مجلة الرسالة/العدد 449/ساعة في ظلال الجنة
مجلة الرسالة/العدد 449/ساعة في ظلال الجنة
للأستاذ عبد الله عفيفي بك
الطريق من جدة إلى مكة غاص مزدحم، يتدفق بالركب العظيم والركب أروع ركب وأحفله، وأشده إثارة للقلب والعاطفة والخاطر والخيال. فيه الركبان من كل لون، وفيه المشاة من كل قبيل.
وفيه العابدون السائحون الذين صدروا عن أهلهم وأوطانهم منذ بضع سنين مشاة يستبقون إلى الله في بيته الكريم. وفي هؤلاء من ساروا يحملون أثقالهم وأحمالهم والشيوخ المستضعفين الذين لا يطيقون المشي من الرجال والنساء، وفيهم الوالدات يحملن أطفالهن وراء ظهورهن ويرفعن فوق رءوسهن أزواد الركب الكبير. وقد انتشر هذا الخلق الحاشد على الوادي الممدود بين الجبال المتناوحة في قوة وعزيمة وفي صمت وجلال. بينما الشمس تؤذن بالثواء، والليل من ورائها ينشر رواقه على الصحراء الإلهية الآخذة بمجامع القلوب
(لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، أن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) هذا هو النشيد السماوي الذي كان ينبعث من أعماق القلوب فتخشع له السموات والأرض والجبال، وتتحطم في جنباته كل نفس عاتية وكل قلب حديد
وسارت السيارة بي وبرفاقي متئدة متمهلة في جلال هذا الحشد العالمي الذي تغيب في جلجلته ضجة الجيش القاهر، وتخفت لعظمته قعقعة السلاح العتيد
جاوزنا الركب العظيم وأنا في غاشية وجدانية ملكت علي الطريق. أبعد ساعة أو بعض ساعة أكون في البيت الحرام، وحول الكعبة التي تشخص إليها وجوه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأقف بين مقام إبراهيم وحجر إسماعيل؟
وأخيراً انتهى الوادي، وانفرجت الجبال، وتراءت لنا عن بعد أنوار مكة
الله أكبر! لبيك اللهم لبيك! سبحانك يا من سبحت له السموات والأرض وما فيهن! تعاليت يا رب الأرباب! أهذه النسمات كان يشمها رسول الله. وهذه الأرض كانت تطؤها قدماه!
وسارت السيارة في أحياء مكة حتى انتهت إلى ما بين عتيقين في أقصى الطريق فوقفت، وقال السائق هذا هو البيت الحرام! نزلت وأنا ثابت، لا أستطيع الحركة، وأبصرت فإذ الكعبة تلوح عن بعد، والمؤمنون يطوفون من حولها، فأحسست بأن هذا المشهد من مشاهد السماء. . .!
دخلت البيت وكأنني روح من الأرواح تجرد عن هذه الدنيا وألقى وراء ظهره أحمالها وآمالها وآلامها وصار لا يشعر إلا أنه في ظلال الجنة
أنا الآن ذاهل اللب، مخطوف القلب، منهل العينين، أهتف بالتلبية، وأنشج بالبكاء وعلى الكعبة جلال من جلال الله، وجمال من جمال الفردوس، وروح من أرواح العرش، لا يراه الراءون إلا خفوا هياماً به، وحنيناً إليه. وأقسم لقد طفت في الكعبة طواف القدوم وقبلت الحجر الأسود، ووردت ماء زمزم، وشربت منها عللاً بعد نهل، وأنا لا أدري إلا أنني في جلوة سماوية، أو حلم بديع.
خرجت وقد تعلق قلبي بالكعبة، فلا أطيق الصبر عنها، وعدت إليها في السحر، وسمعت أذان الفجر، وأقيمت الصلاة.
فوقف الناس صفوفاً حول الكعبة، واستمعوا القرآن الكريم من إمام عذب الصوت، جميل الترتيل؛ وما أسماه موقفاً، وما أطيبها متعة، وما أخلدها لحظات!
وابتسم النهار ونحن جلوس بجانب المقام، وللكعبة بهاء أكثر إشراقاً من بهاء النهار.
هي قوة روحية من قوى الله، تلك التي يفيضها رب البيت على الوافدين إلى البيت.
آمنت بأن هذا البناء المشرف العظيم هو الذي بث روح الإيمان ونور اليقين في نفوس المؤمنين، حتى شقوا الطريق بهذا الدين إلى أرجاء العالمين.
وتمثلت في هذا الموقف رسول الله ﷺ وهو في طريق هجرته إلى المدينة، وقد وقف على ظهر ناقته واستشرف لعله يرى معالم مكة، ثم ناجاها بقوله الكريم: (إني لأعلم أنك أحب البلاد إلي، وأنك أحب أرض الله إلى الله، ولولا أن المشركين أخرجوني منك ما خرجت).
هكذا أقمت في مكة وفي منى وعرفات والمشعر الحرام ثمانية أيام، وعدت إلى الكعبة وأنا أشم منها روح الجنة، وأرى فيها بهاء السماء.
اللهم أعدني إلى مكة، فإني أجد الشوق شديداً، وما زال العهد غير بعيد
عبد الله عفيفي