مجلة الرسالة/العدد 448/أدب الطف
مجلة الرسالة/العدد 448/أدب الطف
عامل من عوامل نمو الشعر في العراق
للأستاذ عبد الكريم الدجيلي
كتب الدكتور زكي مبارك في أعداد سالفة من (الرسالة) عن (الأدب العربي الحديث في العراق)، ولا أريد بكلمتي هذه أن أناقشه فيما كتب، إذ أن وقت المناقشة قد بَعُد وتقادم، على أني معجب شديد الإعجاب ببعض ما كتب.
وقد كنت معتقداً بأنه سيكتب عن الشعر الذي رُثى به الحسين بن علي بن أبي طالب، فيكشف لقراء (الرسالة) صفحة مندثرة من الأدب العربي، ومنجماً مليئاً بغرر الشعر وأطايبه، فيُسجل له فضل الأسبقية في هذا الموضوع بعد أن زودته وزارة المعارف العراقية بأغلب الدواوين المطبوعة لشعراء العراق، وأغلبها ملآن بما رُثِيَ به الحسين، فعبدت له الوزارة بعض الطريق. على أن الرجل قد أشار إلى هذا الموضوع من طرف بعيد قد يخفى على كثير من القراء - وعلى الأخص أدباء الأمة المصرية - إذ أن سمعهم لم يطرقه هذا اللون من الأدب العربي إلا النادر منهم.
وكان الأجدر بالدكتور أن يقف عند هذا الموضوع ولو قليلاً، أو يَعِد القراء بالرجوع إليه، لأن رثاء الحسين، أو (أدب الطف) يعد (عاملاً من عوامل نمو الشعر في العراق). ولعل كلمتي هذه تحفز الدكتور إلى الكتابة في (أدب الطف)، والمراجع لديه كثيرة، والوقت يناسب الكتابة في هذا الموضوع، قبل أن ينقضي شهر محرم الحرام الذي قُتِل فيه الحسين بن علي بن أبي طالب. فالمناسبة إذن تشجع الكاتب على كشف هذا المنهل العذب الصافي من الأدب العربي لكل من تعنيه الدراسات الأدبية والاتجاهات الفكرية. على أن السبب الأول لكتابة هذا المقال، هو نفس السبب الذي دعاني أن أدعو الدكتور أن يكتب فيه.
ذكر الدكتور في المقال الذي كتبه عن (الأدب العربي الحديث في العراق) أن الخصومات الدينية، والخلافات المذهبية بين الشيعة والسنة، قد عادت بالنفع والخير على الأدب والبيان في العراق. وهذا حق لا جدال فيه، فقد يكون بعض الخلاف خيراً وبركة من جهة، ونقمة وبلاء من جهة أخرى. ولو تصفحنا أدوار الأدب العربي من فجرها إلى يومنا هذا، لرأينا أجود ما فيه كان السبب في وجوده الخلاف: فقصيدة عمروا بن كلثوم، والاعتذار الذي صاغه الذبياني في قصيدته الخالدة، وكثير من شعر حسان، وخطب علي ومعاوية، والمراسلات التي كانت من جراء هذا الخلاف، وشعر جرير والفرزدق والأخطل ومن شايعهم، وخطب عيسى بن علي والسفاح والمنصور؛ ثم الغالب من شعر المتنبي الذي يبرق فيه ويرعد، والرسالتان الجدية والهزلية لابن زيدون، والقصيدة السينية - ما على ظني يأس - كل هذا الإنتاج العقلي وألوف من أمثاله كان السبب المباشر في وجوده هو الخلاف (السعيد) - على حد تعبير الدكتور. وأنا وإن كنت لا أحب أن أذكر، حتى اسم الخلاف الذي يقع بين المسلمين ما دام المنهل واحداً - خصوصاً في بلد كالعراق لا يستغني فيه أحد الفريقين عن الآخر، فإني سأطرقه من ناحيته الأدبية لا غير.
تقام الاحتفالات التأبينية في العراق - وعلى الأخص في نواحيه الجنوبية - وتعقد النوادي فيه تأبيناً للحسين بن علي بن أبي طالب في كل أيام السنة، أما إذا هلَّ شهر المحرم، فإن الأشغال تكاد تعطل، والحوانيت تكاد تقفل طيلة شهري محرم وصفر، فتعقد مئات النوادي لذكرى قتيل الطف.
فإذ كان الأدب العربي يفخر بسوق عكاظ لأنها كانت السبب في رفع مستواه، وكانت السبب في احترامه وتعاليه؛ فإن الأدب العربي مدين كل الدين لهذه النوادي التأبينية، إذ أنها خير مدرسة وخير عامل لنمو الشعر في العراق. فالشاعر الذي تنشد قصيدته على رؤوس الأشهاد وتستحسن يستمر بحكم الضرورة على قرض الشعر حتى يستمر هذا الإعجاب والتقدير.
ثم هناك حافز آخر لخلق الشاعر في هذه الناحية ألا وهو الحافز الديني، فقد وردت أحاديث كثيرة، وأخبار مستفيضة تهب الثواب والجزاء لمن قال الشعر في آل محمد ولو بيتاً واحداً. ومهما كان نصيب هذه الأحاديث والروايات من الصحة فإنها كانت سبباً قوياً وباعثاً لخلق ألوف من الشعراء لا أظن أدبياً أو متأدباً ينضج ويكتمل ما لم يطلع على هذه الناحية من الشعر.
ومن الغريب أن أدباء الأمة العربية لم يعرفوا عن هذا المنجم الأدبي الضخم ولم يسبروا فيه من غور وعمق. ولو أنهم فعلوا ذلك لظهر لهم من شعر الطف ما يغذي العاطفة ويربي الذوق، ولأضيفت إلى الأدب العربي صفحة مليئة بنفائس الشعر الجيد الممتاز، ولفتحت أمام حملة الأقلام والقوامين على سير الأدب العربي أبواب فيها من الشعر ما هو قمين بكل تقدير.
وإذا كانت الخصومات الدينية، والخلافات المذهبية في العراق هي السبب في حفظ كيان الأدب والبيان ولولاها لذهبت به تلك الأعاصير الهوج التي مرت عليه طيلة سنين عدة. فإن نفس تلك الخصومات كانت السبب الوحيد في انزواء هذه التحف الفنية والنوادر الأدبية.
ولعلي أوافي قراء الرسالة متى سنحت الفرصة عن بعض هؤلاء الشعراء الذين وقفوا أكثر حياتهم الأدبية على هذه الناحية من الشعر فأكون قد قمت بواجب الأدب والتأريخ معاً.
وإليك أبياتاً مقتطفة من قصيدة طويلة للسيد حيدر الحلي يرثى بها الحسين:
أيها الراغب في تغليسة ... بأمون قط لم تشك الكلالا
أقتعدها وأقم من صدرها ... حيث وفدُ البيت يلقون الرحالا
واحتقبها عن لساني نفثة ... ضَرماً حوَّله الغيظ مقالا
فإذا أنديةُ الحيِّ بَدَتْ ... تشعر الهيبة حشداً واحتفالا
قف على البطحاء واهتف ببني ... شيبة الحمد وقل قوموا عجالا
كم رضاع الضيم! لا شب لكم ... ناشئ أو تجعلوا الموت فصالا
كم وقوف الخيل لا كم نسيت ... علكها اللجم ومجراها رعالا
كم قرار البيض في الغمد أما ... آن أن تهتز للضرب انسلالا
قوّموها أسلا خطية ... كقدود الغيد ليناً واعتدالا
وللحاج هاشم الكعبي من قصيدة مطولة في هذا الموضوع:
فوارس اتخذوا سمر القنا سَمَرا ... فكلما سجعت ورق الغنا طربوا
يستعذبون الردى شوقاً لغايته ... كأنما الضرب في أفواههم ضَرَب
حتى إذا سئموا دار البلى وبدت ... لهم عياناً هناك الخرّد العرُب
فغودروا في العرا صرعى تلفهم ... مطارف من أنابيب القنا قشب
وأفلتت زمر الأعداء ترفل والأح ... قاد تسعر والأحشاء تضطرب
جلا لها ابن جلا عضب الشبا ذكرا ... لا يعرف الصفح إذ يسنله الغضب تأتي على الحَلَق الماذيِّ ضربته ... ولا يقيم عليها البَيض واليلب
وللحاج كاظم الأزري مرثية من غرر الشعر تقتطف منها ما يلي
وضربة تتجلى من صوارمه ... كالشمس طالعة من جانبي نهر
كأن كل دلاص منهم بَرَد ... يرمى بجمر من الهندي مستعر
إذا انتضى بردة التشكيل تحسبه ... لاهوت قدس تردى هيكل البشر
صالوا وصلتَ ولكن أين منك همو ... النقش في الرمل غير النقش في الحجر
ما أنصفتك الضيا يا شمس دارتها ... إذ قابلتك بوجه غير مستتر
ولا رعتك القنا يا ليث غابتها ... إن لم تذب لحياء منك أو حذر
قد كنت في مشرق الدنيا ومغربها ... كالحمد لم تغن عنها سائر السور
أترى أن مثل هذا الشعر المتسامي في سبله ومتانته وجودة تراكيبه لا يعرف عنه أدباء الأمة العربية وبخاصة أدباء وادي النيل الذين منحهم الله الإحساس الأدبي والشعور الفني لمثل هذه القطع الأدبية والأساليب العربية التي تتجلى بهذا الشعر! وإذا كان هناك لوم يوجه إلى زمرة من الأدباء لأنهم أهملوا هذه الناحية الأدبية من الشعر.
فإلى أدباء العراق وحملة الأقلام فيه إذ أن الواجب الأدبي يحتم عليهم أن يعنوا بنشر أمثال هذا الشعر.
ولقد أذكر أنني قرأت كثيراً من هذا الشعر على نخبة من أدباء الأمة المصرية مثل الأستاذ هاشم عطية والأستاذ السباعي بيومي. ومما أذكره أن الأستاذ هاشم عطية قال لي بعد الانتهاء من قراءتي لهذا الشعر: إن هذا الشعر خلاصة تفكير أمة كاملة لا تفكير فرد. وإن مثل هذا الشاعر - ويعني السيد حيدر - لا يوجد في الأمة العربية مثله في كل وقت وحين؛ وإنما يجيء على رأس قرن أو قرنين. فالواجب عليك وعلى أدباء العراق الاتجاه نحو هذا المنجم الأدبي لتخرجوا منه لنا كتباً تكون خير متعة أدبية ولذة فنية.
ومن هنا عنيت بهذا الشعر ولعلي أخرج كتاباً فيه.
عبد الكريم الدجيل
المدرس بالثانوية العسكرية