر آدم ما صبر إلى أن وقع (حديث السدرة)، وهو حديث سجله شيث بن عربانوس بأمانة ونزاهة وإخلاص. فما ذلك الحديث؟!
زكي مبارك