مجلة الرسالة/العدد 444/القصص
مجلة الرسالة/العدد 444/القصص
ليلة عيد الميلاد
للكاتب الإنجليزي (نيودورجو)
بقلم الأستاذ كامل يوسف
- 1 -
طلب الناس هدنة من أحزانهم ليلة 25 ديسمبر سنة 1917 وراحوا يحيون ذكرى ميلاد (السيد المسيح)، فأنيرت الثريات الملونة، وأوقدت شموع الميلاد في كل دار، وتدفق الشراب في أجواف الناس، حتى أصبحوا لا يشعرون إن كانوا يحملون فوق أكتافهم رؤوساً أم أثقالاً. وامتلأت البطون بألذ وأفخر المآكل، حتى خيل إليهم إنها تكاد تنفجر من فرط ما استقر فيها، وتلمس كلٍ المتع فمن مخاصر إلى مراقص إلى مناج إلى مختلس للقبلات. كان الناس على هذه الحالة من المرح والسرور، وهم يقولون في أنفسهم: (غداً سيكون الطوفان) فستحمل إليهم الأنباء ويلات الحرب التي نزلت بذويهم وفلذات أكبادهم، وربما حملت إليهم هذه الأنباء، وأشفق ذوو الأمر من تبليغها حرمة لهذا العيد المقدس.
في هذه الليلة تنبه شيطان من شياطين العالم الآخر على حركة مرح غير عادية في الكوكب الأرضي، واستغرب صدور ذلك من سكان الأرض وقال في نفسه: (لعلهم لا يشعرون بما يجري من ويلات!) ولم يدر سبب ذلك فلجأ إلى زميل من زملائه يعبر له عن عجزه عن إدراك السبب، وكان بجوارهما مفستو فليس كبير الأبالسة ينصت إليهما فقال لهما في ابتسامة ساخرة: ألا تعلمون سر هذا المرح؟ اليوم ذكرى ميلاد رب السلام، فما أغبى الإنسان! إنه ينسى مصائب الأجيال والأزمان ممثلة في الحرب الأوربية الآن ويهلل فرحاً بهذا العيد!
فلما سمع الشطيان ذلك قال أحدهما للآخر: ما دام الأمر كذلك فدعنا نمزح ونضحك من الناس قليلاً هذه الليلة.
فأجابه الآخر: وأين نضحك وهنا مجال عملنا في الضحك والاستهزاء، وأشار بيده إلى جهنم. فقال الأول: حقاً إنه لمجال مُله مسل، وإنه لا يسرني شيء أكثر من ذلك الرج الذي يقال له فيدياس فقد قيل عنه إنه أخرج أحسن دمية عرفها التاريخ، ومن ذلك الرجل الذي يقال له فيدياس فقد قيل عنه إنه أخرج أحسن دمية عرفها التاريخ، ومن ذلك الرجل الذي يقال له (دافتشي)، ومن ذلك الرجل العابس الذي كان يكره أمه كرهاً عميقاً وانفصل عنها ثم جمعتها المصادفة في موطننا العزيز أعني به (شوبنهور). ليس يضحكني أكثر من هذه الشخصيات الغربية التي تبددت في شخص امرأة جميلة، رآها فيدياس فقال إنها أجمل مما صاغته يده؛ ورآها دافتشي فاعترف بحقارة فنه تجاهها؛ ورآها الرجل العابس شوبنهور فأقر بخطأ رأيه في المرأة وعادت العلاقات بسببها مع أمه، تلك المرأة المتحذلقة، ورآها لويس الرابع عشر فأمر مدام ببادور أن تكون خادمتها، واستحت كيلوبطرة أن تظهر أمامها لئلا تفقد شهرتها التاريخية.
وكان هذا الشيطان مع حداثة عهده قديراً مبدعاً في مخاطراته، وساخراً بارعاً في أفعاله؛ وكان زميله ينصت إليه بشوق ولذة، فقال له وهو معجب: هيه يا بعلزبول! فاستمر الأول يقول: تصور هذا الجمع من المجانين تظهر في وسطهم حورية! لقد كنت أتودد إلى كل واحد منهم على حدة حتى أدعه يثق بأنها أصبحت أسيرة هواه، فإذا استقر هذا الرأي في ذهنه تحولت عنه إلى آخر، ومثلت هذا الدور نفسه مع كل واحد، وبذلك استفززت غيرتهم جميعاً فنشب بينهم الخصام. وسمعت شوبنهور يقول بعد ما قاسى الخيبة: (محال أن أنزل عن رأي الذي ذكرته في المرأة. إنها الخادعة الماكرة) وسمعته ينادي نيتشه: تعال يا بني وهات معك سوطك لكي أتفاهم مع هذه المرأة المغرية) فقد ضحكت كثيراً من حركات هذا الفيلسوف العصبية. وددت لو صورت نفسي على مثال كلبه لكي أمزح معه، ولكني أشفقت على أعصابه. لقد كان يوماً جميلاً حقاً ظللت فيه أبحث عنك لكي تشهد هذا الفصل المضحك فلم أجدك، فأين كنت؟
- كنت مشغولاً بدعاية من نوع دعايتك. فقد هيأت لنيرون أن يشمل النار في جهنم ليزيد في لذته، فإذا استعد لذلك ظهرتُ كالمارد فاستخزى وسكن جنونه. ولكني في الحق سئمت هذا المزاج وتاقت نفسي إلى شيء جديد.
فقال الشيطان الأول: وأنا كذلك أريد تجديداً.
ثم قال فرِحاً كمن طرأ عليه خاطر جميل: دعنا نمزج ونسخر مع من في الأرض الليلة؟ - وهو كذلك. إنها لفكرة حسنة. دعنا نضحك من سخفهم هذه الليلة.
- 2 -
في مساء تلك الليلة اجتمعت الجموع في كنيسة القديس بولس. وكانت الجموع خاشعة، وقد اكتظت الكنيسة بالمصلين، كل قد جاء يدعو الله أن يحفظ أهله من شرور هذه الحرب الطاحنة؛ وكانت صلاة القداس يعلوها وقار وجلال لم يشهد من قبل، وكانت قلوب المصلين تتجه إلى الذات العلية مخلصة صادقة في دعواتها وصلواتها؛ وظل هذا الجلال والصمت لا يقطعهما غير صوت الكاهن وأغاني الشمامسة ونغمات الأرغن حتى أتى دور الدعوات، فأخذ الكاهن يتضرع إلى المولى عز وجل أن يزيل الكروب، وكان يجد من مساعدة الشعب له ما يجعلهم يرددون بصوت يرن صداه في قبة الكنيسة ومن أعماق القلوب (آمين يا رب. آمين يا رب) واستمر الكاهن في توسله يقول: (وامنع الحروب والغلاء والفناء وسيف الأعداء)، وقد توجهت القلوب بجملتها إلى الذات الإلهية بإخلاص أن يكشف عن الإنسان ذلك الكابوس الثقيل الذي لم يقاس أفظع منه. ومن منهم لا يتوجه بإخلاص إلى الله بهذه الضراعة وكلهم منكوب إما في نسله أو في ذوي قرباه؟ لذلك كانت (آمين يا رب) تخرج من القلوب بحرارة صاعدة إلى عرش الملكوت في ذلة الضعيف يطلب صنيعاً من سيده.
في هذه اللحظة الرهيبة كان المستر باترمان يردد هذه الدعوات وهو يقول في دخيلة نفسه: (يا رب لا تسمح بإجابة هذه الضراعة لأن فيها خرابي بل خراب أمتنا العزيزة)، وكان الشيطان الكبير يرافق زميله الصغير في هذه الحفلة المقدسة. فلما سمعا المستر باترمان اقتربا منه وسمعها أمنيته فضحكا من هذه المهزلة الإنسانية الكبيرة وأرادا أن يعبثا بالمستر باترمان فرغب الشيطان الكبير أن يهوي الرجل على الأرض، وكان عجوزاً في السادسة والستين من عمره لا يقوى على الوقوف طويلاً أثناء القداس؛ لذلك كان يستند على عصاه الأبنوسية، وفي فترات السكون الشامل بين الضراعة والأخرى، جاء الشيطان الكبير فزحزح العصا. فسقطت من يد الشيخ العجوز وأحدثت ضجة كبرى لفتت أنظار المصلين، وانكفأ الشيخ على وجهه وكاد يسقط لولا أن تمالك نفسه، ولما كان لا يقدر على الوقوف بدون العصا، انحنى ليأتي بها، ولكنه ما كاد يقبض عليها حتى خطر للشيطان الصغير أن يبعث به أيضاً فجذب العصا منه ثم تركها تهوي على الأرض فأحدثت مثل الضجة الأولى في فترة السكون، ولكن المستر باترمان أحكم في المرة الثانية القبض عليها ووقف مستنداً إليها وهو يشعر بشيء من وخز الضمير علله بأنه نتيجة أمنياته التي تخالف أمنيات المصلين.
والمستر باترمان من أغنياء الإنجليز وصاحب مصانع الذخيرة والأطعمة المحفوظة، وهو مع ذلك من أقطاب السياسة وله نفوذ كبير في إدارة دفنها. لذلك لا تستغرب منه هذه الأمنيات السيئة، إذ في إبطال الحرب ضياع ثروته التي جعلها في مواد سيكون مصيرها البوار. وهو ككل رجال السياسة يعيدون عن توخي الصالح العام، يوقعون الأمم في شباك الحروب للغنم الذي يعود عليهم أو لخطر وهمي في أذهانهم، ويدفعون بملايين من أرواح البشر في سبيل هذه الغايات المجرمة. وكان من سوء حظ البشرية أن نعتقد في رجالها القداسة، وكان المستر باترمان ككل سياسي يبرر موقفه المخزي بشتى العلل والنيات. لذلك كان يجيب على هذه الضراعات التي كانت تخرج من قلوب المصلين ومن صميم الإنسانية جمعاء، بالتوسل للذات الإلهية إلا يجبها لماذا؟ لأن في إجابتها وانتقاء الحروب ضياعاً لثروة أمة ممثلة في ثروته تصبح بعدها في ذل الإفلاس والانحطاط المالي.
انتهت الصلاة وخرج باترمان وهو ما زال يشعر بوخز ضميره، وقصد النادي وخرج وراءه الشيطانان، وقال أكبرهما: لنتبعه حيثما يذهب، ولنجعل منه متعة لأنفسنا الليلة. (فما كاد يدخل ردهة النادي حتى سمع أصواتاً عالية كان أصحابها في مناقشة حادة؛ فلما دخل القاعة وجد أعضاء النادي في صخب وجدل فسأل صديقه المستر كونراد عن سر هذا الجدل، فعلم منه أنهم يجادلون في محاصرة بلاد العدو. وهل هذا العمل يكلف الحلفاء والإنجليز خاصة أكثر مما يربحون، ولكن باترمان لم يكن صافي الذهن خلي البال حتى يدلي برأيه، غير أنه سأل صديقه:
- وهل من جديد في الجو السياسي؟
فأجابه: لا شيء غير ما نقلته إلينا التلغرافات الآن من أن البابا يناشد الدول المتحاربة وخاصة الحلفاء أن يكفوا عن القتال
وقد وجد باترمان مجالاً يخرج فيه عن صمته الذي لزمه منذ كان في الكنيسة فانفجر صائحاً: - لقد ضايقنا هذا البابا بأمنياته، فماذا يهمه من الحرب؟ نحن الذين ضحينا بأبنائنا وأموالنا لنا الخيار في الكف عن الحرب أو الاستمرار فيها؛ أما هو فماذا يهمه من الخسائر؟ لقد انزوى هو ورجاله في معقل الفاتيكان ثم يريد أن يملي إرادته علينا. إن خير جواب على هذا النداء أن تقابله بما قوبلت به نداءاته الأخرى بالإعراض والإغفال.
فرد عليه صديقه المستر كونراد:
- أنت محق يا عزيزي باترمان. إن البابا لم تحترق يده في النار ليعرف ما هي النار. لذلك لا يمكنه أن يحكم على نزاعاتنا؛ وهو لم يغامر في هذا المديان؛ وهو وجنوده يسمنون من أكل أجود اللحوم وشرب أفخر الأنبذة. دع غواصة ألمانية تصيب أربعة منهم وهو يتنزهون في قارب - أقول أربعة فقط لا ملايين كما فجعنا نحن - وعندئذ يحق لنا الأخذ برأيه ونقول إنه جرب الأسى والحزن مثلنا، وعندئذ لا يتمالك أن يصب غضبه وغضب الإله الذي ينوب عنه على هؤلاء السفلة الألمان.
وكانت هذه الإجابة قد أرضت سياسينا فكسرت من حدة غضبه، واطمأنت ثائرة نفسه فقال - هو كذلك -: أوعز إلى الصحف المحافظة أن تستخف بنداء البابا، ولندع الصحف الكنائسية تنادي بهذا الحلم الخيالي الذي يبدو جميلاً لأربابها أعني به الصلح والسلام.
- وهو كذلك
وأنصرف باترمان وخرج من النادي بعد أن وقف على تطورات الحالة السياسية وقصد فندق سيسل، وكان الفندق غاصاً بالناس تلك الليلة يحيون فيه عيد الميلاد، ودخل المستر باترمان الفندق وخطا في ردهته الطويلة فلقت نظره في نهايتها ما حرك اهتمامه، فدرج نحو هذا الشيء وهو يقول في نفسه: (هل بعثت؟ محال أن يكون ذلك، فلسنا في عصر المعجزات، إذن لابد أن تكون قريبتها)، وكلما اقترب ازداد يقيناً، لأن ما يراه أمام ناظريه الآن ينبئ عن صلة القربى. فأمامه سيدتان كبراهما ذات جمال رائع وقامة كغصن البان، وعيون هي موارد السحر، وشعر هو الذهب الوهاج، وسنٌّ في حدود الثلاثين؛ والأخرى لا تقل عنها حسناً، ولكنها أقصر قامة وأقل فتنة. وقد اقترب منهما باترمان وهو واثق من هذه القربى، وشغل باله بها فلم يع شيئاً غيرها. ولما وقع نظره عليها شعر بتجاوب العاطفة في نفس تلك السيدة؛ فقد بدا على ثغرها ابتسامة جميلة فهم منها الشيخ معنى الرضا. ولما اقترب منهما رفع قبعته وانحنى وحياهما: (مساء الخير يا سيداتي! عيد ميلاد سعيد)
فأحنت الكبيرة رأسها قليلاً بكبرياء، وأجابت هي وشقيقتها الصغيرة: (مساء الخير يا سيدي، عيد ميلاد سعيد). ولم تكن المستر باترمان يعرفهما من قبل، ولكن دفعه إلى هذه التحية وجه الشبه الذي رآه والذي أراد تحقيقه. لذلك لم يلبث أن فاجأهما بهذا السؤال: (أليس سيدتاي من أسرة سوانسون) فأجابت الكبرى في رفق وعلى ثغرها ابتسامة مغرية: (كلا يا سيدي، بل نحن من أسرة كلارك). وكان ثغر الصغيرة يفتر عن ابتسامة خفيفة، ولكن الشيخ لم يقنعه هذا الرد. وذهب إلى أنه لابد أن يكون هناك صلة قديمة بين أسرة سوانسون وكلارك، ولكنه لا يمكنه تحقيق ذلك وهو في طريق كل إنسان يدخل أو يخرج من الفندق. لذلك دعاهما للجلوس معه فلم يرفضا، كانتا فرحتين طروبتين، وقصدا مكاناً قصياً بعيداً عن ضوضاء الأحاديث وصخب الراقصين، ودعاهما إلى الشراب فلم يرفضا، وكانت علامات السرور بادية على محياهما، كما كان الشيخ مسروراً لهذه العلاقة التي ذكرته بالماضي. . . وكانوا كلما شربوا كثر ضحكهم وعلا صوتهم، وكان الرائي يشاهد خصلتين من الشعر على فوديهما كأنهما قرنان، ولم يفطن لذلك الشيخ الذي أعماه السرور، وقد حق للشيخ أن يسر، فقد وجد شبهاً قوياً بين السيدة الكبرى وبين زوجته، كان قد احب في شبابه فتاة من طبقة النبلاء كانت آية الجمال في عصرها، ثم تزوجها بعد جهد جهيد ولم تعش معه إلا عاماً ونصف عام ثم ماتت على أثر ولادتها الأولى. فقطع على نفسه عهداً منذ ذلك الحين أن يحفظ لها المودة ما دام حياً، وقد بر بوعده، وصرف عنايته إلى ابنه (جيمس) وغمره بحبه، وجعل منه الذكرى الوحيدة لتلك الحبيبة الراحلة. . . لذلك كان قرة عينه وحبة قلبه، لا يألو جهداً في العناية بأمره - ولو كلفه ذلك كل ثروته - إخلاصاً لتلك الفتاة التي فتح لها قلبه لأول مرة. . . وكان لجيمس تلك الطلعة السمحة التي كانت لوالدته، وتلك النوتة التي كانت في متوسط ذقنها، فهو صورة منها. . . كان الشيخ المهدم يرى فيها مطلع السحر. . . فلما وقع نظره في تلك الليلة على هاتين السيدتين، انتعشت روحه، لأن حبيبته تعود للحياة ثانية. . . ولشد ما جذبته تلك الطلعة نحوها لتصور الماضي البعيد المملوء بالأحلام السعيدة. . . ذكر كيف ظفر بحبيبته وتذوق السعادة لأول مرة في حياته! ولكن الشقاء كان يسخر من هذه السعادة فلم يلبث أن انتزعها منه. . . هذا الماضي البعيد يعود الآن، وهو الذي جعله ينسى الحالة السياسية وما فيها من تطورات ومفاجآت. . . كانت تشغل باله على الدوام، وخاصة تلك الليلة. لقد اعتقد تلك الليلة بالبعث، وكان يقول في نفسه: لعلها تجهل في حاضرها شخصيتها السابقة. . . وقد كذب هذا الوهم ما رآه من ميلها من أول نظرة إليه. . . فهي هي إذن، وسذاجتها في حديثها هي سذاجة حبيبته التي ورثها عنها ابنه (جيمس) معبوده الثاني بعد أمه، وكان يود تلك اللحظة لو يحضر جيمس ليشاهد طلعة أمه - أو على الأقل - ليشاهد طلعة نسخة منها، ولكن (جيمس) في ميادين الحرب، قد تملكه النزعة الإمبراطورية فأبى أن يخلد إلى السكينة في الوقت الذي تصوب سهام العدو إلى هدم إمبراطورية أجداده، فتطوع في الحرب برغم كل العراقيل التي وضعها والده في سبيله. . . ولكم كان يسر الشيخ إذا علم أن الفرقة التي ينتسب إليها ابنه قد حازت انتصاراً على العدو، وكان يعتقد ان الظفر قد تم بفضل حذق ابنه، وكان يكثر من ترديد ظفر الفرقة التي يحارب فيها ابنه أمام أصدقائه، وكان يقول لهم: وإلى حذق ابني يرجع الفضل. . . وكان عند التحاق ابنه بالجيش يخشى عليه عادية الردى، ولكن بعد أن تدبر تاريخ حياته وما فيه من نكبات وفواجع، استكثر على المقادير أن تختمها بفقده، وأصبح يميل إلى اعتقاد أن المقادير رحيمة، تكفر عما أصابته بهذه الحسنة، وقد أغراه بهذا الوهم ما كان يصله من حين وآخر من سلامة ابنه من كل الأخطار. . .!
في هذه اللحظة القدسية التي وجد فيها الشيخ نفسه بجوار حبيبته نسى العالم وما فيه من شرور، وشعر بسمو روجه وبلذة قدسية، كلها قد هبطت عليه من السماء. . . وكان يزيد هذا الشعور الروحي في داخله كلما فتح عينه فرأى صورة زوجته وحبيبته، أو هي بذاتها. . . ولم يكن هذا الشعور من فعل الخمر، فإنه لم يكرع غير ثلاثة أكواب من الويسكي لم تحدث له أي جموح في الخيال، بل هي على العكس قد زادت في انتباهه وذهبت بالغضب الذي كابده طول هذا اليوم.
وكان حديث الشيخ عادياً، أو قل كان مقطوعاُ، وهل في مثل هذه اللحظة يجري الحديث؟. . . وكان معظم ما قام به لا يخرج عن تعبيره عن غبطته وسروره وسعادته بتلك اللقيا، وكانت الفتاتان لا تكلفان أنفسهما أكثر من الابتسامة رداً على تمنياته. وقد أحدث سروره نوعاً من الذهول جعله في عزلة عما يحيط به؛ حتى إنه لم يشعر بوجود خادم الفندق بجواره يقدم إليه شيئاً في صحن، حتى نبهته كبرى الفتاتين، فالتفت إلى الوراء فوجد الخادم، فقدم إليه برقية وقرأ على الغلاف: في خدمة صاحب الجلالة الملك. . . ففهم أنها برقية حكومية، وما كاد يفض الغلاف ويقرأ البرقية حتى أفاق من نشوته، وأظلمت الدنيا في وجهه، وأغمى عليه. . . فتناولت الفتاة الكبرى البرقية وقرأنها؛ فإذا فيها:
(الملازم الأول (جيمس باترمان) أصابته رصاصة قضت عليه. . .!)
(القيادة العامة)
وبعد أن عاد إلى حسه سمع صوتاً يردد: (يا رب، لا تسمح بإجابة هذه الضراعة، لأن فيها خرابي، بل خراب أمتنا العزيزة!) وتلا ذلك ضحكات ملئها السخرية والتهكم. . . ففتح عينه، فلم يجد مصدر هذا الصوت، ولم يجد جليستيه. . . ولكنه شعر بحفيف أشبه بحفيف الأجنحة أحدث تياراً شعر به!
كامل يوسف