مجلة الرسالة/العدد 445/ثقافة فلكية
مجلة الرسالة/العدد 445/ثقافة فلكية
عمر أمنا الأرض
للأستاذ خليل السالم
يجد الباحث البصير أن تاريخ أي علم من العلوم مملوء باللمعات الفنية والخطرات الثاقبة والإشراقات الذهنية والفكر الدقيقة التي تشبه الوحي ينزل من الملأ الأعلى على العالم أو المخترع أو المكتشف. وإن الباحث ليقف إزاء لحظات التجلي التي تمر بالعالم وقفة كلها دهشة وروعة وإعجاب ندر أن تتسنى له وهو يتفرس في محاسن التمثال الخالد، أو يستشف مواطن الإبداع في القصيدة الرائعة، أو يغيب وعيه في الاستماع إلى قطعة موسيقية ساحرة
أنا لا أقول هذا اعتباطاً؛ وإنما أقوله عن اعتقاد جازم مكنه في نفسي شعور من يوثق بأقوالهم وشعوري أنا الداخلي الصادق. تأخذ الاكتشافات العلمية بعضها برقاب بعض؛ فاكتشاف حقيقة بعينها يقود بقليل من التدبر والوعي إلى اكتشاف أو وضوح حقيقة أخرى لا تمت إلى الأولى بصلة سوى أن اكتشاف الأولى سبب في اكتشاف الثانية. فالروعة إذا كامنة في نقطة الاتصال أو في الطريقة التي تم بها اكتشاف تلك النقطة. وليسمح لي القارئ أن أدرس معه في هذا الفصل القصير مشكلة عمر الأرض. فلا شك أنه رأى - أو سيرى - الأرقام الكبيرة التي يزعم العلماء أنها عمر هذه الحسناء التي تنعم كل عام بالربيع الطلق والحيوية النابضة مختلف أعضائها، والتي لا تبدي من شيبها دليلاً على صدق أقوال العلماء. ولعل حيرة القارئ تزول بعض الشيء إذا عرف الطرق العبقرية التي تم بها انتزاع هذا العمر الطويل من فم الحسناء نفسها، ولعله يفهم أيضاً معنى تلك الإشراقات الذهنية التي أشرت إليها أولاً
سأل الناس منذ القدم عن عمر الإنسان على الأرض أو عمر الأرض في الكون، فلم يجدوا جواباً شافياً. واحتال العلماء على الأرض لعلها تعترف بعمرها، ولكنها - كالعادة في بنات جنسها - أبت إلا كتماناً وإصراراً على الكتمان حتى قيض الله لهالي (عالم فلكي إنجليزي) في لحظة من لحظات الإلهام أن يستنطق المحيطات فتجيبه عن عمر الأرض. من كان يظن - قبل أن يقول هالي - أن ملوحة ماء البحر تكشف سر الأرض؟ وهل يرى القارئ بسهولة العلاقة بين عمر الأرض وملوحة المحيط؟. . . إليك ذلك:
يتبخر الماء من المحيط دائماً، ثم يعود إلى المحيط مع الأنهار الجارية. فبقليل من التساهل نستطيع أن نفرض أن مقدار الماء في المحيط ثابت ما دامت العودة إلى المحيط تتم بنفس السرعة التي يتبخر بها الماء؛ لا يهمنا هذا بقدر ما يهمنا أن نعلم أن ملوحة المحيط تزيد زيادة مطردة أثناء هذه العملية المستمرة. فالماء الذي يتبخر كما لا يخفي مقطر خال من الأملاح. أما الماء الذي تحمله الأنهار، فيعود وقد ذاب فيه قدر ضئيل من الأملاح. فإذا عرفنا معدل الزيادة السنوية لملوحة ماء المحيط، استطعنا أن نعين بكثير من الدقة عدد السنين التي انقضت على استمرار هذه الظاهرة الطبيعية؛ وهكذا كان، فإن الإحصاءات والدراسات الحديثة لمعدل الزيادة السنوية لملوحة ماء المحيط، استطعنا أن نعين بكثير من الدقة عدد السنين التي انقضت على استمرار هذه الظاهرة الطبيعية؛ وهكذا كان، فإن الإحصاءات والدراسات الحديثة لمعدل الزيادة ومقدار الملوحة الحالية تبين لنا كما يقول جينز المحيطات تعود في عمرها إلى مئات من ملايين السنين
لم يرق للعلماء هذا الاعتراف ولن يخفف من غلواء جدلهم، فقد تكون الأرض قد كذبت عليهم وغررت بهم، وكان أن اتسعت شقة الخلاف بين البيولوجيين والجيولوجيين من جهة، وعلماء الطبيعة من جهة أخرى: أولئك يؤيدون وهؤلاء يكذبون. وحجة أولئك أن تلك المخلوقات التي تعني بها الأرض وترعاها لا تبلغ هذا الكمال في نشوئها إلا في غضون أجل طويل سحيق في القدم. وحجة الآخرين أن الأرض لم تهرم بعد، وهي تبرد من نفسها وفي كل عام تفقد من حرارتها وتخسر من نشاطها وحيويتها؛ وإذا كان ما يقوله خصومهم صحيحاً فيجب أن تكون الأرض الآن جثة هامدة باردة الأطراف لا يعيش عليها حيوان ولا ينبت نبات. واحتدم الجدل واشتد النقاش، والأرض صامتة لا تعي، لاهية عما يبحثون، نشيطة في رياضتها وطفرها حول أمها الرءوم (الشمس) ولكن جفرز (عالم إنجليزي) رفع عينيه نحو السماء لعل عندها بعض الخبر، ولحسن حظه وقوة عبقريته ونفاذ فكرته وجد عند شقيق الأرض - عطارد - نبأ مهماً. ماذا لاحظ؟ لاحظ أن مدار عطارد يكاد يقرب من الدائرة، وانتقاله من الشكل الإهليلجي إلى ما يقرب من الشكل الدائري تم بفعل المواد المنتشرة في الفضاء التي تناثرت عقيب انفصال السيارات عن السديم الشمسي، فقد كان عطارد لقربه من الشمس يصطدم بتلك المواد. فالمدة التي انقضت حتى بلغت المدة (0. 2) هي عين المدة التي انقضت حتى فنت تلك المواد. فلو بقيت لتمت الاستدارة، ولو فنت قبل أن تصل المدة مقدارها الحالي لما وصلته حتماً. وبموجب الحساب الدينامي وجد جفرز أن عمر الأرض أو عمر النظام الشمسي على الإطلاق ينحصر بين (1000 - 10000) مليون من السنين
لم يتأكد العلماء أيضاً من شهادة عطارد، فعادوا ثانية إلى الأرض يقرءون في وجهها أخاديد الكبر ويجسون نبضها ويفحصون قلبها الكبير، وكان أن قضى الله أمراً كان مفعولاً على يد العالم الطلعة رسل (عالم فلكي أميركي) فقد وجد هذا عمر الأرض مسطوراً في مناجم الراديوم وغيره من العناصر المشعة. وفعل الإشعاع هذا حجة دامغة ضد الذين قالوا بفتوة الأرض. فالأرض لا تبرد من نفسها كما كان يظن. ليس هذا فحسب، وإنما هي تسخن بفعل هذا الإشعاع. فصار علماء الطبيعة مستعدين أن يقدروا للأرض عمراً لم يفرضه خصومهم من قبل
ما هي نقطة الاتصال بين إشعاع الراديوم وعمر الأرض؟ يعلم كل مثقف أن عناصر الراديوم والنوريوم المشعة تتحول من عناصر ثقيلة إلى أخرى تكون أعدادها الذرية أقل من أعداد الأولى. ويجيء الرصاص مسكا لختام هذه السلسلة
ولحسن الحظ وجد أن الرصاص المتكون بفعل الإشعاع يختلف عن الرصاص العادي في أن وزن الأول الذري (206) بينما الوزن الذري للثاني (207. 18)، ومن هنا سهل التفريق بين النوعين. وفي مناجم الراديوم لا تجد اليورانيوم دون أن تجد معه الرصاص الذي تكون من إشعاع اليوزانيوم. ولما كان معدل التحول من اليورانيوم إلى الرصاص وهو (1 %) كل (66) مليوناً من السنين معروفاً أصبح من السهل جداً أن نعرف عمر الأرض بمعرفة النسبة بين الرصاص واليورانيوم في منجم واحد. وقد قدر عمر النظام الشمسي بما لا يقل عن (1300) مليون من السنين. وهو كما يلاحظ القارئ يتفق تمام الاتفاق مع ما قدره جفرز من قبل
وجاءت من السماء رسائل تؤيد هذا التاريخ حملتها الشهب والنيازك التي عجز الهواء المحيط بالكرة الأرضية أن يحرقها تماماً فسقطت جلاميد كبيرة على الأرض وأحدثا أغواراً عميقة كحفرة أرزونا مثلاً، وفي كثير من هذه الجلاميد يلتقي عنصر الراديوم ونفايته وقد وجد أنه ليس بين الحجارة التي امتحنت ما زاد عمره على (2900) مليون من السنين وما قل عن السن التي شهدت بها الصخور الأرضية
وكما أن لكل بداية نهاية فلا بد للأرض أن تهرم وتموت، متى؟ هذا بيد الله، فربما لا يزيد هذا الزمن الذي يحير عقولنا ويشعرنا بعظمة الكون عن أن يكون لحظة قصيرة عابرة في مخيلة المهندس الأكبر وربما يكون المستقبل أرحب وأوسع بكثير من الماضي
وفي نفس الوقت الذي يكون القارئ لنفسه رأياً في هذه الأرقام الضخمة، أرى أن أذكره بتلك اللمعات الفنية والإشراقات الذهنية التي تمر بذهن العالم، وأن أشير عليه أيضاً بالتزود ما استطاع من الثقافة العملية. ففي الأخيرة لذة وطرافة وقصص رائع لا تقل عما يلقى في غير العلم من ميادين الثقافة الواسعة
(تجهيز السلط)
خليل السالم
(ب. ع.) من الدرجة الأولى في الرياضيات