مجلة الرسالة/العدد 449/موقف العلم من الأديان اليوم وحماية المسلمين من

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 449/موقف العلم من الأديان اليوم وحماية المسلمين من

مجلة الرسالة - العدد 449
موقف العلم من الأديان اليوم وحماية المسلمين من
ملاحظات: بتاريخ: 09 - 02 - 1942


ضلالات المادية

للأستاذ محمد فريد وجدي

لقي رجال العلم الكوني من رجال الأديان - منذ ألفي سنة إلى القرن السابع عشر - ما يلقاه الخصوم من الخصوم، وبدل أن تتلطف حدة هذه الخصومة من ناحية المتغلبين - وهم حفظة الأديان - استحالت إلى وحشية جامحة؛ فكانوا إذا آنسوا من رجل نظراً فيما يتعلق بالوجود وقواه العاملة فيه - أو فيما يتعلق بعلل الظواهر الطبيعية - ألقوه حياً في النار، أو رموا به من حالق إلى مكان سحيق

فلما دالت للعلم الدولة بعد أدوار شتى من التطورات العقلية والاجتماعية في القرن السابع عشر، جعل حماته أكبر من همهم ليس الانتقام من رجال الدين فحسب، ولكن من الدين نفسه أيضاً، حتى لا تبق له دعوة في الأرض ينخدع بها بعض السذج فيجد بعض ذوي المطامع من يستغلونهم لسد نهمهم من المال والسلطان

اشتد العلم في إسقاط الدين، فوضع كثير من رجاله مؤلفات للتعديل على سذاجة عقائده الأساسية، وبينوا للناس أصولها من أوهام الجماعات الأولية وتداعي مبانيه حيال اليقينيات العلمية.

وأكثروا من الحط من كرامة الدين في كل فرصة سنحت لهم حتى لا تكاد تقرأ كتاباً علمياً لا تصادف فيه شيئاً من هذا التصدي. فأفضت هذه الحال إلى نفور مستعصٍ من الأديان في نفوس الطبقات التي تتلقى نصيباً من الثقافة المدرسية

ولكن لما كان من أخص صفات العلم التطور فقد اقتضت به الحوادث منذ تسعين سنة إلى البحث الجدي في عالم ما فوق الطبيعة، ولكن لا كما يفعله الفلاسفة باستخدام قوى العقل في التحسس منه، ولكن على أسلوب العلم نفسه من المشاهدة والتجربة

عقدة النزاع الأساسية بين الدين والعلم

هذه العقدة بين الدين والعلم أن الأول يقول بوجود عالم فوق الطبيعة يتنزل من جميع ما في الكون من كائنات مادية، وقوى عالمية، وهو الأصل الأصيل في وج المحسوس، ويبتني على هذا الأصل القول بوجود الخالق المدبر، والروح الإنسانية، والإلهامات الحيوانية، والإبداعات التكوينية، والوحي وخلود الإنسان في عالم الأرواح لمجردة، الخ الخ. والعلم ينكر كل ذلك، وبعده من الخيالات التصورية، ويقرر أن المادة قديمة، وإن كل ما صدر في عالمها حتي القوى العقلية، والروح الإنسانية، إنما صدر بواسطة النواميس الطبيعية، الملازمة للذرة المادية على سبيل التدريج والتطورات المتعاقبة

تورط العلم أخيراً في بحثه الجديد عن عالم ما فوق الطبيعة على أسلوبه المعروف من التجربة والتمحيص وبدا لألوف مؤلفة من رجاله بصيص من نوره فأثبتوا نتائج تجاربهم وحداناً وجماعات في مؤلفات ومحاضر، قال عنها فيلسوف أمريكا الكبير (وليم جيمس) أستاذ جامعة (هارفارد) بالولايات المتحدة في كتابه (إرادة بصفحة 313 من ترجمته الفرنسية

(إذا صدقنا الجرائد وأوهام الصالونات خيل لنا أن الضعف العقلي وسرعة التصديق هما الرباط المعنوي الجامع بين أعضاء هذه الجمعية (يريد جمعية المباحث النفسية الإنجليزية)، وأن حب العجائب هو العامل المحرك لها، ومع هذا فيكفي أن تلقي نظرة واحدة على أعضائها لدحض هذه التهمة؛ فإن رئيس هذه الجمعية هو الأستاذ (سدجوك) المعروف بأنه أشد الناس شكيمة في النقد، وأعصاهم قياداً في الشك في جميع البلاد الإنجليزية، ووكيلاها المستر أرثر بلفور (أحد رؤساء الوزارات الإنجليزية وعالم مشهور)، والأستاذ ج ب لنجلي. ويمكن التنويه من أعضائها العاملين بالأستاذ ريشية الفيزيولوجي المشهور، وتشمل قائمة أعضائها رجالاً كثيرين آخرين كفاءتهم العلمية أشهر من أن تذكر. فإذا طلب إلى أن أعين جريدة علمية تكون مصادر أغلاطها ممحصة بأدق الأساليب، فإني أنوه بمحاضر جمعية المباحث النفسية، فإن الفصول الفيزيولوجية التي تنشرها الجرائد الخاصة بهذا العلم، لا تبلغ في دقة النقد هذه المحاضر المذكورة) اهـ

لما حدث هذا التطور العلمي الخطير، مال رجال من كبار العلماء إلى النظر في النتائج التي تؤيد الدين منها، وما زالت عقدة النزاع بين العلم والدين هي وجود أو عدم وجود العالم الروحاني، فإن هذه العقدة تحل إذا ثبت صحة وجود هذا العالم بدليل محسوس. قال العلامة (هـ. و. بيرس) المدرس بجامعة كمبردج في كتابه (الشخصية الإنسانية) في صفحة 11 منه من ترجمته الفرنسية:

(حوالي سنة 1873 حيث كان المذهب المادي بالغاً أوج سطوته على العقول، اجتمع ثلة من الأصحاب في كمبردج وأجمعوا على أن هذه المسألة المتنازع فيها (يريد مسألة عالم ما فوق الطبيعة) تستحق التفاتاً وجهداً جدياً أكثر مما عولجت بهما إلى ذلك الحين. . . وكنت مقتنعاً بأنه لو أمكنت معرفة شيء من ذلك العالم على أسلوب يمكن أن يقبله العلم ويحفظه، فلا يكون ذلك بالتنقيب في الأساطير القديمة، ولا بوسيلة التأمل فيما فوق الطبيعة، ولكن بواسطة التجربة والمشاهدة، وبتطبيقنا على الظواهر التي تحدث بيننا وحولنا أساليب المباحث المضبوطة المنزهة عن الأغراض، التي نحن مدينون لها بمعارفنا عن العالم المرئي المحسوس. ومباحثنا في هذا السبيل يجب أن تكون مؤسسة على هذه القضية وهي: (إذا كان يوجد عالم روحاني، وكان قابلاً لأن يدل على وجوده في أي معهد كان، فيجب أن يكون كذلك في أيامنا هذه)

(فمن هذه الناحية، وبالأحرى على هذه الاعتبارات واجهت الجمعية التي أنا عضو منها هذه المسألة) اهـ

وقد مضت بعد هذا القول عشرات السنين وحدثت فيها بحوث عملية دونت في مئات من الكتب والرسائل، تبين منها أن العلم حيال حقيقة ثابتة مؤيدة بالدليل المحسوس الذي لا يمكن التماري فيه حتى قال العلامة الفلكي الكبير (كاميل فلاريون) في كتابه القوي (الطبيعة المجهولة).

(إني كلما أفكر في هذا الأمر أدهش من أن دهماء الناس لا يزالون يجهلون هذه المسائل كل الجهل، على حين أنه قد عرفها ودرسها وقدرها حق تقديرها وسجلها منذ سنين، جميع الذين تتبعوا حركتها بكل نزاهة في مدى هذا العهد الأخير

وقال: (إن المشاهدات الحسية تثبت وجود عالم روحاني محقق كتحقق العالم المادي المدرك بحواسنا الخمس)

نقول وقد قررت جامعات أمريكية دراسة هذا البحث، وجعلت له أخيراً جامعتا كمبردج وأكسفورد مقعدين رسميين له

كيف تحمي المسلمين من ضلالات المذهب المادي؟ اتصل المسلمون بالعالم العلمي منذ أكثر من قرن، وظل رجال الدين وطلابه في عزلة عنه فلم يصبهم من ظلمات النظريات المادية شيء، ولكن حركة التطور العامة دفعت بهم إلى الاتصال به من سائر طبقات الشعب، تقريباً للثقافات الدينية من الثقافات العامة تفادياً من حدوث تناف بينهما، فتصبح الأمة فريقين متنافرين

والإسلام متين يقوم وجوده وتقوم دعوته على العلم: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟)

وقد صافى الإسلام من وجوده العلم، وسمح لأهله أن يندفعوا في تياره، وأن يستفيدوا منه ويشيدوا مجتمعهم عليه، فكان أنبل مجتمع ظهر على سطح الأرض، وكانت له دولة لا تغرب عن أقطارها الشمس، فأقال عثرات الإنسانية، وداوى كلومها، وكشف ظلماتها؛ ولم تعرف في تاريخ الإنسانية أمة قامت بالدين معتمدة على العلم غير الأمة الإسلامية

ولكن العلم الذي كان يدرس في مدارس المسلمين اليوم، قائم على الأصول المادية البحتة للقرن التاسع عشر، ولممثليها من أهل القرن العشرين؛ فتجد كتبها التي بين يدي الطلبة لا تزال تردد لهم النظريات الرثة العتيقة التي تخيلها ديموكريت اليوناني منذ أكثر من ألفين وثلاثمائة سنة وهي: (أن المادة لا تفنى ولا تتجدد)، على حين أن علم القرن العشرين قد توصل إلى إفناء المادة وإحالتها إلى قوة، بذلك المادة لم تكن ثم كانت

هذه المعرفة لها قيمة عظيمة في الدراسات الدينية، لأن القول بعدم تجدد المادة وفنائها يؤدي إلى القول بقدم العالم المادي، وهو أساس المذهب المادي وحصنه الحصين

وفي هذه المدارس الدينية تدرس الفلسفة ويقرر للطلاب فيها أن الرأي المادي هو الذي ساد جميع الآراء، وأن السلطان انتهى إليه، وهو آخر طور من أطوار التفكير البشري، وما هو في الواقع إلا مرمى المادية قبل التطور العلمي الأخير

وتدرس البسيكولوجيا (علم النفس)، وكتبها المدرسية موضوعة على أسلوب الفلسفة المادية، فيضطر طلبة الذين أن يقرءوا فيها: أن ليس للإنسان روح مستقلة عن الجسمان، وليس له ضمير فطري يرجع إلى عالم علوي، وأن كل ما فيه من شعور بالحسن والقبح، وبالفضيلة والرذيلة، وبالخير والشر، أمور اعتبارية لا أصل لها في وجود أرفع من هذا الوجود؛ وأن الغرائز الأدبية ليست متنزلة من روح علوية، ولكنها عادات أوجدتها مصلحة الاجتماع، فرسخت في الشخصية الإنسانية واعتبرت من الخصائص الروحية، وليست من الروح المزعومة في شيء

ويدرس لهم تاريخ الأديان ولحمته وسداه: أن الدين على ما هو عليه في هذه العصور المتأخرة التهذب، صادر من الدين الأولي الساذج الذي تخيله أهل القرون الأولى، وليس هو بوحي، لأن الوحي لا وجود له

ثم يقرءون فيها: أن الباعث الصحيح عليه أهواء النفوس، وجهالتها بالعلل الطبيعية، وهلعها من الجوانح الكونية، فتألبت كل هذه العوامل على إحلال الدين في سويداوات القلوب بواسطة الوراثات الطويلة المدى، حتى أصبح هو والحياة عند الفرد والجماعة في مستوى واحد

فما ترجى أن تكون هذه المجموعة من الدروس، غير دعايات للإلحاد في حرم الدين، لم يظفر بمثلها المذهب المادي في أية بيئة من بيئات العالم، وفي العهد الذي أثبت فيه العلم، جرياً على أسلوبه كما قدمنا، وجود العالم الروحاني وقام فيه أقطابه بنقد كل ما أورده المذهب المادي من الشبهات عليه، سعياً منهم لتوحيد غاية الدين المطلق وغاية العلم على حال من الوفاق كانت أمنية دعاة المدنية الفاضلة

الوسيلة المثلى لدرء هذا الخطر أن تخضع هذه الدروس في المدارس الإسلامية الدينية لمراقبة دقيقة، وأن تلقي مواردها متبوعة بالنقد الذي وجه ضدها من علماء القرن العشرين، والتعديل الذي أدخل عليها بواسطتهم؛ مع مراعاة أن يكون النقد ماحقاً لشبهاتها بأدلة ساطعة لا بكلمات جوفاء تزيدها تسلطاً على العقول

هذا خير ما أهديه لقراء (الرسالة) في مفتتح السنة الجديدة، ولهم مني معها أطيب تحية.

محمد فريد وجدي