مجلة الرسالة/العدد 446/الصحيفة المثالية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 446/الصحيفة المثالية

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 01 - 1942



لرجل الصحافة (ويكهام استيد)

بقلم الأستاذ زين العابدين جمعة المحامي

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

واجب الصحافة الرشيدة أن تستوعب أمر هذه الحال المفككة الأوصال وتنعم النظر في سبب تلك الأدواء الاجتماعية وعلة هذا الضلال، ثم تتنزل على ضحاياه لتأخذ بيدهم وتأسوا جراحهم وتنهض بهم من غير أن تبتعد عنهم، أو ترتفع في شرعتها عن مستواهم. وهنا تتهيأ الفرصة للصحفي الذي تأصل في نفسه مثل أعلى وتولى زمامه قصد نبيل أن ينشئ للناس صحيفة رشيدة. وقد أخفى مثله ونبالة قصده في نفسه واختزنها لغرضه حتى لا يسخر منه الحمقى ويضعوا من كفايته قبل أن يتمكن من تحقيق لبانته.

أما عن أمر صحيفتي المثالية التي أحلم بها وأصبو إليها فسوف تطالع الناس وهي تستوعب مصادر الأدواء الاجتماعية ومواردها وتتقصى أسباب الضلال والحيرة الماثلين في الحياة الحاضرة، وهي وإن تصدر في ذلك عن إيمان مكين لا يقل شأنه على أية حال عن إيمان الصحف الحاضرة بواجبها في تقصي تلك العلل؛ إلا أنها ستضع للحق أعلاماً لا شبهة فيها فتعالج تلك الأدواء باعتبارها ضلالاً وحيرة لا أشياء أخرى تعدد حقيقتها وتتجاوز قدرها.

وسوف تتلمس الحقيقة الماثلة وراء الظواهر، وتنتهي إليها، وتظفر بها ثم تذيعها على الناس في جرأة وأمانة فلا تبقي من أمرها على شيء كاذب، ولا تصانع الشعب فيما انعقد إجماعه عليه فتحترم ما جرى عليه العرف فيه لمجرد أنه قد صار للناس عرفاً. وهي إذ تقر لذي الفضل بفضله، وتقدر للمحسن إحسانه، وتوجه التكريم إلى الوجهة التي يجب أن يتجه إليها، ولا تقر له شرعة غير شرعة الحق والعدل، ستدعو التصنع تصنعاً وتسمى الخداع خداعاً بكامل ما انطوى عليه اسمهما من لفظ ومعنى.

وسوف لا تتهيب شيئاً كائناً ما كان أو تخشى في الحق لومة لائم. وإذا هي (لا تتحرج) في معالجتها للموضوعات المؤلمة أو المزعجة، وإذا هي تسجل على نفسها خطأها إذا قدر له أن تخطيء، والزلل لا عاصم منه فالعصمة لله وحده. وإذا هي لا تقبل من ضروب الإعلان إلا ما يتحقق لها صدق عبارته ومادته وأمانة ذويه. وعندئذ يصبح قبولها للإعلان ضماناً أدبياً يصون مصالح القراء ويكفل حقوق الناشرين على السواء. وإذا هي تتأبى أن تنشر للتجار الشهادات المتعلقة بصافي مبيعاتهم وتحتقر الطواف (بعينات) البضائع لتبيعها لحساب عملائها؛ وإذا هي تتأبى على هؤلاء العملاء وقد غمرها شعور فياض بالكرامة والعزة أن تهبهم شيئاً من الامتيازات المجانية أو أية رخص أخرى؛ وإذا هي تذيع على الناس في قوائم سوداء أسماء الناشرين وشركات الإعلانات ثم تثيرها عليهم حرباً جبارة لا هوادة فيها ولا رحمة تذيع على الناس ما ينتهي إليها من خبئ أمرهم ومستور حيلهم إذا ما حاولوا في نهجها العادل وقصدها الشريف أن يعملوا ما وسعهم من جاه وثروة للقضاء عليها.

وسوف تنفق شطراً كبيراً من رأسمالها في كسب ثقة العقول الشابثة الطامحة الذين سيتعلمون عاجلاً كيف يثقون برأيها ويقنعون بقضائها ويقدرون نصحها؛ وسوف تكون صحيفة مجاهدة يلمس الناس جهادها وضاحاً من أول عمود من أعمدة (أقلام تحريرها) إلى آخر عمود فيها. وسوف لا ترتبط بأية مصالح مهما كان شأنها ما لم تتفق ومثلها الأعلى. ولا تعبأ بعداء أو خصومة مهما كان مصدرها، بل تكون إلى ذلك كله مؤمنة كل الإيمان بما انتهت إليه من منزلة لا يسع كائناً ما كان أن يتجاهلها.

وسوف يكون من ديدن صحيفتي أن تفرغ وسعها في الحصول على الأخبار، وتعني بإذاعتها مبوبة منظمة، فتضع أهم الأخبار في صفحتها الأمامية كما يجب أن تكون، وسوف لا تتحرج أن تطبع عدة أعمدة متوالية (لقصة) واحدة مسلسلة، فهي ستنظر دائماً باحتقار لتلك الحيل المضيعة للوقت من التنقل بالقراء من صفحة لأخرى عن طريق وضع بداءات (القصص) المختلف على القمة من كل عمود.

وسوف لا تخدع قراءها بإقحام عنوان لا تعدو الحاجة إليه، أو ابتكار لا غنية فيه؛ واستعمال حروف الطبع المختلفة النوع والحجم استعمالاً طيباً دقيقاً من شأنه أن يهيئ للقراء الإلمام بما سطر في الصحيفة من غير أن يضيع عليهم شيئاً من الموضوع.

وسوف تتقدم صحيفتي (بالأخبار) الصالحة للنشر في وضوح تام وصراحة مطلقة، سواء أنفقت هذه الأخبار مع (سياستها) أو لم تتفق، فستكون سياستها بحيث لا تعنى إلا بالحقائق وحدها فلا تخفف من أمر الأخبار أو تبالغ فيها، ولا تعلق عليها أو تؤولها لتتفق مع (سياستها)

وسوف تفسر الشك لصالح النشر في الحالات التي يتردد الصحفي فيها، فيرى أنه قد كون من صواب الرأي أن يمسك عن النشر.

وسوف لا تؤيد أية حكومة بالغة من السلطان والسطوة ما بلغت، أو تزكي أي سياسي كائناً من كان إلا لما تقتنع بصدقه من الأسباب العامة التي لا تخفيها عن الجماهير.

وسوف تكون خادمة وحده، ولصالح الشعب فقط، سوف تعترف بواجب الرعية نحو الحكومة، وتقر ولاء الشعب لأولياء أموره؛ وسوف لا تقود الشعب قيادة عمياء من طريق الزلفى إليه، فإذا هي تعامل جمهوراً وهمياً زاعمة أن القراء لا قبل لهم باحتمال القول الصريح والحقائق المرة؛ إذ من واجب الخادم الأمين أن يقول الحق لسيده.

وسوف تكون صحيفتي صحيفة قومية، لا صحيفة تعني بالروابط الجنسية والفوارق العنصرية؛ وسوف تطبع بطابع عام من سياسة الرجال الأحرار لا بطابع خاص بحزب الأحرار.

وسوف تجاهد في سبيل السلام الحقيقي من غير أن تنشده على ضوء النظريات السلمية التي تتجاوز طبائع الناس وطبيعة الحياة. فتكتشف الستار عن الأمور الجوهرية وتفصح عن المسائل التي تقتضيها ضرورة الحياة، تلك المسائل التي يكون من حق الأمم والرجال أن يحاربوا من أجلها حرباً لها ما يبررها ويزكيها، أو يموتوا في سبيلها موتاً شريفاً نبيلاً إن ضاقت بهم السبل، ولم يتيسر لهم طريق آخر يدعمون به حجتهم من الاحتفاظ بمقومات حياتهم؛ وسوف لا تقع صحيفتي أبداً في ذلك الخطأ الفاجع فيخيل لها أن اجتناب الاصطدام بين الأمم، وأن التوفيق بين المذاهب المتعارضة للشعوب المختلفة أمر ميسور، وهو خطأ اقترفوه عندما حسبوا أن اجتناب الحرب أمر ممكن ومرغوب فيه لذاته.

وسوف تكافح صحيفتي بكل ما وسعها من قوة ذلك النهج العدائي الخرق الماثل فيما يثور بين الأمم من جدل. ولكنها إلى ذلك ستذكر دائماً أن قلوب الرجال سوف لا تنصرف عن الحرب وما تنطوي عليه من روح الإقدام والمخاطرة انصرافاً أبدياً، ما لم يقدر للسلام أن يطبع ما يكرسون له أنفسهم ويضحون في سبيله بأرواحهم بطابع يوجههم إلى أشياء أجل من الحرب شأناً وأنبل منها غاية.

وسوف تعمل صحيفتي على أن تثبت قواعد المودة بين الأمم، وتدأب على توثيق العلائق بين الشعوب، لا لبغية اجتناب الحرب فحسب، بل لتستعين بذلك في الدفاع عن الحرية الشخصية والحقوق الإنسانية، ولتشق طريقها إلى إنشاء التعاون الدولي. وسوف لا يقل نصيبها في ذلك عن تصيبها فيما ستضطلع به من تجنيد جميع طبقات الشعب فيما يتصل بالشئون القومية والاجتماعية، بغية النهوض بما يتطلبه صرح الجماعة من إنشاء وتجديد.

فهل يتاح لصحيفة كهذه، احكم صنعها من الناحية الفنية، وظفرت بما طمعت فيه من الثقة والتقدير، وسارعت بإذاعة الأخبار بما طمعت فيه من الثقة والتقدير، وسارعت بإذاعة الأخبار في إبانة وصدق، ووجهت ضرباتها القوية بحكمة وحزم غير أبهة بسلطان أو حافلة بمال، ثم تهيأ لها حظ موفور من القوة والنشاط ومجالدة الأعداء، أقول: هل يتيسر لصحيفة كهذه أن تطمع في انتشار واسع يجعلها تتحكم - ولا أقول تلتمس - في دخل كاف من أجور الإعلانان يهيئ لها موازنة ميزانيتها؟!

أغلب ظني أنه سوف يتاح لها ذلك كله متى ما توفر لها من الثروة في أوائل نشأتها (ما يثبت أقدامها) في ميدان الاختبار، إلى أن يتهيأ لها أن تكسب ثقة شعبها.

وقد تتهيأ الفرصة يوماً لرجل عبقري توفرت فيه مؤهلاته وكفايته ان يخرج للناس صحيفة من هذا القبيل. وآنئذ سوف نرى من نغمرهم الآن بمجاملاتنا من أصحاب الإعلان ومن المساهمين في الصحيفة الذين لا يأبهون إلا لما يخلص إلى جيوبهم من ربح ومن يتحرون بالتداول الصحفي، ولو كان تداولاً زائفاً مصطنعاً.

وقد سقط في أيديهم وتملكهم العجب مما تهيأ للصحفي المثالي من نجاح عظيم، وإلى أن يتاح لي تحقيق هذه الآمال المنشودة ستظل صحيفتي المثالية وهي في مملكة المثل الأعلى من عالم الخيال. وستظل الصحافة البريطانية - إذا قدر لها حقاً ألا تستعبد للحكام المستبدين - وهي تسير متثاقلة على نفسها في طريقها الذي تسلطه راحلة حيث لا تنفك بعيدة عن قمة لمجد الصحفي التي تتوق لها نفسي ويخفق بحبها قلب كل صحفي أصيل.

(المنصورة) زين العابدين جمعة