مجلة الرسالة/العدد 452/صفحة من كتاب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 452/صفحة من كتاب

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 03 - 1942



حنين

للأستاذ شكري فيصل

سكن الكون، فما في الكون إلا همسات. . . من حديث النجم أو بث المحبين الشكاة. . . ينفثون الآهة الحرى، ويلقون السهاد. . . وينادون محبيهم فهل يدري محبوهم نداءً؟. . . ويثور الدمع في أجفانهم فيضاً غزيراً. . . أترى يدرك ذلك الذين تطفر الدموع من أجلهم، وتتمتم الشفاه بالحنين إليهم، وينبض القلب بذكرهم المستطاب؟!

سكن الكون، فثارت وحدتي تتلوى. . . وتذكرت العهود الزاهرات النضر. . . وتراءت من أمامي صور من الماضي القريب. ويحها من صور! فتنهدت حزيناً أسفاً، وتمنيت لها منصرفاً؛ وذرفت الدمع هتاناً إذ وجدت في الدمع خفوت السورة، وبرودة الثورة، وبعض العزاء

. . . وصمت الليل، كأنما كان يعد على الناس أنفاسهم المتصاعدة. . . وقد أووا إلى فرشتهم الدافئة، يجدون فيها الهدوء، وينعمون فيها بالدفء. . . ويحسون أنهم يرتعون في أحضان الأبوة، وفي سماحة الأمومة، وفي جمال القرابة الدانية

ودقت الساعة الثانية عشرة، وانبعثت ضرباتها على صفحة الأفق الساكنة. . . كأنما كانت اثنتي عشرة قطرة من الماء تنصب على قطعة من الصفيح اللامع، فيكون لها بريق متلألئ كهذا الصدى الموغل في جوف الظلام البعيد

وامتد رواق الليل كما يمتد حنين إنسان غريب. . . يدثر الماضي ليجد فيه الذكرى، ويتطلع إلى المستقبل ليفسح فيه فرجة الأمل. . . كذلك كان رواق الليل، لا يحتجزه حد ولا يقهره سلطان، ولا يقف من دونه عائق. . . كما لا يحتجز الحنين سلوى ولا يقهره ضر، ولا تقف من دونه الدنيا بكل صورها وألوانها

إلا هذه النجوم. . . لقد كانت في منجاة ومأمن. . . لكأن عالمها الحلو، وشعاعاتها المتراقصة تكيد لليل وتتحداه. . . وكأنما هي في أنوارها الحنون تبعث في نفوس المحبين الولهى الأضواء الطروب. . .

سيظل هذا الحنين المتصل يهفو حول الأمل الناعم، ويغرد في حفافيه الندية. . . وينثر عليه الورود والرياحين كما تنثر دنيا النجوم من عالمها العلوي ذراتها اللامعة في أجنحة الليل السود

وسكن الكون. . . واستلقى الليل على صدر الدنيا. ونشر عليها أذياله وأردانه. . . كأنما كان يريد أن يكبت فيها الحركة، ويقتل فيها النشاط، ويقطع ما بينها وبين السماء. . . كان كالساعات اليائسة في حياة المحبين. . . مزهقة، مرهقة، ثقيلة الظل شديدة الوطأة، كأنما تحاول أن ترين فتحول بيننا وبين الرحمة. . . ولكن الرحمة القريبة لا تدع السبيل إلى اليأس، والحب القوي لا تقل منه المصاعب، والسماء الكريمة لا تقطع ما بينها وبين الناس. . . إنها تشق ثوب الليل الصفيق لتنبت النجوم النيرة على ظهره وفي أطرافه ومن بين يديه. . . كما تنبت الخزامى في الأرض القفر عطرة الطيب، شذية الروح. . . وأنها لتمزقه في كل جوانبه، وترقمه في كل ثناياه كما ترقم قطرات الماء سطح البحيرة الهادئ بدوائرها المترجرجات

هكذا الحنين. . . أيتها الكريمة الرءوم. . . كهذا الليل. . . تضحك على جوانبه المترعة بالأسى منى، وترق في ساعاته المريرة رؤى. . . وتنتثر في لياليه الكئيبة أحلام بيضاء كهذه النجوم.

واستغرق الكون في سكونه. وأحس الليل ما يقلى من عنت. لقد فرض سلطانه فتمزق. . . ومد رواقه فتخرق. . . ونشر جناحه البهيم فهاض النور جناحه البهيم. . . وغص بالحادثات. . . والنجوم من حواليه ترقص رقصة الظفر، وتنشد نشيد الحياة، وتهزأ هزأ المتحدي. . . وترسم شعاعاتها دعوة كريمة للفجر المستكن.

وارتمى يفكر. . . واستعرض تاريخه الطويل، وبكى مجده المندثر وساعاته الخاليات، وذكر كيف اكتسح الأفق المديد، وغطى الشمس المشرقة. . . ثم جاءت هذه النجوم الصغيرة تعبث به وتهزأ منه، فلم يملك أن بكى. . . وانثالت دمعاته على كل نبتة وفوق كل غصن. وكان بكاؤه هذا الندى الطري الذي اندفع بتلقي بسمة الصباح

. . . وهكذا تتراقص الأماني من حوالينا. . . أيتها الإنسانة الكريمة. . . وتنبثق شعاعاتها الناعمة تخط الفجر الذي نرنو إليه؛ وتنسق ألوانها الزاهية السبع لتنسج بردة الشمس، ولكنها تمضي في هدوء واتزان؛ فلن تمر بنا في كل مرحلة، ولن تقف بنا عند كل لون.

ولكنها ستفجؤنا هالة بيضاء نيرة؛ فهلا وفرت عليك بعض الجهد، وحفظت عليك بعض القوة، وكففت عن ارتقاب المشرق كما أرقب، والتحديق فيه كما أحدق؟!

ولكن لا عليك، لا عليك يا أماه؛ حدقي، وارقبي، إن نظراتنا كهذه النجوم ترقص رقصة الظفر، وتنشد نشيد الحياة، وترسم للقاء دعوة كريمة!

(القاهرة)

شكري فيصل