مجلة الرسالة/العدد 446/مشكلة الرغيف. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 446/مشكلة الرغيف. . .

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 01 - 1942


وكيف لا يكون للرغيف مشكلة، والمشكلات منذ هبط الإنسان الأرض إنما تتناسل من أب واحد هو الرغيف، ومن أم واحدة هي المرأة؟

سمِّ الرغيف وسيلة حفظ الحياة، وسم المرأة وسيلة حفظ النوع؛ ثم حاول أن تنسب بشيء من التحليل الدقيق جميع ما سجل التاريخ من خصومات ومشكلات وأزمات وثورات إلى هاتين الوسيلتين، أو هاتين الغريزتين، فلن تجد في نسبة البنات إلى أبويهن غموضاً ولا مشقة.

كانت المرأة في بدء الخليقة هي حواء، وكان الرغيف في حياة الجنة هو الشجرة، وكانت الأثرة والطمع والحسد هي إبليس، وكانت الضحية لهؤلاء جميعاً هي سعادة آدم!

ثم مضى الرغيف والمرأة وإبليس يعملون في دنيا الأرض ما يشاء القدر: يصلحون هذا ويفسدون ذاك، ويعمرون هنا ويخربون هناك، ويخلقون التنافس لتنشط عناصر الحياة، ويوجدون الخلاف لتتفق عوامل الموت، وينزعون الملك من يد إلى يد، وينقلون الحكم من دولة إلى دولة، حتى قال ابن أبي الحديد بحق: (لم تسل السيوف إلا لوجه أصبح من وجه، ولقمة أسوغ من لقمة)

ولو كان الملائكة يأكلون الرغيف ويخالطون المرأة لكانوا أناساً كالناس، ولكان الملكوت الأعلى كالملكوت الأدنى، ولكن الله لم يشأ أن يجعل النور كالظلام، ولا أن تكون السماء كالأرض!

على أن الرغيف لاكتنان سر الحياة فيه كان أشد الثلاثة إيقاداً للخصومة!

كان مالك بن أنس يذكر عثمان وعلياً وطلحة والزبير فيقول: (والله ما اقتتلوا إلا على الثريد الأعفر)

وأنت إذا ذكرت في تاريخنا العدنانية والقحطانية، والقيسية واليمانية، والمهاجرين والأنصار، والهاشمية والأموية، والعباسية والعلوية، والعروبة والشعوبية، والتركية والفارسية، والهلالية والصليبية، والإسلامية والقبطية، والسعدية والعدلية، والفُلانية والعِلاَّنية، لما قلت إلا ما قال أنس بن مالك.

كذلك إذا ذكرت في تاريخ الناس الشرقية والغربية، والديمقراطية والدكتاتورية، والرأسمالية والشيوعية، لما وجدت لهذه الأسماء معنى ولا مغزى إلا ما قاله كثير بن شهاب لغلامه وقد طلب منه الطعام يوماً فقال ما عندي إلا خبز وبقل: (ويحك! وهل اقتتلت فارس والروم إلا على الخبز والبقل؟)

لذلك كله عالج الدين مشكلة الرغيف بتنظيم المعاملات، وفرض الصدقات، وكفكفة النفوس الشرهة بالقناعة والعفة والحدود؛ واتقت الدول جرائر الرغيف بالعلم والنظام والإصلاح والاستعمار؛ فإذا غلب الكفر أو طغت الأثرة؛ شبت الثورة أو نشبت الحرب. ذلك أن الفرد أو الشعب يصاب في حريته فيصبر، ويؤذي في كرامته فيستكين، ويفتن عن عقيدته فيرضى؛ ولكنه إذا حرم الرغيف انقلب ضارياً كالوحش، أو جازفاً كالبركان، لا يذر من شيء أتى عليه إلا جعله كالرميم.

هذه مصر هبة النيل وجنة الشرق وملتقى البحرين والبرين طالما عركتها الخطوب فاستكانت للقدر، واستعانت بالصبر، ومضت على حسن ظنها بالله تتربص الدوائر بالمغير، وترجو الغوائل للظالم، حتى إذا أخذت هذه الحرب الأكول تنازعها الرغيف، أصبحت كلها لساناً واحداً يتضاغى مخافة انقطاعه، فلا تجد في الأمة ولا في الحكومة إلا سائلاً عنه، أو شاكياً منه، أو باحثاً فيه، أو ساعياً له؛ وكأنما اختُزلت لغات الناس فأصبحت لا تعدو ألفاظ التخزين والتموين، والإحصاء والاستيلاء، والاستيراد والاستكثار، والمطاحن والمخابز، وما يدخل في هالة الرغيف النورية من مادة وأدب! فليت شعري إلام تأول الحال إذا تأزم الأمر، وضاقت موارد الرزق، فلا أرض تغل ما يكفي، ولا بحر يسد ما ينقص؟! تمثيل الحال في الخيال مرعب، فما بالك بتقرير الحس وتصوير الواقع؟

الأمر جد لا مساغ للبعث فيه، والخطر بادٍ فلا مناص من الاعتراف به، والتقصير ثابت فلا سبيل إلى التنصل منه. وإذا فاتنا الاستبصار للمستقبل، فلن يفوتنا الاعتبار بالحاضر. وإذا عجزت السياسة أن تحل مشكلة الرغيف فلا أزعم أن يحلها الأدب. وكل ما يستطيع الأديب أن يقوله للسياسي أن مشكلة التموين لا يحلها أن يكون لها وزارة، ولا أن تُقصر على أمورها السياسة والإدارة؛ إنما يحلها أداء الحاكم للواجب، وقضاء المحكوم للحق. وأقسم بالله جَهْدَ القَسم لو أن القائمين على شؤون الناس بسطوا لها الأيدي النظيفة، وتحروا فيها الأوجه الصالحة؛ ثم ساووا بين العامة والخاصة في القسمة، وعدلوا بين الأقوياء والضعفاء في التكليف، وأيقظوا العيون لخفايا الحيل، وأنضجوا الآراء لمشتبهات الأمور؛ ثم عاونهم الشعب بفضائله، فلا يطمع المنتج، ولا يدخر المستهلك، ولا يحتكر التاجر، ولا يشح الغني، ولا يجوع الفقير، لما كان للرغيف في مصر مشكلة، ولا كان للتموين في الحكومة وزارة. ولكن مشكلة المشكلات هي أن مكارم الأخلاق لا تُباع ولا تُعار ولا تكسب في الزمن القليل، إنما هي تهذيب الدين الصحيح وصقال الدهر الطويل.

احمد حسن الزيات