مجلة الرسالة/العدد 45/بديع الزمان الهمذاني

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 45/بديع الزمان الهمذاني

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 05 - 1934


6 - بديع الزمان الهمذاني

للدكتور عبد الوهاب عزام

ويلحق بالديوان شعره في الرسائل والمقامات وذلك في معظمه قطع قصيرة جيدة

ثم شعر البديع عامة سهل جيد المعاني منقح الألفاظ يتجلى فيه تهذيب الكتاب، إذا إستثنينا الشعر المرتجل وشعر الألغاز ونحوه مما لا يقام له في الأدب وزن، ولكنه لا يبلغ الدرجة العليا إلا قليلا.

وبديع الزمان عند نفسه وعند الناس كاتب يقول الشعر، ولكنه يرى أن البليغ من أجاد الصناعتين: يقول في المقامة الجاحظية: (أن الجاحظ في أحد شقي البلاغة يقطف. وفي الآخر يقف. والبليغ من لم يقصر نظمه عن نثره، ولم يذر كلامه بشعره، فهل تروون للجاحظ شعراً رائعاً؟

نثر الهمذاني

في القرن الرابع الهجري بلغت الكتابة العربية درجة من الصناعة والتأنق لم تخل بسلامتها ولم تذهب بمعانيها. تولاها كتاب قادرون صرفوها في أغراض شتى، واختاروا من الألفاظ والأساليب الجميل المحلى، دون إغرب ولا اخلال بالمعاني. وتناولت الكتابة كثيراً من فنون الشعر، كالمدح والهجاء والغزل والوصف: إلى ما كان لها قبلا من الموضوعات، فاتسع المجال لذوي الفكر الثاقب والقلب الشعار، لم يقيدهم في النثر ما قيد الشعراء من الأوزان والقوافي والاصطلاحات. وكان كثير من الكتاب يلتزم السجع، ومنهم من يكتفي بالازدواج، وقليل منهم يرسل الكلام إرسالا. وفي هذا العصر نبغ أئمة الكتابة كابن العميد والصاحب والصابي والمهلبي وقابوس، والخوارزمي، وبديع الزمان. ولم يكن بديع الزمان كمعظم هؤلاء وزيرا أو ذا منصب، فلم تستغرق كتابته أمور الدولة وكثرت في رسائله الموضوعات الخاصة والعامة. واستبانت نواح من عصره في السياسة والأخلاق، والآداب وغيرها

وله في الكتاب أصحاب المناصب رسالة إلى أبي نصر المرزبان يقول فيها: كنت أطال الله بقاء سيدي ومولاي في قديم الزمان اتمنى للكتاب الخير، وأسأل الله أن يدر عليهم إخلاف الرزق، ويمد لهم أكناف العيش، ويوطئهم أعراف لمجد، ويؤتيهم أصناف الفضل، ويرك أكتاف العز، وقصاراى أن أرغب إلى الله تعالى في ألا ينيلهم فوق الكفاية، ولا يمد لهم في حبل الرعاية، فشد ما يطغون للنعمة ينالونها، والدرجة يعلونها، وسرع ما ينظرون من عال، بما ينظمون من حال، ويجمعون من مال، وتنسيهم أيام اللدونة، أوقات الخشونة، وأزمان العذوبة، ساعات الصعوبة، وللكتاب مزية في هذا الباب، فبيناهم في العطلة إخوان، كما انتظم السمط، وفي العزلة أعوان، كما انفرج المشط، حتى لحظهم الجد لحظة حمقاء بمنشور عمالة، أو صك جعالة، فيعود عامر ودهم خرابا، وينقلب شراب عهدهم سرابا، فما علت أمورهم، حتى اسبلت ستورهم، ولا غلت قدورهم، إلا خلت بدورهم الخ

ويجمع نثر بديع الزمان الرسائل والمقامات:

1 - الرسائل

لبديع الزمان ثلاث وثلاثون ومائتا رسالة تناول فيها أغراضاً كثيرة.

والرجل دراك حساس، إذا سلط فكره إلى موضوع أضاءت له جوانبه كلها، ثم وضحت أمامه طرائق البيان، فهو مبين عن كل معنى بطرق مختلفة من التصوير والتمثيل، يسايره القاري فيها. وهو معجب متعجب. انظر قوله في بعض السلاطين: (قد علم الشيخ أن ذلك السلطان سماء إذا تغيم لم يرج صحوه، وبحر إذا تغير لم يشرب صفوه، وملك إذا سخط لم ينتظر عفوه، فليس بين رضاه والسخط عرجة، كما ليس بين عضبه والسيف فرجة، وليس بين من وراء سخطه مجاز، كما ليس بين الحياة والموت معه حجاز، فهو سيد يغضبه الجرم الخفي، ولا يرضيه العذر الجلي، وتكفيه الجناية وهي إرجاف، ثم لا تشفيه العقوبة وهي إجحاف، حتى إنه ليرى الذنب وهو أضيق من ظل الرمح، ويعمى عن العذر وهو أبين من عمود الصبح، وهو ذو اذنين يسمع بهذه القول وهو بهتان، ويحجب بهذا العذر وهو برهان، وذو يدين يبسط إحداهما إلى السفك والسفح، ويقبض الأخرى عن العفو والصفح، وذو عينين يفتح إحداهما إلى الجرم، ويغمض الأخرى عن الحلم، فمزجه بين القد والقطع، وجده بين السيف والنطع، ومراده بين الظهور والكمون، وأمره بين الكاف والنون، ثم لا يعرف من العقاب، غير ضرب الرقاب، ولا يهتدي من التأنيب، إلا لإزالة النعم، ولا يعلم من التأديب، غير إراقة الدم، ولا يحتمل الهنة على حجم الذرة، ودقة الشعرة، ولا يحلم عن الهفوة، كوزن الهبوة، ولا يغضي عن السقطة، كجرم النقطة، ثم أن النعم بين لفظه وقلمه، والأرض تحت يده وقدمه، لا يلقاه الولي إلا بفمه، ولا العدو إلا بدمه، والأرواح بين حبسه وإطلاقه، كما الأجسام بين حله ووثاقه، ونظرت فإذا أنا بين جودين: إما أن أجود بباسي، وإما أجود برأسي، وبين ركوبين: إما المفازة، وإما الجنازة، وبين طريقين: إما الغربة، وإما التربة، وبين فراقين: إما أن أفارق أرضي، أو أفارق عرضي، وبين راحلتين: إما ظهور الجمال، أو أعناق الرجال، فاخترت السماح بالوطن، على السماح بالبدن، وأنشدت؛

إذا لم يكن إلا الأسنة مركبا ... فلا رأي للمضطر إلا ركوبها

ويقول في رسالة كتبها إلى القاضي أبى القاسم يذم أحد القضاة (فولي المظالم وهو لا يعلم أسرارها، وحمل الأمانة وهو لا يعرف مقدارها، والأمانة عند الفاسق، خفيفة المحمل على العاتق، تشفق منها الجبال، وتحملها الجهال، وقعد مقعد رسول الله بين كتاب الله يتلى، وحديث رسوله يروى، وبين البينة والدعوى، فقبحه الله من حاكم لا شاهد أعدل عنده من السلة والجام، يدلى بهما إلى الحكام، ولا مزكي أصدق لديه من الصفر، ترقص على الظفر، ولا وثيقة احب إليه من غمزات الخصوم، على الكيس المختوم، ولا وكيل أوقع بوفاقه من خبيثة الذيل، وحمال الليل، ولا كفيل أعز عليه من المنديل والطبق، في وقتي الغسق والفلق، ولا حكومة ابغض إليه من حكومة المجلس، ولا خصومة أوحش لديه من خصومة المفلس، ثم الويل للفقير إذا ظلم، فما يغنيه موقف الحكم، إلا بالقتل من الظلم، ولا يجيره مجلس القضاء، إلا بالنار من الرمضاء، وأقسم لو أن اليتيم وقع في أنياب الأسود، بل الحيات السود، لكانت سلامته منهما أحسن من سلامته إذا وقع بين غيابات هذا القاضي وأقاربه، وما ظن القاضي بقوم يحملون الأمانة على متونهن ويأكلون النار في بطونهم، حتى تغلظ قصراتهم من مال اليتامى، وتسمن أكفالهم من مال الايامى، وما ظنك بدار عمارتها خراب الدور، وعطلة القدور، وخلاء البيوت، من الكسوة والقوت، وما قولك في رجل يعادي الله في الفلس، ويبيع الدين بالثمن البخس، وفي حاكم يبرز في ظاهر أهل السمت، وباطن أصحاب السبت، فعله الظلم البحت، وأكله الحرام السحت، وما رأيك في سوس لا يقع إلا في صوف الأيتام، وجراد لا يسقط إلا على الزرع الحرام، ولص لا ينقب إلا خزانة الاوقاف، وكردي لا يغير إلا على الضعاف، وذئب لا يفترس عباد الله لا بين الركوع والسجود، ومحارب لا ينهبت مال الله إلا بين العهود والشهود؟ وما زلت ابغض حال القضاة طبعاً وجبلة، حتى أبغضتهم ديناً وملة)

وكتب في كتاب لم يعجبه إنشاؤه وخطه: (الكتاب وصل، حجم هائل، ليس وراءه طائل، وخط مجنون، لا يدري ألف فيه من نون، وسطور، فيها شطور، دبيب السرطان، على الحيطان، ولفظ أخلاط، لا يدركه استنباط، ولا يفسره بقراط، هذيان المحموم، وهوس الملوم، وسوداء المهموم، وقرأت شطر كتاب لم أدر والله عماذا يعبر، عن أمور سقيمة، أو عن أحوال مستقيمة، لا جرم أني ظننت خيره، ولم أبعد غيره، وجوزت السلامة، ولم آمن ضدها، وذهبت مع الظن الجميل اتفاقاً، ثم ردعت القهقري إشفاقاً، فسألت الله لك المزيد إن كان سلامة والسلام)

وكتب إلى أحد أصدقائه يطلب بقرة:

(وقد احتيج في الدار إلى بقرة يحلب درها، فلتكن صغوفا تجمع بين قعبين في حلبه، كما تنظم بين دلوين في شربه، وليملأ العين وصفها، كما يملأ اليد خلفها، وليزن مشيها سعة الذرع، كما يزين درها سعة الضرع، ولتكن عوان السن، بين البكر والمسن، ولتكن طرح الفحل، رموح الرحل، وليصف لونها صفاء لبنها، وليكن ثمنها كفاء سمنها، ولتكن رخصة اللحم، جمة الشحم، كثيرة الطعم، سريعة الهضم، صافية كالجون، فاقعة اللون، واسعة البطن، وطية الظهر، ممتلئة الصهوة، فسيحة اللهوة، لا تضيق بطنها عن العلف، فيؤديها إلى التلف، ترد الهول ولا تخافه، وتشرب الرنق ولا تعافه، واجهد أن تكون كبيرة الخلق، لتكون في العين أهيب، ضيقة الحلق، ليكون صوتها في الأذن أطيب، وإحذر أن تكون نطوحا أو سلوحا، وإياك أن تبعثها ملوحا أو رشوحا، ولتكن مطاوعة عند الحلب لا تمنع نفسها، ولا تكثر لحسها، وداهية في الرعي، لأقرب سعى، حمقاء على الحوض كالنعجة، لا تأمن من البعجة، ألوفة للراعي الذي يرعاها، مجيبة لصوته إذا دعاها، مهتدية إلى المنزل بغير هاد، ذاهبة إلى المرعى بغير قياد، ولا أظنك تجدها اللهم إلا أن يمسخ القاضي بقرة، وهو على رأي التناسخ جائز، فاجهد جهدك، وأبذل ما عندك).

وهو أكتب ما يكون حين يعظ أو يهجو أو يسخر. وللفكاهة في بيانه مجال واسع به يقول في رسالة شفاعة: (مثلي أيد الله القاضي مثل رجل من أصحاب الجراب والمحراب، تقدم إلى القصاب، يسأله فلذة كبد، فسد باليسرى فاه، وأوجع بالأخرى قفاه. فلما رجع إلى مسكنه كتب إليه توقيعا، يطلب حملا رضيعا، كذلك أنا وردت فلا إكرام بإلمام، ولا صلة بسلام، ولا تعهد بغلام، فلما وجدته لا يبالي، بسبالي، كاتبته اشفع لسواي، وهو موصل رقعتي هذه، وله خصم بينهما قصة لا أسأله في البين، إلا إصلاح الجانبين، والسلام)

وله من رسالة إلى فقيه نيسابور في رجل اغتاب البديع، فرد عليه الفقيه: (فان كان لا بد من انتقام واستيفاء، فأعيذك بالله ان تجهل أن آذان الأنذال، في القذال، وهي آذان لا تسمع إلا من ألسنة النعال الأدم، أو ترجمة أكف الخدم، وعلامة فهمها جحوظ العينين، وخدر اليدين. فان تاب، وإلا كررت هذا العتاب).

وله إلى قيس بن زهير: (أعوز الصوف فبعثت إليك بفرو فطفقت تلوم، وظلت تقعد في العتاب وتقوم، واراني ما بعدت في القياس، ولا خرجت عن متعارف الناس، فالصوف نفس الفرو، إلا أنه نسيج، والصوف نفس الفرو إلا انه حيج، فكل فرو صوف، وليس كل صوف فروا، فان أنصفت وجدت الفرو فطرة، والصوف بدعة، وإن نظرت رأيت الفرو صوفا وزيادة، فكان نعمى وسعادة، والفرو وبر في الشتاء ونطع في الصيف، فان قرسك البرد فالبسه وأنت قيس، وان غشيك المطر فاقلبه وأنت تيس).

وبديع الزمان ليس متكلفا في بيانه، لا يحس القارئ جهد في اختيار الألفاظ أو سياق الأساليب، ولكنه يلتزم السجع في معظم كتابته سنة كتاب عصره.

وقد عاب الجاحظ في المقامة الجاحظية بقلة الصنعة في كلامه بعد أن عابه بأنه لا يحسن الشعر قال: (فهل ترون للجاحظ شعرا رائعا؟ قلنا لا. قال: فهلموا إلى كلامه فهو بعيد الإشارات، قليل الاستعارات، قري العبارات. منقاد العريان الكلام يستعمله، نفور من معتاصه يهمله، فهل سمعتم له لفظة مصنوعة، أو كلمة غير مسموعة؟)

ب - المقامات

يقول الهمذاني في رسالة يعيب فيها شعر الخوارزمي: (وما كنت لأكشف تلك الأسرار، وأهتك تلك الأستار، وأظهر منه العار والعوار، لولا ما بلغنا عنه من اعتراض علينا فيما أملينا، وتجهيز قدح علينا فيما روينا، من مقامات الإسكندري من قوله إنا لا نحسن سواها، وإنا نقف عند منتهاها، ولو أنصف هذا الفاضل لراض طبعه على خمس مقامات، أو عشر مفتريات، ثم عرضها على الأسماع والضمائر، وأهداها إلى الأبصار والبصائر، فإن كانت تقبلها ولا تزجها، أو تأخذها ولا تمجها، كان يعترض علينا بالقدح، وعلى إملائنا بالجرح، أو يقصر سعيه، ويتداركه وهنه فيعلم أن من أملى من مقامات الكدية أربعمائة مقامة لا مناسبة بين المقامتين، لا لفظا ولا معنى، وهو لا يقدر منها على عشر حقيق بكشف عيوبه والسلام)

ومثل ذلك في رسالة إلى أبي المظفر بن أبي الحسن البغوي ويقول الثعالبي (فوافاها (يعني نيسابور) في سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة ونشر بها بزه، وأظهر طرزه، وأملى أربعمائة مقامه نحلها أبا الفتح الإسكندري في الكدية وغيرها)

وكذلك يقول الحصري في زهر الآداب أنها أربعمائة مقامة. والذي بأيدينا من هذه المقامات اثنتان وخمسون. فهل ضاعت المقامات إلا هذا المقدار؟ ارجح أنه أملى في الكدية أربعين وحرفت الكلمة إلى اربعمائة، وتتتابع عليها النساخ. وذلك أنه يبعد أن يضيع هذا العدد من المقامات على كلف الناس بها، ولأنه في رواية الحصر عارض بالمقامات الأحاديث الأربعين لابن دريد. ثم هو يقول إنه أملى هذه المقامات في الكدية. ونحن إذا عددنا المقامات التي فيها كدية صريحة وجدناها خمسا وثلاثين. وجائز أن يكون البديع قد اعتبر خمسا أخرى من مقامات الكدية، فان صح هذا فقد أملى أربعين في نيسابور. ثم أملى الأخريات بعد كالمقامات الست التي فيها مدح خلف بن احمد.

يتبع

عبد الوهاب عزام